كتب الكثير عن صلة فيلسوف قرطبة القاضي ابن رشد بفيلسوف الصوفية محيي الدين بن عربي. فالباحث هنري كوربان اتخذ من تلك العلاقة قاعدة لتفسير منهجية ابن عربي ونجاح الأخير في نقل التصوف من حركة دراويش الى نظام فلسفي لم تعرفه حركات الصوفية من قبله ولن تتجاوزه من بعده. الى أي حد يمكن قبول تلك القراءة والى أي مدى تأثر ابن عربي بابن رشد وهما على طرفي نقيض في الرؤية والسيرة الشخصية؟ هناك مجموعة اشارات توضح تلك العلاقة لكنها ليست كافية لإقامة صلة قوية بين الفيلسوفين في القراءة والمنهج. ومع قلة المعلومات عن الموضوع نستطيع ان نلتقط بعض الصلات من دون أن ترتقي الى حد التطابق، نظراً الى اختلاف ابن عربي الفكري مع فلسفة ابن رشد. الى ذلك هناك اختلاف السن والفارق في الاعمار. فابن رشد من جيل والد ابن عربي، وابن عربي من جيل أولاد ابن رشد. وهناك اختلاف الفترة الزمنية فابن رشد عاصر ولاية الأمير المنصور وكان من كبار رجال بلاطه بينما عاصر ابن عربي نهاية فترة المنصور وولاية ابنه الناصر، وأشير الى صلة محدودة بالأمير المنصور نفاها ابن عربي في حين اشتغل أولاد ابن رشد في بلاط الناصر خصوصاً محمد بن عبدالله بن رشد حين ورث عن والده الفيلسوف وظيفة طبيب الأمير. مع ذلك يمكن رصد بعض الاشارات الواضحة وأحياناً غامضة وردت في كتابات ابن عربي أو ما نقل عنه من حكايات في الجيل الذي تأثر به وبالغ في نسبة الكرامات الى أعماله وسيرته. أول اشارة واضحة الى تلك العلاقة، وتدل على اعجاب ابن عربي بابن رشد، وردت في وصف فيلسوف الصوفية لجنازة فيلسوف قرطبة. فالمعروف ان ابن رشد توفي في بلاط الأمير المنصور بعد أن رضي الأخير عنه واستدعاه الى المغرب. فدفن في مراكش لمدة ثلاثة أشهر ثم نقل منها الى مسقط رأسه قرطبة في العام 595 هجرية، ودفن في روضة آبائه. آنذاك كان ابن عربي في 35 من عمره، أي انه تجاوز مرحلة تحصيله العلمي وتحول الى علم من اعلام جيله. حضر ابن عربي جنازة نقل جثمان ابن رشد ووصف المشهد كالآتي "ولما جُعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة، جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر. وقلنا في ذلك: هذا الإمام وهذه أعماله يا ليت شعري هل أتت آماله". يصف ابن عربي ابن رشد بالإمام ويذكر مؤلفاته التي توازي وزن جثمانه، وهي على كثرتها لم تحقق آمال قاضي قرطبة وطموحاته. لا يشي هذا الوصف المقتضب بأي موقف من ابن رشد وفلسفته فهو في معناه العام ملاحظة عابرة ومحايدة لا تكشف عن صلة فكرية سلبية أو ايجابية. إلا أن ابن عربي يشير في كتاباته الى فيلسوف من دون ان يذكر اسمه كان يتردد الى منزل والده أو عمه أو خاله ويتحدث عن أفكاره وسجالاته ورفضه مقولات الصوفيين العرفانية. ويُذكر أن عم ابن عربي أبو محمد عبدالله بن محمد كان من أقطاب الصوفية في عصره، وكذلك والده وخاله أبو مسلم الخولاني، ومنهم أخذ أفكاره الأولى وتكونت ميوله الصوفية قبل أن يطورها وينضجها على يد أساتذته وأصحابه. يتحدث ابن عربي في اشاراته الغامضة عن فيلسوف ينكر النبوة حضر مجلساً سنة 586 هجرية في قرطبة كان ابن عربي في السادسة والعشرين من عمره ونفى فيه ما جاء به الأنبياء من خرق العوائد. فالحقائق عنده لا تتبدل. فالنار هي نار كذلك الهواء والماء والتراب وغيرها من المعادن. ويبدو أن السجال تطور واحتد بين الفيلسوف المجهول ويرجح أن يكون ابن رشد واتباع الصوفية بحضور ابن عربي حين تطرق الفيلسوف الى قصة القاء النبي ابراهيم في النار ولم تحرقه. وكان رأي الفيلسوف، بحسب رواية ابن عربي، ان الحقائق لا تتبدل فالنار تحرق كل من يلمسها وبالتالي فإن القصة رمزية، وعملية الالقاء معنوية وليست مادية لأن القصد منها تعليم الحكمة لا ابطال مفعول النار الاحتراق. كان النقاش يدور حول منقل جمر ضخم في فصل شتاء بارد في قرطبة. وكما يذكر ابن عربي احتد أحد المتصوفة لا يذكر اسمه ويرجح ان يكون خاله الذي يقال انه كان من أصحاب الكرامات والقى منقل النار على ثياب الفيلسوف فارتبك الأخير وخاف من الاحتراق. لكنه تعجب ان الجمر لا يحرقه بل لمسه وأخذ يقلبه من دون آلام أو أوجاع. فتعجب الفيلسوف واعترف بعجزه عن تفسير الظاهرة لكنه لم يتراجع عن موقفه الفلسفي، ورفض قبول القول بأن النار مأمورة وهي تحرق بالأمر وتترك الاحراق بالأمر كذلك. على رغم غموض اشارات ابن عربي واغفاله اسم الفيلسوف واسماء من حضر حلقة التصوف الا أنها كافية لتوضيح موقفه السلبي من فلسفته التي تنكر كرامات الأنبياء والرسل وخرقهم للعوائد. ولا شك في أن تلك الحادثة التجربة أثرت عميقاً في توجهات الشاب الفكرية وسيرته الشخصية لاحقاً وأسست قواعد مختلفة لمنظوره الفلسفي. غير هذه الحادثة لا يشير ابن عربي الى علاقة بابن رشد باستثناء تلك الصلات الكثيرة بينهما من خلال تردد قاضي قرطبة على منزل والده، أو عمه، وهي صلات جامدة تبقى في اطار صحبة بعيدة لا تؤكد تأثر الشاب بالشيخ القاضي وان كشفت عن اعجاب بارد بجهود فيلسوف قرطبة ونشاطه الفكري وأعماله الكثيرة. فابن عربي من جيل غير جيله ومن زمن غير زمنه وبالتالي فإن العلاقة بينهما ليست علاقة الأستاذ بالتلميذ أو الفيلسوف بالمريد بقدر ما هي صلة اجتماعية جاءت بعيداً من طريق صحبة الأهل. إلا أنه يمكن التلميح الى صلة غير مباشرة لا بد أنها تمت تربوياً من طريق أستاذ فقيه عاش طويلاً وتسنى له أن يعلم ابن رشد ويربي ابن عربي وهو الفقيه خلف بن عبدالملك المعروف بابن بشكوال. عاش ابن بشكوال كثيراً، فهو من أصول عربية أنصاري خزرجي ولد في العام 494 هجرية وعاش في قرطبة وتوفي فيها في العام 578 هجرية. توفي ابن بشكوال عن 84 سنة وكان من أشهر فقهاء عصره، فهو محدث ومؤرخ وشاعر وله تصانيف كثيرة، ويقال انه ألف 50 كتاباً اسندها الى أكثر من 400 شيخ واشتهر بتأليف كتاب "الصلة في تاريخ ائمة الاندلس" و"معرفة العلماء الأفاضل". وبسبب ثقة جيله بعلومه حرص الكثير من الآباء على ارسال أولادهم لأخذ جزء من علومهم من الفقيه المؤرخ. ولا شك في أن الأستاذ الشيخ ترك تأثيره المتناقض على التلميذين بسبب اختلاف جيلهما. فابن رشد استمع الى ابن بشكوال الشاب بينما استمع ابن عربي الى ابن بشكوال الشيخ، وشكل الأخير أحد مصادره الفكرية. فالزمن تغير واختلف عصر التلميذين، كذلك لا بد ان تكون أفكار ابن بشكوال تبدلت مع نضوج تجربته التربوية. مع ذلك لا يمكن أن نعتبر هذه الصلة البعيدة تركت تأثيرها فهي تمت من خلال الأستاذ الشيخ في فترتين مختلفتين. فحين توفي ابن بشكوال كان ابن عربي في 18 من عمره قبل أن يكمل تحصيله العلمي وفي فترة مال فيها الى المتصوفة بينما بلغ ابن رشد سن ال58 وبات قاضي قرطبة وأحد أعلام الاندلس. عدم وجود صلات مباشرة أو صحبة شخصية لا ينفي تأثرهما المختلف بعصرهما بعد اختلاف الزمن وتبدل الأجواء الفكرية والسياسية. فابن رشد عاصر الأمير المنصور وتعامل معه وبلغت قرطبة في عهده أوجَها وعاش المسلمون في ظل انتصارات متتالية لامير الموحدين ضد الفرنجة. بينما عاش ابن عربي في نهاية عصر المنصور وشهد مطلع الناصر الذي تراجعت في عهده مكانة قرطبة، وعاش المسلمون اسوأ فترات الهزائم. فالفارق الزمني بين المنصور والناصر ليس كبيراً لكنه كان كافياً لانقلاب موازين القوى وتبدل المناخات السياسية المحيطة بقرطبة وظهور الفرنجة وتهديدهم الوجود الاسلامي في بقايا ممالك الاندلس. ولا شك في أن تبدل الأحوال ساهم في تغير المقال وتبدل المقام. فالعصر يكشف عن أصول الأفكار ومراجعها. وصوفية ابن عربي ليست معزولة عن مكانه وزمانه وليست بعيدة عن المناخات الفكرية التي طغت على جيله المهدد بالاقتلاع أو الموت أو القبول بالأمر الواقع أو الخضوع للأقوى أو الاضطرار الى النزوح. فابن عربي هو من جيل نمت في وسطه رغبة الهجرة الى محيط آمن بدلاً من الخنوع للمسيطر والسكوت عن شروطه ضد ما كان يعرف بظاهرة "المدجنين" وهي تلك الأقليات المسلمة التي غلَّبت الانتماء الى المكان وفضلت البقاء لتضمحل بعد أجيال في تقاليد المجتمع الجديد وعاداته. ان صوفية ابن عربي لم تأت من قراءة الكتب فقط بل التقطها من الأجواء المحيطة به، فهو يذكر في كتابه "روح القدس في محاسبة النفس" الموجه سنة 600 هجرية الى عبدالعزيز المهدوي في تونس 71 صوفياً في عصره وهو أمر يشير الى نمو الظاهرة وانتشارها في لحظات الخوف والقلق من المصير المغلق. وفلسفة ابن عربي لم تأت من مطالعة الكتب فقط كما هو حال ابن رشد تصنيف أعمال ارسطو بل كانت نتاج تجربة شخصية الى تزاوج فريد من نوعه بين حركات التصوف وتيارات الفقه والفلسفة في الاندلس الى تيارات الفقه والفلسفة والتصوف في مصر والجزيرة والعراق والأناضول وفارس والترك وبلاد الشام. فابن عربي، على خلاف كل من سبقه من علماء الاندلس، لم يأت بلاد المشرق لتحصيل علومه والعودة بها الى بلاده بل خرج من الاندلس بعد تحصيل علومه وحملها معه الى المشرق. فهو خرج ولم يعد لأن هدفه لم يكن تحصيل العلم بل البحث عن الحقيقة.ان دراسة عصر ابن عربي تعطي فكرة أوضح عن سيرته الشخصية من قراءة كتبه. فأعمال ابن عربي غامضة ومتناقضة فيها الكثير من الاشارات والرموز والالغاز والأعداد وفيها مبالغة في التأويل الفلسفي - العرفاني، وهو اضطر مراراً الى تأليف كتب لشرح معاني تفسيراته بعد أن لاحظ سوء الفهم والخلط الواقع بشأنها خصوصاً عندما تعرض الى نقد شديد في زمنه من العلماء وفقهاء السلف، فاتهمه بعضهم بالزندقة والالحاد وبعضهم نسب اليه القول بوحدة الوجود وانكار مراتب الوجود والسقوط في مقولات الاتحادية والحلولية. فقراءة نصوص ابن عربي لا تكشف عن معاني أفكاره الغارقة في التفاصيل، بينما دراسة عصره تخرج كتبه البالغة الدقة في مفرداتها والمتناقضة في تأويلاتها من مبنى النص الى معنى العالم المحسوس وتعقيداته الواقعية. * كاتب من أسرة "الحياة".