ساهمت سيرة ابن عربي في تكوين أفكاره. فالشيخ العارف هو نتاج مركب من المدارس الفقهية والفلسفية والصوفية. ولعبت نشأته الأولى الدور الأساس في رسم معالم طريقه الخاص، فهو سليل أسرة كانت على صلة يومية بشيوخ التصوف ومنهم تعلم الخصال الحميدة ومكارم الأخلاق، من تقشف وزهد واجتهاد وجهد، من دون ان ينقطع عن محيطه. فهو استمر على علاقة بعصره ومشاكله السياسية وما يصطرع فيه من آراء ومعارف. فاستفاد من النتاج الفقهي وتعدد تياراته في الاندلس واطّلع على أعمال العلماء على تراتبهم وأنواعهم فأخذ من الشافعية وهو مالكي المذهب، وتعلم الكثير من المنهج الظاهري في قراءة القرآن واستخدمه لتأصيل الفهم الباطني لمعاني الآيات، واطّلع على تصانيف الإمام الغزالي اضافة الى كتب التيار الفلسفي - الفقهي وغيره من مدارس وتعاليم، كأعمال ابن باجه وابن طفيل وابن رشد. فأفكاره نتاج معرفة تراكمت أو انتقلت من المشرق الى المغرب لتعيد تكوين خصائصها وفق متطلبات البيئة الاندلسية. فهو تأثر بتعاليم متصوفة المغرب في شبابه ثم عاد وتأثر في حدود معينة بتعاليم متصوفة المشرق، وقام بصهر تلك الموروثات الفقهية والفلسفية والصوفية وأعاد تركيبها وتوليفها بأسلوب ابداعي تميز به عن أقرانه من المتصوفة. فابن عربي نقل التصوف من علم لا دليل له ولا برهان عليه الى نظرية تربط الممارسة بالفكرة. عرف عن ابن عربي تصانيفه العديدة. وبسبب سهولة الكتابة عنده اضطر لكثرتها ان يضع لمؤلفاته فهرساً بقلمه. وتدل عناوينها على محتواها، فإلى الفتوحات المكية وضع قاموس اصطلاحات لشرح المعاني الصوفية للمفردات الواردة في الفتوحات. الى ذلك قام بتفسير القرآن بأسلوب مميز اختلف في منهجه عن التفاسير التي سبقته، وتحدث كذلك عن الانسان الكلي وطرق معرفة العالم العلوي والسفلي، وعن اشارات القرآن في علم الانسان، وحلية الابدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال. فكتاباته هي "فصوص الحكم" حاول من خلالها توسيع دائرة التصوف ونقلها من الخاصة الى العامة مستخدماً مفردات القرآن كمفاتيح للمعرفة تطل على ابعاد باطنية لظواهر الآيات. فتوسيع الدائرة دفعه الى قراءة زمنية للتصوف فاتجه عمودياً الى عمق التاريخ محاولاً أن يربط مختلف الظواهر الحميدة في العهد الراشدي بدلالات تشير الى الأصل الاسلامي لكل حركات التصوف. وأملت عليه مهمة توسيع الدائرة الى ربط مختلف الظواهر في معنى واحد يتجلى في مراتب مستفيداً من غنى القرآن بالكلمات لتحديد درجة كل فئة من الناس. وساعدته معرفته الموسوعية باللغة لاستنباط الاشارات والرموز وإعادة تفسير المفردات في سياق منهجي له دلالات أعمق من ظاهرها. كان هدف ابن عربي تحطيم التصورات المسبقة عن التصوف وإعادة ادراج تلك الحركات الزهد والتقشف والدروشة في نظام معرفي متكامل ومتماسك يتميز بموقف واضح من الوجود والكون والحقيقة والانسان. فاستفاد من رأي ابن حزم بالحقيقة وتمسك الأخير بمفهوم الطريق الواحد للوصول اليها واستخدمه لربطه بآراء ابن باجه وابن طفيل وابن رشد التي تقول ان الحقيقة واحدة وطرق الوصول اليها متعددة، وأعاد تأليفها في سياق مختلف قال بوحدة الحقيقة التي تتجلى باشكال مختلفة لكنها في النهاية واحدة يجمعها الزمن في صيرورة وحدته من الأول الى الأخير. وبسبب موقفه من وحدة الحقيقة وما تعنيه من توحيد للأديان وتجلياتها اتهم بالقول بوحدة الوجود، ورد عليه بعض الفقهاء كابن تيميه في كتابه "إبطال وحدة الوجود". الى ذلك اقتربت صوفية ابن عربي من فلسفة ابن طفيل القائل بفكرة انعكاس المرايا، ونظرية وحدة المعرفة وانعكاساتها المتعددة. ويذكر المستشرق ج.ك. بيرغل في هذا الصدد ان "فكرة المرآة المسيطرة في هذا المشهد المشهد الذي يرويه ابن طفيل في قصته الفلسفية حي بن يقظان أصبحت ايضاً فكرة مركزية في الفكر الاسلامي الصوفي، واستعملت في الغالب، كما هو الحال هنا، في إيضاح العلاقة الحميمية بين الخالق وخليقته" المجلد الثاني، صفحة 1173. إلا أن محاولات ابن عربي في تحويل تصوفه الى حركة عامة تضم وتشمل مختلف الأطراف وطبقات الناس لم يتيسر لها النجاح بسبب غموض رموزه واشاراته وكلامه الفلسفي الغريب عن ارتفاع الحجب وانكشاف الغطاء ولطائف المكاشفات والمشاهدة والاخبار بالمغيبات. وكرر بفشله دمج الشريعة بالتصوف فشل محاولات من سبقه حين حاولوا ابن باجه وابن طفيل وابن رشد دمج الشريعة بالفلسفة. نظامه التأويلي أشار ابن خلدون في "شفاء السائل" الى مصطلحات أهل المكاشفة الخاصة، فذكر انها مجرد ألفاظ مخصوصة بمعان من طريقهم "كالمقام، والحال، والفناء، والبقاء، والمحو، والاثبات، والنفس، والروح، والسر، والبواده، والهواجم، والخواطر، والوارد، واللوائح، واللوامع، والطوالع، والتلوين، والتمكين، والفرق، والجمع، وجمع الجمع، والذوق، والشرب، والغيبة، والحضور، والصحو، والسكر، وعلم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، والمحاضرة، والمكاشفة، والمشاهدة، والمعاملة، والمنازلة، والمواصلة، وعلم المعاملة، وعلم المكاشفة" صفحة 88. ثم يذكر الألفاظ التي تفسر معنى المشاهدة و"اكتساب النفس للصفات المحمودة، وتلونها بها صفة بعد صفة" كالارادة والتوبة والتقوى والورع والزهد والتوكل والخشوع والتواضع والصبر والصدق والمحبة والشوق وغيرها من مفردات واشارات. وأحصى تاج الدين السبكي في "الطبقات الكبرى" 25 نوعاً من الكرامات مثل احياء الموتى، كلام الموتى، انفلاق البحر، المشي على الماء، انزواء الأرض، كلام الجمادات والحيوانات، ابراء العلل، طاعة الحيوانات لهم، طي الزمان، استجابة الدعاء، الأخبار ببعض المغيبات، الكشف عن الحقائق، الصبر على عدم الطعام والشراب، رؤية المكان البعيد من وراء الحجب، الهيبة، وعدم تأثير المسمومات عليهم. واعتبر ان كثرة التأليف وما سهل لكثير من العلماء من التصانيف في الزمن اليسير من انواع الكرامات. فالكرامات متعددة الاشكال وتصدر من الأعضاء الثمانية في الانسان كالعين والاذن واللسان واليد والبطن والفرج والقدم والقلب. وتختلف طبقات البشر بحسب قدراتهم على الجمع بين الأعضاء فمن جمع أكثر كانت طبقته أعلى. عن هذه المسألة يقول ابن عربي "اعلم ان رجال الله في هذه الطريقة أصحاب الكرامات هم المسمون بعالم الانفاس ... وهم على طبقات كثيرة واحوال مختلفة، ومنهم من تجمع له الحالات كلها والطبقات ... وما من طبقة إلا لها لقب خاص من أهل الأهوال والمقامات، ومنهم من يحصره عدد في كل زمان، ومنهم من لا عدد له لازم فيقلون ويكثرون ..." جامع كرامات الأولياء، الجزء الأول، صفحة 68. فابن عربي انطلاقاً من مشروعه الفلسفي بتوسيع دائرة التصوف قام بتوزيع الكرامات على طبقات متعددة تتفاوت بحسب قربها وبعدها عن نظرية "الانسان الكامل"، لذلك صنف أصحاب "مراتب الولاية" الى ثلاثة: الصنف الأول من يحصره عدد وجاء ذكرهم كمفردات في مطلع أو وسط أو ختام آية قرانية وهم: الأقطاب، الائمة، الأوتاد، الابدال، النقباء، النجباء، الحواريون، الرهبيون، الختم، رجال الغيب، الظاهرون، الأعلون، الأسفلون، رجال القوة، رجال العطف، رجال الفتح، رحمانيون، البدلاء، ورجال الاشتياق. والصنف الثاني من لم يحصره عدد وهم: الملامتية الملامية وبرأيه هم سادات أهل طريق الله وائمتهم، الفقراء، الصوفية، العباد، الزهاد، رجال الماء، الأفراد، القرّاء، الاحباب، المحدثون، الاخلاء، السمراء، والورثة. وأخيراً هناك اصناف أهل الولاية من البشر ممن حصرتهم الاعداد ومن لا يحصرهم عدد وهم: الأنبياء، الرسل، الصديقون، الشهداء، الصالحون، المسلمون والمسلمات، المؤمنون والمؤمنات، القانتون والقانتات، الصادقون والصادقات، الصابرون والصابرات، الخاشعون والخاشعات، المتصدقون والمتصدقات، الصائمون والصائمات، الحافظون والحافظات، الذاكرون والذاكرات، التائبون والتائبات والتوابون، المتطهرون، الحامدون، السائحون المجاهدون في سبيل الله، الراكعون، الساجدون، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر، الحلماء، الأوّاهون، الأجناد، الأخيار، الأوابون، المخبتون، المنيبون، المبصرون، المهاجرون والمهاجرات، المشفقون، الموفون الوفاء، الواصلون، الخائفون، المعرضون، والكرماء. من جامع كرامات الأولياء، الجزء الأول، ص 96. يلاحظ ان الشيخ العارف ادخل مختلف المفردات القرآنية في قاموسه الاصطلاحي وقام بتفسير كل كلمة وتصنيفها في نظام فلسفته المتراتب الى درجات متفاوتة تدل على نسبة "كرامات" كل فئة، فهو لم يعتبر الصوفية فئة خاصة بل وضعها في الصنف الثاني وهو "من لم يحصره عدد". الوجود والعدم كان هم ابن عربي الاجابة عن سؤال: من أين جاءت الموجودات، من العدم أم من الوجود، فإذا كان الواحد الأول خارج الزمان لا ينقسم ولا يدخل عليه الزمان فمن أين جاءت الكثرة؟ استفاد ابن عربي من فكرتي "الفيض" و"الصدور" عند الفارابي وابن سينا وتجاوزهما الى فكرة التجلي. فالفيض في فلسفة الفارابي - ابن سينا يتوقف تكاثره في حد معين بينما التجلي عند ابن عربي مستمر لا ينقطع. فهو يتواصل وينفصل في حركة دائمة توحيدية تتوسط الأشياء الموجودات والمعقولات والمفردات اللغة والأرقام الرموز والاشارات والعلوم العملية والعلمية والمعارف العقول منتقلة من الجزئي الى الكلي ومن النسبي الى المطلق. احتلت فكرة الوسائط، كما ذهب نصر حامد ابو زيد في شرحه لفلسفة التأويل عند ابن عربي، الحلقة الأساس في منظومة الشيخ العارف الفلسفية. فهناك أربع مجموعات من الوسائط، كما شرح ابو زيد في كتابه "فلسفة التأويل"، الأولى هي البرزخ "بينهما برزخ لا يبغيان". فالبرزخ هو الوسيط الجامع الذي يربط ويفصل. فهو الخيال المطلق ومنه العماء وهو السحاب الذي يتولد من الأبخرة وبالتالي فهو خيال منفصل وهو التمثل الأول في صورة غير محدودة. والثانية تتألف من القلم العقل الأول واللوح المحفوظ النفس الكلية. والثالثة تتألف من العرش والكرسي. اما المجموعة الرابعة من الوسائط فتتألف من الأفلاك السبعة السموات السبع وتدرجها من السابعة الى الأولى. فالوسائط هي أدوات التحليل أو منهج الخيال في فلسفة ابن عربي الصوفية، وهي الصلة بين الموجود الأول علة العلل أو العلة الأولى ومختلف الموجودات الصادرة عنه التي تجلت في الكون والانسان. فالزمان واحد عنده وهو يتجلى ولا يتحد أو يحل الحلولية بل يتصل في حركة تراكم تاريخية وصولاً الى الانسان الكامل وتماثله مع مرآة الزمان. توصل ابن عربي الى منهجه الصوفي - الفلسفي من حركة اتصاله بمختلف مدارس عصره وانفصاله عنها وتنقله وسفره الدائم من وطنه الأول الاندلس الى وطنه الأخير بلاد الشام. فهو ولد في لحظة انهيار تاريخي. وفي هذا الجو المضطرب سياسياً تشكلت النواة الأولى لفلسفته فدمج منهج التصوف المسالم بنزعة عقلية نقلت الصوفية من حركة انعزالية الى منظومة فلسفية استخدمت الألغاز لتفسير ظاهر القرآن ولجأت الى الباطن لقراءة الآيات المنزلة. فوحد بها بين التفسير الظاهري والتأويل الباطني. فابن عربي الشيخ الشاب يختلف عن ابن رشد القاضي العجوز. فالثاني حل أزمته الداخلية قلقه بالهروب الى الأمام الوراء وصولاً الى ارسطو. والأول حل قلقه الداخلي بالهروب الى الأعلى وصولاً الى "سدرة المنتهى". استفاد ابن عربي في فلسفته من محيطه الاجتماعي والتواصل الفكري في الاندلس. فهو خلاصة التيارات، وكلها اجتمعت في شخصه. فهو مالكي وشافعي وظاهري وباطني وفي الآن هو الفيلسوف المتصوف الذي قرأ الانهيار العام في الاندلس من منظار ربط الوجود في ما وراء الطبيعة. فالشيخ هو ابن زمنه وخارج عصره في آن، ربط التصوف المجاهدة بنظريات الفلاسفة والمتكلمة والمتصوفة الاجتهاد وأعاد انتاجها في سياق روحي مختلف ربط الزمان باللازمان والمكان باللامكان. فالفلسفة في منظومته الفكرية الأولى بدأت اندلسية وانتهت مركبة مشرقية - مغربية. أخذ مقولة "المدينة الكاملة" من ابن باجه وقام بتدويرها وتحويلها الى مفهوم جديد يقول بالانسان الكامل. فالمدينة الكاملة عند ابن باجه غير موجودة، وهي كمدينة الفارابي الفاضلة من المستحيل وجودها في واقع معقد ومقبل على انهيار شامل. اما الانسان فهو وجود مستقل وصلته بالأشياء فردية. والفرد يتطور على المستوى الوجودي المادي ويتدرج في معارج الروح وصولاً الى الأعلى. واستفاد من مقولة ابن باجه عن الانسان الكامل الغريب في مدينة ناقصة. فالانسان الكامل عند ابن باجه هو غريب عن أهله وفي أزمة دائمة بينه وبين محيطه مدينته، ويقف متردداً بين خيارين: اما الانعزال الانكفاء والسفر الى وطنه الخاص أفكاره، واما القبول بالأمر والتصالح مع الواقع والعيش باستقلال روحي مع أفكاره. ففكرة ابن باجه عن غربة الانسان الكامل جاءت من حديث للرسول صلى الله عليه وسلم عن غربة الاسلام ووحدته في آخر الزمان. حل ابن عربي أزمة ابن باجه الوجودية الغربة والسفر بالأفكار بالسفر والترحال ومغادرة الاندلس الى مختلف الأقطار والأوطان. فالسفر عند ابن باجه روحي معنوي وتحول عند ابن عربي من فكرة الى ممارسة وحالات تنقل مستمر وحركة دائمة من مدينة الى مدينة ومن مكان الى آخر. واستفاد من فكرة "المرآة" في فلسفة ابن طفيل وانعكاس المعرفة من المطلق الى الجزئي ومن العام الى الخاص. فالمرآة المنعكسة المعارف المتعاكسة تحولت في منظومة ابن عربي الى نهاية المعرفة التي ترتقي بالانسان الناقص من الأدنى الى الأعلى الانسان الكامل وصولاً الى الاتصال بالخاتمة سدرة المنتهى. واستخدم منطق ابن رشد فرفعه الى حده الأرقى وقام بقراءة تاريخية فلسفية شاملة لمسألة الوجود والعدم منذ لحظة البدء الى لحظة النهاية، وتتمثل في منهجه الصوفي في "الحقيقة المحمدية" وهي تلك التي شرحها في فتوحاته، وهي فتوحات روحية تبدأ منذ لحظة تجلي الأول في المقصود الأول الى الخاتمة. واستفاد من أعمال وكتابات الحركة الصوفية في الاندلس من ابن مسرة الى ابن برجان وابن العريف التي انبعثت بقوة في زمنه بسبب القلق الدائم من المحيط، وتهديد الفرنجة المستمر لوجود دولة المسلمين. فالمخاوف الدائمة تحولت الى يقين دائم. واليقين عنده ليس في مكان بل في كل مكان فانتقل اليقين من مادة مكان الى ما فوق المادة اللامكان. وأهم ما استفاد ابن عربي منه هو الإمام الغزالي وكتابه الاحيائي احياء علوم الدين الذي شكل في قواعده العامة الرافعة الفلسفية لمنظومته الصوفية. فمع ابن عربي انتصرت فلسفة الغزالي الفقهية وانهزمت الرشدية وما قبلها في الاندلس. * كاتب من أسرة "الحياة". ملاحظات ابن خلدون على أصحاب التجلي ينتقد ابن خلدون مسألة "البرزخ" وتأويلها في فلسفة ابن عربي الصوفية بايجاز يشرح فيه وجهة نظر "أصحاب التجلي" ويرى أنها تتطابق مع آراء الفلاسفة "من غير برهان يشهد له، ولا دليل يقوم عليه" صفحة 111. فأصحاب التجلي يرتبون صدور الموجودات عن الواجب الحق وهي "الوحدة". والوحدة نشأت عنها الاحدية والواحدية، ونسبة الواحدية الى الاحدية هي نسبة الظاهر الى الباطن، فهي مظهر للاحدية بمنزلة المظهر للمتجلي "أعني اعتبار الباطن وتوحده عن الكثرة، واعتبار الظاهر وتكثره" ص 108. وبرأي اصحاب التجلي ان أول مراتب الظهور "ظهوره لنفسه" وأول التجليات "تجلي الذات الأقدس على نفسه". وتضمن التجلي "افاضة الايجاد والظهور" وتنقسم الى "كمال وحداني" و"كمال اسمائي". وحصلت تلك الكثرة "دفعة واحدة" وهي "البرزخ الجامع لتلك الأفراد المنفصلة". وهي عندهم "عالم المعاني والحضرة العمائية وهي الحقيقة المحمدية" ومن أعيان كثرتها القلم واللوح والطبيعة والجسم. وتشتمل الحضرة العمائية العماء على الحقائق "السبعة الاسمائية" التي هي الصفات، واوعبها "حقيقة الحياة" ثم تأتي حقائق الأنبياء والرسل ثم "الكمَّل من المحمديين الذين هم الأقطاب" ص 109. وتتفرع من الحقائق المذكورة الابدال السبعة حقائق أخرى وتترتب على أنواع حتى تنتهي "الى عالم الحس والشهادة" وهو "عالم الفتق" وأول حضرة بعد "العمائية" هي "الحضرة الهبائية" ثم العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك، ثم عالم العناصر، ثم عالم التركيب. وهي كلها منسوبة الى الحق مجموعة بالذات "البرزخية" على تفاصيلها ومظاهرها المتمثلة في "عالم الفتق". فالبرزخ يجمع ويفصل بين الرتق اجمال المادة الروحانية والفتق تفصيل المادة المطلقة بصورها النوعية ص 110. وينتهي ابن خلدون الى عرض آراء "أصحاب الوحدة" وقراءة أسرار الحروف نارية، هوائية، مائية، ترابية والاعداد والطلمسات عندهم وقانونهم الصناعي الذي يسمونه "التكسير" ص 112. ويرد ابن خلدون على تفاصيلهم الكثيرة وعباراتهم المبهمة واصطلاحاتهم الشاردة ويرى ان ترتيبهم للوجود "قريب من ترتيب الفلاسفة" من دون ان يرقى منهجهم الى مستوى الفلاسفة البرهاني والكسبي. من كتاب "شفاء السائل" المنسوب إليه. رد ابن تيميه على ابن عربي اتهم ابن تيميه أصحاب التجلي بالقول بوحدة الوجود، فهم يتحدثون عن شيئين ويظنون أنهم يتحدثون عن شيء واحد. فالوجود كما أكد الائمة والعلماء والفقهاء متباين أو على مراتب والوجود الحق مباين للمخلوقات. ويهاجم ابن عربي ويرى في كلامه تناقضات وفقرات مجملة مبهمة لأن مراده في النهاية قول "الوحدة والحلول والاتحاد" فهو "لا يرضى بالحلول، ولا يثبت موجودين حل احدهما في الآخر، بل عنده وجود الحال هو عين وجود المحل، لكنه يقول بالحلول بين الثبوت والوجود، فوجود الحق حل في ثبوت الممكنات، وثبوتها حل في وجوده، وهذا الكلام لا حقيقة له في نفس الأمر، فإنه لا فرق بين هذا وهذا، لكنه هو مذهبه المتناقض في نفسه" ص 57. ينطلق ابن تيميه من قاعدة واضحة ترفض "الجمع بين النقيضين في الاعتقاد .... والقضيتان المتناقضتان بالسلب والايجاب على وجه يلزم من صدق احداهما كذب الأخرى ... وانهم يقولون بالجمع بين النقيضين وبين الضدين ... ولا ريب ان هذا من أفسد ما ذهب اليه أهل السفسطة" ص 61. وأصل السفسطة عندهم "انهم أصحاب خيال وأوهام يتخيلون في نفوسهم أموراً يتخيلونها ويتوهمونها فيظنونها ثابتة في الخارج، وانما هي من خيالاتهم، والخيال الباطل يتصور فيه ما لا حقيقة له" ص 62. ويرد على فكرة "المرآة" ومن ينظر الى ذاته فيها "لزم ان يكون الظاهر في آدم هو مثال ذاته، لا ان آدم هو ذاته، ولا مثال ذاته ولا ذاته ... فليس هناك مظهر مغاير للظاهر، ولا مرآة مغايرة للرآئي" ص 70-71. مصادر 1- اعلام الفلسفة العربية، كمال اليازجي وانطوان غطاس كرم - مكتبة لبنان، الطبعة الرابعة، 1990 صفحة 295. 2- ابن رشد الجد وكتابه المقدمات، المختار بن الطاهر التليلي، الدار العربية للكتاب، طرابلس ليبيا 1988. صفحات 25-75. 3- معجم المؤلفين 4 مجلدات، عمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1993. 4- الحضارة العربية الاندلسية مجلدان، اشراف سلمى خضرا الجيوسي، اصدار مؤسسة دراسات الوحدة العربية، بيروت. مقال محمود مكي تاريخ الاندلس السياسي، المجلد الأول، ومقال كلود عدّاس التصوف الاندلسي وبروز ابن عربي، المجلد الثاني، ومقال ج.ك. بيرغل ابن طفيل وكتابه حي بن يقظان، المجلد الثاني. 5- التصوف الاسلامي، سليمان علم الدين، دار نوفل، بيروت 1999، صفحات 391-586. 6- تاريخ ابن خلدون، المجلد الرابع، دار الكتب العلمية، بيروت. 7- تاريخ ابن كثير، المجلد 13، دار زمزم، الرياض. 8- جامع كرامات الأولياء مجلدان، يوسف بن اسماعيل النبهاني استند الى 40 مرجعاً في مسألة الكرامات، وتوفي في بيروت 1350 هجرية، تحقيق ومراجعة ابراهيم عطوة عوض، دار الفكر، بيروت 1993. 9- شفاء السائل وتهذيب المسائل، ابن خلدون لا يرد ذكره في سيرته وأعماله، والكتاب هو جواب عن سؤال وجهه الإمام الشاطبي توفي 790 هجرية الى عدد من علماء فاس للكتابة عن الموضوع خصوصاً في مسألة اتخاذ الشيخ في السلوك الصوفي. استثنى الشاطبي ابن خلدون من علماء مدينة فاس فغضب من استبعاده وقام بتأليف دراسة شاملة ليصل "الى بيان اشتراط الالتزام بالشيخ في السلوك الصوفي" ص 9. حقق الكتاب محمد مطيع الحافظ، اصدار دار الفكر دمشق ودار الفكر المعاصر بيروت، الطبعة الأولى، 1996. 10- إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها، ابن تيميه، تحقيق محمد بن حمد الحمود النجدي، اصدار جمعية احياء التراث الاسلامي، لجنة البحث العلمي، الكويت، الطبعة الأولى، 1992.