أؤكد بداية ان اول وأفظع منتهك لحقوق الانسان في العراق هو صدام حسين والكادر البعثي الذي يحيط به. وأنا اتحدث كفرد معبّراً عن 22 مليون شخص داخل العراق وخارجه اصبحوا معتادين، بعد 31 سنة من اضطهاد لا يوصف، على ان يعانوا بصمت. لقد سئمنا جميعاً الصمت والخوف. وسأطرح أربع نقاط: أولاً، ترجع الحالة المشينة لحقوق الانسان داخل العراق الى وقت طويل يسبق فرض العقوبات في 1990. ثانياً، فرضت العقوبات، التي طبقت بموجب المادة 41 من ميثاق الاممالمتحدة ابتداءً من آب اغسطس 1990، ولا تزال قائمة كنتيجة مباشرة لاستهتار النظام في بغداد. ثالثاً، وجّهت العقوبات، التي الحقت اذى كبيراً بسكان العراق - ويرجع هذا ايضاً بشكل اساسي الى استهتار النظام العراقي - بشكل خاطىء منذ وقف النار في 1991 على الاقل، والولاياتالمتحدة متواطئة مع النظام في بغداد في تنفيذ جريمة ابادة بحق الشعب العراقي. رابعاً، سأجادل بايجاز بأن العقوبات الاقتصادية المفروضة على العراق يجب ان تُرفع، لكن يجب ابقاء العقوبات العسكرية والديبلوماسية والتهديد باستخدام القوة طالما بقي النظام الحالي في مكانه. سيستغرق تقديم لائحة بانتهاكات حقوق الانسان من قبل النظام، الذي وصل الى السلطة في بغداد في انقلاب في 17 تموز يوليو 1968، وقتاً طويلاً، لكن بعض الامثلة قد تساعد على توضيح الصورة. لم يكتف النظام الجديد بسجن وتعذيب قادة النظام الذي حلّ مكانه. فقد انقلب، مثل ذئب ضارٍ، في غضون ايام، على قادته انفسهم، وكان مصير بعض اولئك الذين قادوا الانقلاب اما الاعدام بعد اجراءات عاجلة او الفرار هرباً من الاعدام. وفي حالة احد هؤلاء المتآمرين، عبدالرزاق النايف، لم يكن هربه من العراق كافياً لتهدئة شركائه السابقين، اذ طاردته اجهزة الاستخبارات العراقية على امتداد عقد من السنين، قبل ان يُقتل في النهاية في لندن، على رغم انه كان اصبح منسياً قبل ذلك بوقت طويل داخل العراق. وخلال العقد التالي من السنين اصبح الشغل الشاغل للدولة ضمان عدم السماح بوجود اي شكل من المعارضة السياسية، او حتى مجرد رأي مخالف. وكان الاعدام مصير زعماء وحتى اعضاء عاديين لاحزاب سياسية، مثل الحزب الشيوعي العراقي والقوميين وزعماء دينيين وغيرهم. كان محظوظاً من لم يفقد سوى وظيفته. وبحلول منتصف السبعينات لم تعد هناك اي معارضة منظمة ذات معنى داخل العراق، ولم يكن هناك وسط عراقيي الشتات كثيرون مستعدون للمخاطرة بتعريض انفسهم الى الانتقام او الاغتيال بأن يعارضوا النظام جهراً. في 1979، بعدما سأم صدام لعب دور القوة الفعلية وراء العرش، قرر ان ينفذ رغبته في اعتلاء رئاسة العراق. فقدم احمد حسن البكر استقالته صاغراً "لاسباب صحية". وكان اول اجراء لصدام عند تسلمه السلطة هو القيام بعملية تطهير اخرى للنخبة البعثية. فاُعدم ما لا يقل عن تسعة من قياديي المؤسسة البعثية، وصُفّي بعضهم مع كل افراد عائلته. بعد انقضاء اربعة عشرة شهراً على تسلمه السلطة، شن الرئىس المهيب صدام حسين، الذي لم يخدم اطلاقاً في القوات المسلحة، حربه ضد ايران. كلفت تلك الحرب، التي استمرت على امتداد السنوات الثماني التالية، ارواح 250 الف عراقي وربما 750 الف ايراني، اضافة الى خسائر فادحة في الاقتصاد لا تصدق. لكن النظام كان قد هيّأ المزيد في جعبته للعراق. فبعد سنتين على وقف النار في 1988 - وبينما كان لا يزال عملياً في حال حرب مع ايران - قام العراق بغزو الكويت. والكارثة التي اعقبت "ام المعارك" على مدى تسع سنوات متتالية هي التي تجمعنا هنا في هذه الامسية في احدى القاعات الهادئة في جامعة كولومبيا. افترض انه لا توجد ضرورة للاسهاب كي اُثبت ان النظام العراقي مسؤول عن فرض العقوبات في 1990. فقد فرضت العقوبات على العراق نتيجة لاحتلاله غير الشرعي الكويت في 2 آب اغسطس 1990. وحسب ما تنص عليه المادة 41 من ميثاق الاممالمتحدة في القسم المعني بالموضوع: "يمكن لمجلس الامن ان يقرر اي اجراءات لا تشمل استخدام القوة سيتم اللجوء اليها لجعل قراراته فاعلة، ويمكن ان يطلب من الاعضاء في الاممالمتحدة ان تطبق مثل هذه الاجراءات. وقد تتضمن الوقف الكامل او الجزئي للعلاقات الاقتصادية ...". وتعطي المادة 42 مجلس الامن السلطة للتفويض باستخدام القوة حيثما يرى ان "انتهاكاً للسلام او عملاً عدوانياً" قد وقع وفقاً للمادة 39. وعلى رغم انه على امتداد الاشهر الاربعة التالية اُرسلت قوات من 32 دولة لمواجهة العراق، رفض النظام العراقي بعناد ان يسحب قواته الى داخل حدوده. اُجبر العراق، بالطبع، في شباط فبراير 1991 على القبول بما تمليه العقوبات كشرط لوقف النار. وكانت الصفقة التي ابرمها النظام العراقي مع القوى المنتصرة ذات جانبين: اولاً، وافق النظام على تقديم كل المعلومات المتعلقة بتطوير وانتاج اسلحة الدمار الشامل. ثانياً، يتعيّن على العراق ان يثبت انه توقف عن انتاج مثل هذه الاسلحة. وعندما تصادق اللجنة الدولية الخاصة بنزع اسلحة الدمار الشامل العراقية اونسكوم على انه تم الايفاء بهذين الشرطين، سيكون مجلس الامن ملزماً برفع العقوبات. كان يُتوقع الاّ تستغرق هذه العملية سوى بضعة اسابيع. لكنها استغرقت بدلاً من ذلك تسع سنوات، ولا يبدو ان هناك نهاية لها في المستقبل المنظور. لماذا؟ الجواب باختصار هو ان النظام البعثي في بغداد اخفق، في كل مناسبة، في ان يتعاون بشكل جاد مع مفتشي "اونسكوم". وتأكد بشكل قاطع ان النظام عرقل بصورة فاعلة عمليات التفتيش عندما امتنعت الحكومة العراقية عن تسليم وثائق تتعلق بالبرامج المحظورة الاّ بعد هروب حسين كامل واستحصال معلومات منه في الاردن. عندها فقط "اكتشف" المسؤولون العراقيون فجأة ان الفريق كامل، صهر الرئىس والوزير المسؤول عن البرامج، كان اخفى الوثائق المطلوبة بتصرف فردي. هذه الالاعيب كانت ستثير الضحك لولا حقيقة ان الاطفال العراقيين يموتون بالآلاف كل شهر بفضل النظام الذي يمارسها. خطر في بالي قبل سنوات مضت هذا السؤال: هل يريد النظام حقاً رفع العقوبات؟ اظن اني لست الوحيد الذي لاحظ انه كل مرة يكتسب فيها التحرك في اتجاه رفع العقوبات بعض الزخم، يلجأ النظام الى القيام باستفزاز ما لاحباط هذا الزخم. وجرت العادة ان تقع هذه الاستفزازات مباشرة قبل المراجعة نصف السنوية للعقوبات من قبل مجلس الامن. في احدى السنوات، اطلق العراق النار على طائرات اميركية، وفي سنة اخرى، تقدمت القوات العراقية داخل منطقة الملاذ الآمن في شمال العراق. وفي مرة اخرى، حُشدت قوات عراقية فعلاً على الحدود مع الكويت. وهي خطوات لا يمكن ان تُنسب لحكومة همها الاساسي مصلحة مواطنيها. وحتى اذا وافق المرء على ان قوى اجنبية معادية ترغب في ان تفرض هيمنتها في الشرق الاوسط وان العقوبات ليست سوى ذريعة لتحقيق هذا الهدف، فان السؤال يجب ان يُطرح: ألا ينبغي للحكومة العراقية ان تتوقف عن اعطاء مثل هذه القوى المبرر لابقاء الخناق على العراق بأن تفي بالالتزامات التي قبلتها في 1991؟ لا شك في ان فشل النظام في ان يتصرف بحسن نية هو السبب المباشر الاول لاستمرار العقوبات. لكن هذا لا يعني ان الولاياتالمتحدة لا تشارك في تحمل المسؤولية عما حلّ بجماهير العراقيين التي تقاسي الأمرين. هناك افتراضان عقلانيان فقط لفرض العقوبات الاقتصادية: الاول هو انه حالما تُفرض العقوبات لا يمكن لأي حكومة تهمها مصلحة مواطنيها ان تستمر في سلوكها المُعاقب عليه. وقد عرضتُ بالفعل الاساليب "الرؤوفة" التي لجأ اليها هذا النظام في التعامل مع مواطنيه منذ 1968. هل كان يمكن لأحد ان يتصور ان صدام حسين سيضحي طوعاً ولو بذرة من ترسانة اسلحته لمنفعة العراقيين العاديين؟ الافتراض العقلاني الثاني لتبرير العقوبات هو ان شعباً يعيش في ظل العقوبات سينتفض ويطيح حكومته ويستبدلها بحكومة لا تتورط في سلوك غير مشروع. في 1991، شجّعنا العراقيين على التمرد ضد النظام، ثم وقفنا متفرجين باحساس من الرضا الذاتي ولدينا 500 ألف رجل في ميدان المعركة بينما كان صدام يقتل المتمردين. هل يمكن لأحد ان يتوقع من شعب يعيش حال مجاعة او اسوأ من ذلك طيلة اكثر من ثماني سنوات ان يملك القوة للتمرد مرة اخرى؟ لا يبقى سوى مبرر واحد للعقوبات، مهما بدا شنيعاً: نحن نستهدف بشكل متعمد المدنيين العراقيين لتدميرهم. لا أحد يدعي ان العقوبات الاقتصادية تركت أي تأثير على حياة النخبة البعثية في العراق. فبينما يستورد صدام الرخام الايطالي لقصوره، يتعيّن على العراقيين العاديين، الذين كانوا في السابق يتمتعون بمستوى معيشة عالٍ، ان ينفقوا الراتب الشهري كله لشراء كيلو لحم. او ان يختاروا بين إطعام عائلاتهم او محاولة دفع فاتورة الطبيب. وللمرة الاولى في تاريخهم الذي يمتد 6 آلاف سنة، يعرف العراقيون الجوع. بفضل العقوبات جرى تدمير احسن نظام طبي في البلدان النامية. لم تعد المنشآت الطبية الحديثة - والعلاجات الاساسية - متوافرة. ويتخلف الاطباء العراقيون الآن سنوات على صعيد المعرفة التقنية والقدرة على معالجة المرضى. كانت الاوبئة التي تنقلها المياه والامراض المعدية مثل الكوليرا وشلل الاطفال قد اُستئصلت قبل 25 سنة من فرض العقوبات. ومنذ فرض العقوبات، عادت هذه الامراض لتتفشى، وكانت حصيلة الضحايا من الاطفال العراقيين مريعة. وتصاعدت بشكل هائل وتائر الاصابة بالسرطان والاضطرابات النفسية. ويمثل ظهور هذه الامراض، بالاقتران مع امتناع النظام كلياً عن التعاون مع "اونسكوم"، دليلاً على ان العقوبات الاقتصادية التي تُفرض على نظام استبدادي لا يكترث بمعاناة شعبه غير مجدية اطلاقاً. تدعي "اونسكوم" ان صدام استطاع ان يعيد بناء ترسانة اسلحة دماره الشامل على رغم العقوبات الاقتصادية والعسكرية وعمليات التفتيش. اذا كان هذا صحيحاً، واخذاً في الاعتبار حصيلة الضحايا، ما هو المبرر اذاً لاستمرار العقوبات الاقتصادية؟ اخبرنا الرئيس جورج بوش قبل ثماني سنوات ان خلافنا هو مع "الديكتاتور" وليس مع شعب العراق. لكن ثماني سنوات من العقوبات الموجهة بشكل مباشر الى سكان العراق المدنيين تروي قصة اخرى. ما حدث لسكان العراق يندرج ضمن تعريف الابادة وفقاً ل "المعاهدة الخاصة بالابادة" التي وقعتها الولاياتالمتحدة اخيراً. نحن في الولاياتالمتحدة نستمر اذاً، الى جانب صدام حسين والنظام البعثي، في المساهمة بهذه الابادة للشعب العراقي. يجب ان تُرفع العقوبات العسكرية اذاً فوراً، لئلا تتهمنا اجيال المستقبل بصم الآذان عن معاناة الابرياء، الى حدٍ كبير مثلما تجاهلت حكومتنا في الثلاثينات والاربعينات معاناة اليهود في اوروبا. يجب ان يُمنح العراقيون العاديون الفرصة لاعادة بناء حياتهم. لا ريب في انه شيء أساسي، في بلد بمثل الامكانات التي يملكها العراق وما يتصف به العراقيون من مثابرة، ان يكون لكل فرد الحق في ان يعبّر عن مواهبه وان يساعد نفسه وعائلته وفق ما تسمح به مواهبه. ان برنامج "النفط مقابل الغذاء"، الذي تسرف حكومتنا في اطرائه، يحول كل العراقيين الى متلقين للمساعدات الاجتماعية، وهو لا يكفي حتى لتلبية الحد الادنى من احتياجاتهم. الاسوأ من ذلك انه يسلب كل عراقي احساسه بالكرامة كانسان، وحقه في ان يسعى ويتطلع ويبني مستقبلاً لاطفاله. لكن العقوبات العسكرية مسألة اخرى، وينبغي ابقاءها طالما بقي النظام البعثي في بغداد في السلطة. فهذا النظام يمثل تهديداً مُثبتاً، على شعبه اولاً، وعلى جيرانه ثانياً. واقف امامكم اليوم كممثل لأول ضحايا صدام حسين: شعب العراق. فقد اُستخدمت اسلحة الدمار الشامل، التي تخشاها الولاياتالمتحدة كثيراً، بوحشية ضد المدنيين العراقيين، وليس ضد الجنود الاميركيين او قوات التحالف. سنكون نحن اول من ينزع سلاح هذا النظام. كما يحق لجيران العراق - من العرب وغير العرب على السواء - ان يعيشوا في سلام وامان. ولتحقيق هذا الهدف، ينبغي ابقاء مناطق الحظر الجوي وحمايتها بحرص. ينبغي، في الواقع، انشاء مناطق "محظورة على الدبابات" لمنع هذا النظام من تهديد مواطنيه في اي مكان. دعوني اؤكد بأن وحدة اراضي العراق هي امر لا جدال بشأنه اطلاقاً. لكن يجب ان نشجّع اجواء نزع السلاح والتغيير في النهاية. واستخدام القوة من قبل الولاياتالمتحدة وقوات التحالف لتحقيق هذه الاغراض هو، حسب اعتقادي، مشروع وضروري على السواء. وعندما يبدأ النظام باعادة بناء برامجه المحظورة، ينبغي ان يكون هدفاً للقصف او لأي وسائل عسكرية اخرى لازالتها. ومن البديهي، بالاضافة الى ذلك، ان كل ديبلوماسي عراقي ينبغي ان يُعتبر شخصاً غير مرغوب فيه. اننا نتطلع ان تشاركوني التطلع الى عراق حر وتعددي يُحكم عبر منظومة قوانين عادلة، الى عراق لا يمارس فيه اي تمييز بين كردي او تركماني او فارسي او اشوري او كلداني او ارمني او عربي، الى اليوم الذي يعيش فيه كل العراقيين - يهوداً ومسيحيين وصابئة ويزيديين ومسلمين - في اخاء مع بعضهم البعض ومع جيرانهم. ** محام في المحاكم العليا في شيكاغو. * هذا النص مداخلة قدمها الكاتب في جامعة كولومبيا وشارك فيها أيضاً السفير العراقي الى الأممالمتحدة سعيد حسن.