هل يمكن للبشر ترجمة لغة غريبة؟ فهم الذكاء الاصطناعي هو المفتاح    خفض البطالة.. استراتيجيات ومبادرات    اكتشافات النفط والغاز عززت موثوقية إمدادات المملكة لاستقرار الاقتصاد العالمي    السعوديات.. شراكة مجتمعية    «قمة الكويت».. الوحدة والنهضة    مملكة العطاء تكافح الفقر عالمياً    الاتحاد السعودي للملاحة الشراعية يستضيف سباق تحدي اليخوت العالمي    العروبة يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    قيمة الهلال السوقية ضعف قيمة الأندية العربية المشاركة في المونديال    المغرد الهلالي محمد العبدالله: لا مكان لنيمار والمترو الأفضل وحلمي رئاسة «الزعيم»    هيئة الترفيه وأحداثها الرياضية.. والقوة الناعمة    الرياض يتغلّب على الفتح بثنائية في دوري روشن للمحترفين    مرآة السماء    ذوو الاحتياجات الخاصة    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    رواد التلفزيون السعودي.. ذكرى خالدة    روضة الآمال    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    «متلازمة الغروب» لدى كبار السن    نائب وزير الموارد البشرية يزور فرع الوزارة والغرفة التجارية بالمدينه المنورة    عريس الجخّ    لولو تعزز حضورها في السعودية وتفتتح هايبرماركت جديداً في الفاخرية بالدمام    «COP16».. رؤية عالمية لمكافحة التصحر وتدهور الأراضي    الاستدامة المالية    رسائل «أوريشنيك» الفرط صوتية    وكالة الطاقة الذرية: إيران تخطط لتوسيع تخصيب اليورانيوم بمنشأتي نطنز وفوردو    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    وزير الحرس الوطني يرعى ملتقى قادة التحول بوزارة الحرس الوطني    بالله نحسدك على ايش؟!    إنصاف الهيئات الدولية للمسلمين وقاية من الإرهاب    كابوس نيشيمورا !    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    الرياض يزيد معاناة الفتح في دوري روشن    مفتي عام المملكة ونائبه يستقبلان مدير فرع الرئاسة بمنطقة جازان    تكلفة علاج السرطان بالإشعاع في المملكة تصل ل 600 مليون ريال سنويًا    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    طلاب مدارس مكتب التعليم ببيش يؤدون صلاة الاستسقاء في خشوع وسط معلميهم    أمير تبوك يستقبل رئيس وأعضاء مجلس إدارة جمعية التوحد بالمنطقة    برنامج مفتوح لضيوف خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة "بتلفريك الهدا"    أمير تبوك يوجه بتوزيع معونة الشتاء في القرى والهجر والمحافظات    محافظ الطوال يؤدي صلاة الاستسقاء بجامع الوزارة بالمحافظة    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    الدكتور عبدالله الوصالي يكشف سر فوزه ب قرص الدواء    بالتضرع والإيمان: المسلمون يؤدون صلاة الاستسقاء طلبًا للغيث والرحمة بالمسجد النبوي    «مساندة الطفل» ل «عكاظ»: الإناث الأعلى في «التنمر اللفظي» ب 26 %    1500 طائرة تزيّن سماء الرياض بلوحات مضيئة    وزير الصحة الصومالي: جلسات مؤتمر التوائم مبهرة    الشائعات ضد المملكة    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    الزميل العويضي يحتفل بزواج إبنه مبارك    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المثقفون والسلطة في القرن السادس . ابن باجه ... من منظر للسلطة الى ضحية لها 2
نشر في الحياة يوم 12 - 02 - 1999

لا تعرف السنة التي انتقل فيها ابن باجه من اشبيلية الى فاس، إلا أنها توافقت مع اشتداد المعارك الفكرية الكبرى خصوصاً ضد الإمام الغزالي توفي سنة 505 هجرية بسبب اتساع نطاق تأثير أفكار مشروعه الاحيائي، فنجم الغزالي ازداد سطوعاً في سماء الشرق الاسلامي واشتد نفوذ حركته الاحيائية في الغرب الاسلامي بعد تراجعها المحدود على أثر الهجمات الافرنجية في الاندلس وبلاد الشام. وبسبب تبني حركة الموحدين، في بداية صعودها، المنظومة الفكرية للغزالي ازداد حقد سلطة المرابطين عليه واتجهت نحو محاربة كتبه ومنعت تداولها وحرقتها.
ونظراً لمكانة ابن باجه وموقعه الثقافي المميز، الى باعه الطويل في مهنة الطب، احتاجه والي فاس واستدعاه الى هناك للمساعدة في تشكيل جبهة عقائدية مضادة. وفي فاس تولى ابن باجه منصب الوزير في عهد يحيى بن يوسف بن تاشفين ونشط هناك في ظرف غير مستقر على المستويات السياسية وزير، والمهنية طبيب والفكرية فيلسوف الأمر الذي زاد من عداواته في بلاط الوالي وعطل عليه امكانات تطوير منظومته الفلسفية نظراً لكثرة مشاكله وانهماكه في وظائف مختلفة واحياناً متضاربة.
كتب ابن باجه أكثر من ثلاثين رسالة في الفلسفة وجاءت أفكاره موزعة ومتشتته. ومعظم كتاباته القليلة هي عبارة عن مجموعة رسائل وجه أكثرها الى تلميذه المخلص ابن الإمام.
تأثر ابن باجه بأفكار الفارابي خصوصاً كتاباته عن "المدينة الفاضلة" و"السياسة المدنية" ومحاولاته في الجمع بين آراء الحكيمين أفلاطون وسقراط مستخدماً كتاب "جمهورية" أفلاطون، ومنطق أرسطو. وأهم ما في كتاباته عزوفه عن فلسفة ابن سينا وانتقاده العنيف للإمام الغزالي اذ اتهمه بالتصوف وهي لحظة طارئه في تطوره وتجاهل انجازاته الفقهية والفلسفية الأخرى التي تعتبر الأساس الفكري لمشروعه الإحيائي.
حاول ابن باجه مسايرة الوضع السياسي في المغرب بانشاء تصورات فلسفية مثالية تبرر تحوله وموالاته دولة المرابطين فتحدث عن "مدينة كاملة" مستمداً نموذجها العام، مع بعض التعديلات، من "جمهورية" افلاطون ومدينة الفارابي "الفاضلة". الا انه اصطدم بمجموعة عقبات منها غيرة بعض المثقفين منه ومنافستهم له في مهنته طبيب وموقعه الرسمي في الدولة.
وعلى أساس تلك التعارضات الشخصية قام بتركيب تصور فلسفي - سياسي انتقد فيه المثقفين في عصر "ملوك الطوائف" الذي شهد نهاياته فوصفهم بالخسة. ومثل هذا الصنف "موجود كثيراً في هذا الزمن الذي كتبنا فيه هذا القول". فهؤلاء "يعرفون بالمتجملين" ولذلك "يقال ان التجمل يذهب بالمال، ويتوسلون به في حوائجهم عند أكابرهم ويهرجون ويمرجون بها" رسائل ابن باجه، صفحة 64.
ورد عليه خصومه واتهموه بالجهل في مختلف العلوم من طب وفلسفة ورياضيات وهندسة وبسرقة أفكار الفارابي. فرد ابن باجه بتأكيد اختلافه عن صاحب "المدينة الفاضلة" في مسألة اللقاء المدني والانساني ومنه "اللقاء للتعليم والتعلم، وهو اللقاء العقلي، لأنه بالفعل النظري يكون هذا اللقاء، وهو أصناف، كما العلم النظري أصناف" وصولاً الى "اللقاء الإلهي" الذي هو "أشرف أصناف الالتقاء" وتحصيله هو غاية "واذا تحصلت الغايات اكتفى عن التوطئات، فإن هذا العلم إذا حصل كان اللقاء فضلاً لا يحتاج اليه" رسائل ابن باجه، صفحة 143. ويرى ابن باجه ان صفة الغاية التي ينتهي الطبع بالسلوك اليها أطال وصفها من سبقه وكرر الفارابي القول فيها "لكن لا يوجد في جميع كتبه التي وصلت الى الاندلس هذا النحو من النظر" ص143.
الى مسألة غاية العلوم اختلف ابن باجه مع الفارابي على مفهوم الانسان الغريب. فالغريب في مدينة الفارابي هو "الفاضل" بينما عنده هو "المتوحد" الذي يعيش غريباً وحيداً في مدينة ناقصة لا تتوافر فيها شروط التكامل الانساني.
وتركز نقد ابن باجه على منظومة الإمام الغزالي الفكرية انطلاقاً من موقف انتهازي مصلحي عابه عليه أنصاره وخصومه. فهو ينتقد الغزالي بصفته ظاهرة صوفية مجردة عن الاجتماع والواقع وهو أمر غير دقيق. لأن الغزالي. مرّ في محطة صوفية في سياق تطوره الفكري ليعود عنها ويتجاوزها لاحقاً. فالصوفية عند الغزالي هي تجربة وليس معرفة وحتى يتعرف عليها كان لا بد له من ان يمر بحالاتها، بعدها عاد الى موقعه عندما تعرف على ما يسميه المتصوفة بالمشاهدة. وهي المسألة التي ينتقدها ابن باجه من دون اشارة الى ظرفيتها وحدوديتها في مشروع الغزالي.
استغل ابن باجه هذا التفصيل في المشروع الاحيائي الكبير ليشن هجومه على أفكار الغزالي انطلاقاً من مشاهداته الصوفية "لذلك يقول الغزالي انه أدرك مدركات روحانية وشهد الجواهر الروحانية ... ولذلك زعم الصوفية ان إدراك السعادة القصوى قد يكون بلا تعلم" الرسائل، صفحة 55. ويعلق ساخراً على كتاب الغزالي "المنقذ من الضلال" حين وصف فيه طرفاً من سيرته "وذكر انه شاهد عند اعتزاله أموراً الهية والتذ التذاذاً عظيماً ... وهذه كلها ظنون وأشياء يقيمها مثالات الحق. وهذا الرجل يبين من أمره انه لم ينتقل عن هذا الصنف ولا عن مآله الأولي وانه غالط أو مغالط بخيالات الحق ... وان الانسان يلتذ بالوصول اليها ومشاهدة أحوالها وأحوال أجزائها ... مما يفهم به ان الغاية القصوى من علم الحق الالتذاذ" الرسائل، صفحة 121. فابن باجه لا يكتفي بانتقاد مفهوم المشاهدة الصوفية بل يتهم الغزالي بأنه من أنصار الوصول الى المعرفة عن طريق اللذة والى اللذة عند طريق المعرفة.
الى ذلك، يتناول ابن باجه مسألة الدهشة عند الصوفية متهماً الغزالي بالإفراط في وصف هذه الحال التي قال بها المتصوفة و"ذلك ان هذه الحال تعرض لهم للخيالات التي يجدونها في نفوسهم حسب ما يظنون، سواء كانت صادقة أو كاذبة" الرسائل، صفحة 171.
لم تسعف الفلسفة ابن باجه في تحسين مواقعه في لحظة اشتد فيها الصراع المرابطي مع حركة الموحدين كذلك لم تحسن صورته في نظر الفلاسفة الذين عاصروا دولة الموحدين كأبن طفيل وابن رشد الحفيد. فابن طفيل مثلاً يمتدح كثيراً ابن باجه ويتطرق الى أفكاره في قصته الفلسفية "حي بن يقظان" وينكر معرفته به، بل يتهمه بالنفاق لأنه تحدث عن الانسان الفاضل المتوحد في مدينته الكاملة في وقت كانت سيرته الشخصية غير فاضلة، فهو، كما يذكر ابن طفيل، انغمس في الملذات واستغل موقعه في السلطة ليقضي عطله وينصرف عن التحصيل العلمي لقضاء سهراته في مدينة وهران.
يعتبر ابن طفيل ان تقصير ابن باجه في تطوير منظومته الفلسفية يعود الى أسباب تتعلق بشخصيته التي انحرفت عن تحصيل العلم الى طلب الملذات وهو أمر انعكس على كتاباته القليلة التي تميزت بقلة الكلام والإيجاز ليس بسبب انشغالاته السياسية والفكرية بل نتيجة انغماسه في اللهو والطرب.
ان تفسير ابن طفيل لتقصير ابن باجه ليس دقيقاً على رغم صحته في جوانب كثيرة، وربما يكون سبب قساوة حكمه على سلوكه الشخصي يتعلق باختلافه الفلسفي عنه. فابن باجه ينكر الذوق كطريق من طرق الوصول الى المعرفة العقلية، بينما يعتمد ابن طفيل في منهجه على العقل والذوق معاً.
كان ابن باجه قليل الكلام وعميق المعرفة وهذه سبب أزمته الفكرية. فالمثال عنده المدينة الكاملة اصطدم بالواقع مدينة فاس وانتهى به المطاف الى صدمة نفسية عبر عنها في مفهومين الأول: الوعي الشقي الناتج عن تفاوت وعي المتوحد مع نواقص المدينة. والثاني: الانسان الغريب وهو الوحيد بين اقرانه وجيرانه اذ يجد نفسه في موقع متقدم ويضطر الى مسايرة أهل مدينته ليحقق التجانس بينه وبينهم. وهنا بالضبط مصدر شقاء ابن باجه واساس احباطاته النفسية، اذ اتهم بالكفر والالحاد في فترة وصل فيها الانقسام السياسي - الفكري الى أقصى درجاته. فالأزمة الشخصية لابن باجه هي اصلاً أزمة مشروعه السياسي وفشله في تأسيس قوة مضادة تخالف السائد في عصره في وقت ارتقت فيها المناوشات بين المرابطين والموحدين الى مستوى حرب التصفيات الشاملة.
حروب المرابطين ضد الموحدين
آنذاك تركز جهد الأمير علي بن يوسف على مواجهة الخطر الافرنجي في الاندلس ومواجهة حركة الموحدين في المناطق الجبلية حين اخذت تتسع بسرعة مهددة ملك المرابطين بالانهيار. ففي سنة 518 هجرية "تسمى محمد بن تومرت السوسي بالمهدي وكان لما اشتهر حينه في قبائل الجبال ووصلوا اليه رحل معهم الى جبل ابجليز لهرغة فلما صار في منصة الجبل وحماية عشيرته خاطب القبائل ومد يده للبيعة وذلك في سنة 519 هجرية" المراكشي، الجزء 4، ص 68. ويروي ابن القطان ان "المهدي" ارتقى الى جبل ابجليز في سنة 515 هجرية ومكث فيه ثلاث سنوات وأعلن دعوته. وأخذ يحرض اتباعه على قتال الملثمين، ثم أمر في سنة 519 هجرية بتمييز الموحدين و"نودي في جبل المصامدة من هرغة وجنفيسة" وأخذ بفرض سلطته في الجبال. ويقال انه قتل كل من يشك بعصمته وبأنه الإمام وهو المهدي المعلوم، كما فعل بحق هزميرة تينمل سنة 518 هجرية حين ارتكب مجزرة وقيل انه قتل منهم 15 ألفاً. وبعد ان استأصلهم وسبى أموالهم بنى حصن تينمل. ولما ملك المهدي تلك الجبال وما حولها، ضاق الأمر على علي بن يوسف فبعث اليه عسكراً فهزمه.
وبرزت في سنة 519 هجرية حركة ابن ردير الذي عاث في البلاد فساداً خصوصاً حول غرناطة الأمر الذي دفع الفقيه القاضي ابن رشد جد فيلسوف الأندلس الى الذهاب الى مراكش وشرح للأمير علي أمر البلاد وما "بليت به من معاهدتها وما جروّه اليها وجنوه عليها من استدعاء ابن ردير، وما في ذلك من نقض العهد والخروج عن الذمة" المراكشي، جزء 4 ص 72. فأمر الأمير بإجلاء حركة ابن ردير، ونبه القاضي ابن رشد الجد الأمير الى ضرورة بناء الأسوار لمواجهة الأسوأ، فشرع علي بن يوسف في بناء سور مراكش، كذلك أمر ببناء الأسوار في بلاد الاندلس المرية وقرطبة واشبيلية. وعاد ابن رشد الجد من مراكش الى قرطبة وتوفي هناك سنة 520 هجرية وهي السنة التي ولد فيها حفيده الذي سيكون له شأنه الكبير في قرطبة وتاريخ الأندلس في عهد الموحدين.
تطورت حركة المهدي الموحدون في سنة 520 هجرية وطاعت له الجبال كلها "فأخذ الأمير علي بن يوسف يبني المراصد بقرب مراكش ويسد الطرق التي ينزل منها اتباع المهدي الى الأوطية الأودية"، المراكشي، ص75.
وينقل المراكشي عن ابن القطان رواية طويلة عن حركة المهدي حين أقدم في سنة 521 هجرية على جمع 40 ألفاً من الرجال ونحو 400 فارس ونزل الى مراكش فخرجت اليهم لمتونه في أكثر من عددهم مع أميرهم علي بن يوسف فهزموه. وطال حصار مراكش نحو 40 يوماً "يلتقون فيه ويتقاتلون" الى ان خرج علي بن يوسف بعساكره وانهزم ومات من عسكره خلق كثير بالزحام عند باب دكالة، وفرّ أقوام من عسكره الى وادي أم ربيع. ثم وصلت التعزيزات وقام علي بن يوسف بهجوم معاكس "فهزمهم وقتلهم قتلاً ذريعاً" في معركة عرفت بهزيمة البحيرة اذ "قتلوا فيها أجمعين" ولم يبق إلا نفر يسير مع عبدالمؤمن و"قدم عبدالمؤمن مرة أخرى وبات على هيلانة فحشدهم ورجع بهم الى مراكش فهزموا أيضاً" وسقط للموحدين 12 ألفاً وعاد عبدالمؤمن مع 50 رجلاً الى المهدي فاستبشر وقال "بقي الأمر".
كان المرابطون في سنة 522 هجرية يخوضون حروبهم على ثلاث جبهات: جبهة في المغرب ضد الموحدين المهدي، وجبهة في الاندلس ضد الفرنجة، وجبهة داخلية تقلبات على ولايات المدن. وقام الأمير علي بن يوسف بخلع العهد وولاية الدولة لإبنه سير الأمير أبي محمد في سنة 522 هجرية وجمع لذلك أهل العقد والحل من الفقهاء والقضاة وكملت له البيعة ولاية العهد وأرسل بها الى سائر الأقطار والأنظار فاستقرت البيعة، وقلص صلاحيات إبنه تاشفين فاقتصرت على مدن الاندلس فولاه إمارة غرناطة في سنة 523 هجرية والمرية. وبعد سنتين اضاف له ولاية قرطبة فدخلها سنة 524 هجرية. وبرع تاشفين في ادارة البلاد الاندلسية وأحبه أهل قرطبة وعلا ذكره و"ساس أهل الأندلس سياسة طار بها ذكره من الاستقامة واتباع لأمور الشريعة" المراكشي، جزء 4، ص 79.
تحرك سير ضد شقيقه بعد ان ارتفع صيته في الغزو والجهاد فطلب من والده عزله عن الاندلس ففعل واستدعاه الى مراكش وصار بتصرفه وكان يحضر مجلسه في جملة كبار رجال لمتونة.
استفاد الموحدون من صراع الاخوة فكرروا هجماتهم في سنة 523 هجرية وحاصروا مراكش أياماً عدة ثم رجعوا عنها الى محلتهم، ثم هاجم الموحدون في سنة 524 هجرية كيك وهزموا عساكر علي بن يوسف و"أخذوا أموالهم وسلاحهم وأخبيتهم" المراكشي، جزء 4، ص84.
ونزل عبدالمؤمن بن علي بقوات الموحدين الى أغمات في سنة 524 هجرية وسجلوا انتصاراً على المرابطين فخرج اليهم علي بن يوسف من مراكش وهزمهم. وعاد عبدالمؤمن من حركته فوجد المهدي مريضاً الى ان توفي في سنة 524 هجرية و"كتم أصحابه وفاته، وكان عمر المهدي نحواً من خمسين سنة" المراكشي، جزء4، ص84.
استمرت المعارك بين المرابطين والموحدين في سنة 525 هجرية وأخذت تميل الكفة لمصلحة الموحدين فزادت شعبيتهم في بلاد المصامدة فانقسمت قبائلها وبدأت تكفر بعضها بعضاً وانتهت باجتماع مصامدة الجبل على دعوة المهدي بينما أيدت دعوته فئة قليلة من مصامدة السهل. واستغل الفرنجة تصاعد المواجهة في بلاد المغرب بين حركة الموحدين ودولة المرابطين فزادت مناوشاتهم لكنها باءت بالفشل ونجح المرابطون في كسر تقدمهم في أكثر من مكان في سنتي 526 و527 هجرية.
أرسل علي بن يوسف ابنه تاشفين لغزو الفرنجة في منطقة اشبيلية ونجح في ايقاع هزيمة بهم في سنة 528 هجرية في منطقة فدان بالقرب من زلاقة التي كان جده يوسف بن تاشفين أوقع فيها هزيمة كبرى بجيش الفونس في سنة 479 هجرية. وحاول تاشفين بعد انتصاره في معركة فدان ان يرتب الجبهة الداخلية ويعيد توحيدها بتقديم تنازلات لتيار الفقهاء والعلماء فأجرى تنقلات عدة في مراكز القضاء في اشبيلية وفاس وغرناطة إرضاء لفقهاء المذهب المالكي. وألحق تعييناته بقرار مهم وهو تولية الفقيه القاضي أبو بكر بن العربي تلميذ الإمام الغزالي أمر القضاء. وتأخر استلام ابن العربي منصبه الى سنة 528 هجرية بسبب غضب والده علي بن يوسف من قرار ابنه تاشفين واعتراض فقهاء المالكية على ابن العربي بسبب انحيازه للمذهب الشافعي على الطريقة الاشعرية.
ويعكس قرار تاشفين مسألة مهمة وهي تطور موازين القوى لمصلحة حركة الموحدين واضطرار أمير الاندلس الى التراجع وارضاء تيار الإمام الغزالي بموقع في القضاء بهدف توحيد الجبهة الداخلية ومنع الشقاق الذي اشعل عواصف فكرية لا قيمة لها في سياق الصراع الكبير مع الفرنجة. وربما يفسر القرار سبب تعاسة ابن باجه وصدمته حين اكتشف ان كل محاولاته احبطت وذهبت الى فراغ.
تحسنت مواقع المرابطين في الاندلس بعد التغييرات في ادارات الدولة فتكررت غزوات تاشفين في سنة 529 هجرية ونجح في تسجيل انتصار ضد الفرنجة في منطقة البكار فارتفعت مكانته وعظم شأنه في الاندلس في فترة صعبة حين اخذت حركة الموحدين تقترب من أسوار عاصمة دولته في المغرب. فقرارات تاشفين كانت صحيحة إلا أنها جاءت متأخرة على المستويين: الاندلس اتساع رقعة الفرنجة والمغرب حصار حركة الموحدين دولة المرابطين.
آنذاك كان علي بن يوسف يقود الدولة من مراكش ويخوض المعارك ضد الموحدين بينما كلف ابنه تاشفين تدبير أمر الدولة ومواجهة الفرنجة في الاندلس. الا ان عوامل الضعف أخذت تضغط على كاهل الدولة وبدأت المدن تشهد حركات اعتراض وحوادث عنف. فحصلت حادثة في سنة 529 هجرية قتل فيها قاضي قرطبة احمد بن خلف التجيبي بحضور تاشفين ووالد ابن رشد في وقت الصلاة. بعدها ثارت العامة ونهبت منازل اليهود رداً على قتل أحد أبناء المدينة. وقامت في اشبيلية حركة شغب ضد قاضيها ابن العربي أبو بكر الذي تولى منصبه بناء على كتاب صدر عن علي بن يوسف من مراكش، فأظهر قسوة في أحكامه ضد المخالفين والمفسدين الأمر الذي أثار العامة ضده المراكشي، جزء 4، ص93.
في هذه الفترة برز اسم تاشفين نظراً لشجاعته وظهوره على الفرنجة في أكثر من موقع اذ كرر هزيمتهم في سنة 530 هجرية فرفع من امكانات تقديمه لولاية العهد بعد والده. ونجح ايضاً صاحب بلنسية ومرسية يحيى بن غانية في كسر شوكة الفرنجة في أكثر من مرة بين 528 و531 هجرية وهو أمر ثبّت موقعه وجعله قوة مميزة في دولة المرابطين.
استدعى علي بن يوسف ابنه تاشفين الى مراكش بعد ان اعتلت صحته في سنة 531 هجرية وأخذت شوكة الموحدين تقوى في بلاد المغرب، فعزم على نقل ابنه من الاندلس الى المغرب بسبب خبرته العسكرية في قتال الفرنجة. الا ان الإبن فشل في مهمته ونجح جيش عبدالمؤمن في سنة 533 هجرية من الانتصار عليه في موقعة دامت أكثر من شهر في بلد منانة في موضع بني ملول. فأخذ عبدالمؤمن بلاد منانة وقضى على قبيلة جزولة وقتل الآلاف من فرسانها ورجالها.
توفي سير ولي عهد دولة المرابطين في حادث غامض في سنة 533 هجرية واجمع شيوخ المرابطين في مسجد الجامع الكبير في السقاية بمراكش على بيعة تاشفين فعقدت له الولاية ونقش اسمه الى جانب والده على الدنانير والدراهم المراكشي، جزء 4، ص98.
بوفاة سير انكشف صراع الاخوة وظهر الانشقاق والتصدع في مختلف أجنحة دولة المرابطين فدب الصراع بين مراكز القوى واختلف الحلفاء وبدأت الاتجاهات تتضارب من طريق الرشوة والفساد والوشاية. وكان ابن باجه أبرز ضحايا تلك الفترة المضطربة فمات فجأة وبطريقة غامضة. ويقال ان مؤامرة دبرت ضده من خصومه في بلاط أمير فاس فمات مسموماً على يد منافسيه من الاطباء أبو العلاء بن زهر في سنة 533 هجرية بعد سنوات من الاحباط الذي انعكس على حياته المشوشة وأفكاره التي لم تكتمل أو تعرف النضج.
* كاتب من أسرة "الحياة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.