قد نتساءل ما سرّ كل هذا الانشغال بالزمن والاحتفاء به؟ هذه ظاهرة جديرة بالاهتمام، ولكن لا بدّ من النظر في آنيتها. فما ان تتوارى المناسبات المرتبطة بها حتى ننسى مهمة معرفة علاقتنا بالزمن وكيف نجعله دائم الحضور في حياتنا الفكرية. هذا ما يجب ان يُشغل العرب بشكل خاص اذ اننا نُعنى بالمناسبات اكثر مما نُعنى بتداعياتها وبالأسئلة التي تتفجر عنها. تُرانا نعيش خارج التاريخ فلا يكون احتكاكنا به سوى صدفة بحكم الظروف وبمشيئة الهية وإقحام الآخر في حياتنا؟ هل نسيطر على زمننا ام هو الذي يسيطر علينا؟ هل نملك حياتنا ام تمتلكنا الأيام والأحداث؟ هل نعيش في الماضي ام في الحاضر ام في المستقبل؟ وما نعيشه هل نحن الذين نمنحه معناه ونعيد خلقه؟ هل نعيش زمن الاحتضار ام الولادة؟ الزمن من أعمق الأسئلة: هل من بدايات؟ هل من نهايات؟ هل يمكن ان يولد الشيء من لا شيء؟ كيف ولماذا تتغير الأشياء؟ ما العلاقة بين الزمان والمكان؟ ما مكان الوقت، ووقت المكان؟ والحاضر كيف يختلف بين مجتمعات تؤكد على الفرد، او على الجماعات، او على المجتمع - الأمة؟ هل يمكن ان ننقذ المستقبل من الماضي والحاضر؟ أول ما يتبادر الى الذهن حين نطرح هذه الأسئلة وغيرها اننا نمرّ في فترة تاريخية نادرة هي نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، وأهم من ذلك اننا نعيش لحظة انتهاء الألفية الثانية وبدء الألفية الثالثة. هذه لحظة تاريخية نادرة تستوجب كل هذا الانشغال والاحتفاء. ولكننا لن نعي اهمية هذه اللحظة ما لم نتأمل في معنى علاقة الانسان بالزمن ليس بمعناه الموضوعي وبحد نفسه فحسب، بل من حيث دورنا في تحريره من ذاته وإعادة تشكيله ومنحه ابعاداً اخرى. وبين اهم ما يجب ان ندركه ان الانسان هو الذي يعطي الزمن معناه، فلذلك هو مسألة ذاتية بالدرجة الأولى. لقد بدأت الحداثة بالتأكيد على مركزية دور الانسان وموقعه في التاريخ. اما نحن فنتصرف كمجرد مخلوقات بشرية تكاد ان تقتصر علاقتها بالزمن على التعبير عن تخوفاتنا منه والانبهار به. ننبهر بمعاني احتضار قرن وولادة قرن آخر ونهاية الألفية الثانية في الوقت الذي يقول لنا العلم ان الكون بدأ منذ بلايين من السنوات. ما يجدر بنا ان نحتفل به هو ما انجزنا وما نريد ان ننجز في الزمن فنتعامل معه على انه تعبير عن، بل تجسيد لأمنياتنا وليس مجرد تمثيل لتلك الفجوة الكبرى بين احلامنا والواقع الذي نعيشه. ان الزمن مجاز غامض قد لا يكون له معنى بذاته، فالانسان هو الذي يمنحه معانيه الذاتية من منطلقاته ومواقعه الخاصة وفي سعيه الى تجاوز واقعه. اما نحن فكثيراً ما نلغي ما قبلنا ونؤكد عهودنا، وقد نعيش في الماضي و الحاضر ونادراً ما نعيش في المستقبل. وقد نرى الوقت بطيئاً حتى الضجر او سريعاً حتى يصعب اللحاق به، ممتعاً أو مأسوياً، هزيلاً او بطولياً، معنا او ضدنا، ونادراً ما نراه حيادياً. نعمل خارج الزمن، وننساه او نذكره حسب مزاجياتنا وحاجاتنا ومصالحنا، ونودّعه او نتمسّك به على انه تقليد ومناسبات. نؤرّخه خطأ بعهود الملوك والأمراء والأسر الحاكمة والتطورات السياسية، ونحذف من الذاكرة احداث الناس والشعوب. ما علاقة الانسان بالزمن وكيف نقيسه؟ كنا نقيسه بالفصول والمواسم، وبطلوع الشمس وغروبها او الليل والنهار فنقول بالصبح والظهر والمساء وأوقات الصلاة، ونحرص على معرفة طلوع القمر وتحوّلاته، ونستدل على الوقت بامتداد الظل او تقلصه. بل أصبحنا نقيسه بالثواني والدقائق والساعات او جزئيات كل منها، وفي حالات غير نادرة قد نحتاج أن نعرف جزئيات الثواني. وكنا ولا نزال نتحدث عن العقود والقرون والألفيات. هناك زمن ما قبل الكتابة وزمن ما بعدها. وزمن الجاهلية والايمان، وزمن الصمت، وزمن الصخب، وأيام الأمجاد والهزائم، وعهود الحرب والسلم أو اللاسلم واللاحرب، هناك غير المعنيين بالوقت سوى في المناسبات، وهناك المؤرخون له ليس إلا، والمعنيون به كلياً أو غير المعنيين بتاتاً. يقال إن الساعة الآلية اخترعت عام 1275 ربما من جانب رهبان ايطاليين لتوقيت مواعيد صلواتهم، ولم يتم اختراع عقرب الدقيقة قبل عام 1500، وفي عام 1215 أمر الفاتيكان اليهود بالعيش في عزلة وأن يرتدوا ثياباً متميزة. بعد ما يزيد على سبعمئة عام على ذلك الحدث اقتلع اليهود الفلسطينيين من أراضيهم وشردوهم خارج وطنهم فلسطين، ولا تزال غالبيتهم العظمى في نهاية الألفية الثانية تعيش تحت الاحتلال أو في الشتات، وبعضهم يعيشون في مخيمات الغبار. وبأسف عميق ندرك أنه في نهاية الألفية الأولى كانت بغداد ودمشق في مركز العالم، وأصبحتا في نهاية الألفية الثانية تعيشان في الهامش. في نهاية القرن التاسع عشر أصبح الانسان الحديث يسأل من أنا وليس من نحن فقط، فازدهر فن الرواية وعلم النفس التحليلي والاجتماعي، وأصبح التحليل الطبقي علماً وقضية، فالتحرير من العبودية للقوى الخارجية لا ينفصل عن مهمات التحرير من العبودية للقوى الداخلية. وليس للقضيتين المتفاعلتين شأن ما لم نشارك جميعاً في مباراة المعرفة والدمار. فالمعروف ان العربي يعيش في زمن الاحتضار أكثر مما يعيش في زمن الولادة. الزمن بالنسبة إليه إما أنه دولاب يوم معك ويوم عليك، أو دائرة تنتهي حيث بدأت وتبدأ حيث انتهت، أو أنه افق ما ان نقترب منه حتى يبتعد عنا، فإذا ما تعبنا من مطاردته جلسنا في الظل ننتظر قدومه. في الربع الأول من القرن العشرين قال جبران: "ليس التقدم بتحسين ما كان بل بالسير نحو ما سيكون" "الهلال" 1922، العدد6، وبعد حوالي نصف قرن قالت أحدى شخصيات رواية "ميرامار" لنجيب محفوظ: "لقد استغرقني الماضي فبت اعتقد أنه لا يوجد مستقبل" ص181. وفي العقد الأخير من القرن العشرين يؤكد ادونيس "ليس الحاضر هو ما يحضنني، بل ذلك الزمن الذي سينبثق منه. اخلق مكاني وزماني في اللغة، وبدءاً منها، وبها صرت أشعر، وأفكر، وأسلك، وأكتب كأنني موجود في مجتمع آتٍ" "الحياة" 19 تموز/ يوليو 1993. وكان عباس محمود العقاد قد ميّز في كتاب له عن عبدالرحمن الكواكبي بين الإنسان الرجعي الذي يعيش في الأيام الماضية، والإنسان العصري الذي يعيش زمانه، والإنسان الطوبي الذي يعيش في الأيام المقبلة. وها نحن نبدأ القرن الواحد والعشرين والألفية الثالثة من دون ان نعرف هل العربي رجعي أم عصري أو طوبي أم كل ذلك معاً وفي خليط عجيب غريب. وفي ما كان يظن عربياً أنه زمن التغير الثوري، ورد على لسان أحد شخصيات رواية سداسية الأيام الستة لإميل حبيبي: "ادرك الآن انني ما انطويت في صدفتي وأحدودب ظهري، إلا حين قطعت الصلة بماضيي. وما هو هذا الماضي؟ ان الماضي ليس زمناً، ان الماضي هو أنت وفلان وفلان وجميع الاصدقاء... ماضينا الذي أريده أن يعود كما يعود الربيع بعد كل شتاء" ص 36-37. غير ان شخصية أخرى تقول في الرواية ذاتها: "ما ان افكر بالمستقبل حتى يتراءى لي الماضي... إن المستقبل الذي أحلم به هو الماضي" ص91. وكتبت شخصياً في مقالة نشرت أجزاء في "الحياة" في 22 و23 و24/12/1990: "يرفض الماضي العربي ان يموت كما يرفض المستقبل أن يولد". الناس ينقسمون إلى فرقاء متصارعة، منهم من يتمسكون بالماضي ويحاولون عبثاً استرجاعه كما لو كان الزمن سلعة أو زياً من الأزياء، فهم مرهونون لذاكرة يقع العقل تحت سيطرتها. ترى الاصولية ان الحقيقة بالمعنى المطلق لا النسبي تحققت في الماضي ولا يمكن البحث عنها في الحاضر والمستقبل. وعلى العكس هناك من يرحبون بالتغيير وتحرير المستقبل من الماضي والحاضر ويتمنون ان تهب رياح الجبال السبع من كل الجهات، ويدخلون في صراع مع الذين يرون الماضي منحة مقدسة من الله ويخافون من المستقبل ويكرهون التغيير. لقد سعت الحركات الثورية كلها بما فيها الحركات الدينية في بداياتها الأولى، الى إلغاء الماضي من أجل بناء مستقبل مجيد، على عكس الاصولية التي تلجأ إلى الماضي كردّ فعل لتحديات تاريخية لا تتمكن من مواجهتها في حاضرها. ثم ان هناك من ينشغلون كلياً بالحاضر كما لو أنه ليس هناك من أمس ولا من غد فتصبح المتعة من دون سعادة سيدة القيم الاجتماعية وتتعدد الهويات والمشاريع من دون هوية جماعية ومشروع مشترك. وأخيراً، هناك من يبدعون لغة الوقت ويُسقطون تصوراتهم الخاصة على الزمن، فيكون من الوهم في رأيهم أن نقول بالفروقات بين الماضي أو الحاضر أو المستقبل خارج الوعي الإنساني. يزعم هؤلاء اننا نحن الذين نصيغ تصوراتنا وأسئلتنا متأثرين بمخلوقاتنا أو اختراعاتنا الخاصة، فيكون صراعنا ليس مع الزمن بل مع أنفسنا. إن الإنسان يصارع التصورات التي صنعها هو بنفسه للزمن، ويحدث ذلك حين يسمح لمفاهيمه الحاضرة بأن تسيطر على فكره المستقبلي. يقول تولستوي إن الزمن هو "وهم الحياة"، كما لو ان مفاهيم الماضي والمستقبل هي التي تحجب الإنسان عن ذاته. البشر إذن، حسب هذا المفهوم، هم أسرى أوهامهم. إن تصوراتنا للماضي وللمستقبل وللحاضر هي التي تتجاذبنا وما الزمن سوى مجاز كالنهر. الإنسان لا يصارع الزمن، انه يصارع تصوراته للزمن فهو، لا الالهة، الذي يصنع تاريخه. وليس قول ديكارت: "افكر إذن انا موجود" سوى تأكيد لمركزية مسؤولية الإنسان في صنع مصيره. ولا يقتصر الاختلاف في النظر إلى الزمن على الأفراد والجماعات ضمن المجتمع الواحد، بل قد يشمل المجتمعات والحضارات. اكتشفت خلال الخريف الماضي - من خلال عضويتي في اللجنة النهائية لجائزة مباراة فايمر Weimar الدولية شارك فيها مفكرون ومفكرات من اللغات السبع الرئيسية لأفضل بحث حول تحرير الماضي من المستقبل وتحرير المستقبل من الماضي - اكتشفت ان الأبحاث في اللغات الأوروبية والاميركية اهتمت بالدرجة الأولى بمسألة تحرير الزمن من المستقبل وادعت ان الغرب الحديث هو حضارة الاحتمالات القائمة، بينما انشغلت الابحاث في اللغتين العربية والصينية بتحريره من الماضي، ومالت الابحاث الروسية الى التشديد على التحرر من الماضي والمستقبل تأثراً بفشل التجربة الشيوعية او ربما بمقولة نيكولي بردايف من ان المثقفين الروس لم يتمكنوا ان يعيشوا في الحاضر فعاشوا في المستقبل وأحياناً في الماضي. وقد حلّت الابحاث باللغة الاسبانية في مكان وسطي بين اللغات الأوروبية والأميركية من ناحية واللغات العربية والصينية من ناحية اخرى. هناك في كل مجتمع وحضارة فروقات بين الماضوية والمستقبلية والحاضرية وكثيراً ما تغلب احدى هذه النزعات على غيرها في ظل احوال وظروف خاصة، وليس هناك حاضر من دون ماض او من دون مستقبل. وقد شهد القرن العشرون تغييرات بنوية وثقافية شاملة في مختلف المجتمعات والحضارات، ولكن الانسان ظل في مختلف الحالات يحب ويبغض، يقتل ويستشهد، يحارب ويسالم، يضحك ويبكي، يكذب ويعترف، ينشغل بمصالحه الخاصة ويلتزم بالقضايا العامة، يتمسك بقيم الحرية والمساواة ويمارس علاقات القوة. وفي مختلف الأحوال كانت الحياة صراعاً ولا تزال صراعاً وستستمر صراعاً. ان تاريخ الانسانية مباراة بين المعرفة والنكبات او بين الابداع والدمار. وسيظل العربي داخل حلبة الصراع، ويكون من مهماته ان يسعى ان يتحرر من الضياع في متاهات الماضي والحاضر وطوباوية المستقبل. وتكون بدايات التحرر بالوقوف الى جانب المعرفة والابداع والتأكيد على مركزية مسؤولية الانسان في صنع التاريخ. تلك هي المستقبلية الفريدة التي لن تخلو من ازمنة الصمت وأزمنة الصخب، وعهود الحرب والسلم، والجاهلية والإيمان والعلم. هل يتحرر العربي من دائرة التكرار ومطاردة الأفق، ويبدأ في صنع تاريخه؟ * روائي وأستاذ المجتمع والثقافة في جامعة جورجتاون - واشنطن