مجمع الملك سلمان لصناعة السيارات.. الحلم تحول إلى واقع    ترامب يعاقب المحكمة الجنائية الدولية بعد ملاحقة نتانياهو وغالانت    مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يناقش العنف في الكونغو    درجات الحرارة الصفرية تؤدي لتجمد المياه في الأماكن المفتوحة بتبوك    العُلا.. متحف الأرض المفتوح وسِجل الزمن الصخري    طقس بارد وصقيع في شمال المملكة ورياح نشطة على الوسطى والشرقية    ملامح الزمن في ريشة زيدان: رحلة فنية عبر الماضي والحاضر والمستقبل    ناقتك مرهّمة؟!    «الشورى» يوافق على 5 مذكرات تفاهم مع دول شقيقة وصديقة    «تبادل القمصان»    «سدايا»: طورنا أقصى قيمة ممكنة في الذكاء الاصطناعي لتبني الاستخدام المسؤول    كأس العالم للرياضات الإلكترونية يضم "FATALFURY" إلى قائمة بطولات الأندية لنسخة 2025    «حصوة وكرة غولف» في بطنك !    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تباين    أدريان ميرونك يتصدر منافسات الأفراد في أول أيام بطولة "ليف جولف الرياض"    لأول مرة.. مبيعات التجارة الإلكترونية عبر «مدى» تتجاوز 1.000.000.000 عملية    أمانة المدينة تدشّن نفق تقاطع سعد بن خيثمة مع "الدائري الأوسط"    ما العلاقة بين لقاحات كورونا وصحة القلب ؟    أضرار الأشعة فوق البنفسجية من النافذة    أرض الحضارات    «قيصر» السوري يكشف عن هويته بعد أعوام من تسريب صور التعذيب    لصوص النت.. مجرمون بلا أقنعة    إنترميلان يسقط بثلاثية أمام فيورنتينا بالدوري الإيطالي    الأردن: إخلاء 68 شخصاً حاصرهم الغبار في «معان»    سبق تشخيصه ب«اضطراب ثنائي القطب».. مغني راب أمريكي يعلن إصابته ب«التوحد»    دور وزارة الثقافة في وطن اقرأ    يا بخت من زار وخفف    لماذا لا يجب اتباع سنة الأنبياء بالحروب..!    فقط في المملكة العربية السعودية !    لا تحسد الثور على كُبر عيونه    العالم الصلب تسيل قواه.. والمستقبل سؤال كبير !    كيف كنا وكيف أصبحنا    أمانة القصيم تُقيم برنامجًا في الإسعافات الأولية مع هيئة الهلال الأحمر    وكيل وزارة الداخلية يرأس اجتماع وكلاء إمارات المناطق    القادسية يتغلّب على الرائد بثنائية في دوري روشن للمحترفين    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس الجزائر في وفاة رئيس الحكومة الأسبق    «أخضر 20» يخسر ودية إيران    جسر حضاري يربط المملكة بالعالم    الملك وولي العهد يُعزيان ملك السويد في ضحايا حادثة إطلاق نار بمدرسة    "الرياض للجولف" يحتضن أبرز البطولات العالمية للرجال والسيدات    الحميدي الرخيص في ذمة الله    القتل تعزيراً لمهرب الإمفيتامين في مكة    تغيير مسمى ملعب الجوهرة إلى ملعب الإنماء حتى عام 2029م بعد فوز المصرف بعقد الاستثمار    ثبات محمد بن سلمان    «8» سنوات للأمير سعود في خدمة المدينة المنورة    إطلاق برنامج التعداد الشتوي للطيور المائية في محمية جزر فرسان    لبلب شبهها ب «جعفر العمدة».. امرأة تقاضي زوجها    رعي الحفل الختامي لمسابقة التحفيظ .. أمير الرياض: القيادة تهتم بالقرآن الكريم وحفظته والقائمين عليه    النزاهة مفهوم عصري    مفتي عام المملكة يستقبل المشرف على وحدة التوعية الفكرية بجامعة الملك فيصل    الرديني يحتفل بعقد قران نجله ساهر    آدم ينير منزل شريف    ملك الأردن : نرفض محاولة تهجير الفلسطينيين    "سدايا" تجمع روّاد الابتكار بمؤتمر" ليب".. السعودية مركز عالمي للتقنية والذكاء الاصطناعي    سبعة مستشفيات سعودية ضمن أفضل 250 مستشفى عالميًا    ألما يعرض 30 عملا للفنانة وفاء الشهراني    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية والرئيس الألماني    الرئيس السوري أحمد الشرع يغادر جدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل أصبحت الحداثة تراثاً أم هل هي تراث ضد نفسه ؟ 2 من 2
نشر في الحياة يوم 03 - 11 - 1999

لا يزال الهندو - اوروبيون، الذين تفصلهم آلاف الاميال وآلاف السنوات، يحافظون على تصور ثلاثي للعالم. وأنا مقتنع ان شيئاً مشابها ينطبق على الشعوب المنغولية، في آسيا وكذلك في اميركا، وذلك العالم ينتظر مفكراً مثل دوميزيل ليظهر وحدته العميقة. وقد لاحظ بعض الباحثين، قبل بنجامين لي وورف Benjamin Lee Whorf الذي كان أول من صاغ، منهجياً، التغاير بين البنى الذهنية للأوروبيين وبنى الHopi، لاحظوا وجود واستمرار الرؤية الرباعية للعالم الشائعة بين الهنود الاميركيين. لكن الاختلافات بين الحضارات تخبئ وحدة سرية: الانسان. والفروقات الثقافية والتاريخية هي عمل مؤلف واحد يطرأ عليه تغيير طفيف. والطبيعة البشرية ليست وهماً: انها العامل المستمر الذي ينتج التغيرات، وتنوع الثقافات، والتواريخ، والأديان، والفنون.
يمكن ان نستنتج ان تسريع التاريخ وهمي، او من المرجح اكثر، ان التغيرات تتلمس السطح وحسب من دون ان تغير الواقع العميق. وتتبع الحوادث بعضها ويخبئ تضخم التاريخ المشهد الطبيعي، الذي تحت الماء، لأودية وجبال ثابتة. بأي معنى، اذن، نستطيع ان نتحدث عن تراث حديث؟ يمكن ان يكون تسريع التاريخ وهمياً او حقيقياً - فالفكرة يمكن ان يشكك بها بشكل شرعي - لكن المجتمع الذي ابتكر تعبير "التراث الحديث" هو مجتمع فريد. وتتضمن العبارة اكثر من تناقض منطقي وألسني: انها تعبر عن ذلك الوضع الدراماتيكي لحضارتنا التي لا تبحث عن اساسها في الماضي او في مبدأ ما ثابت، وإنما في التحول. وسواء اعتقدنا ان البنى الاجتماعية تتغير ببطء شديد والبنى الذهنية ثابتة، او سواء آمنا بالتاريخ وتحولاته التي لا تنتهي، تبقى حقيقة واحدة: لقد تغيرت صورتنا عن الزمن. ان مقارنة فكرتنا عن الزمن مع فكرة مسيحية تعود الى القرن الثاني عشر، تجعل الفرق واضحاً على الفور.
وكما تغيرت صورتنا عن الزمن تغيرت علاقتنا مع التراث. ان نقد التراث يبدأ بوعي الانتماء الى تراث وتعيش الشعوب التراثية منغمسة في ماضيها من دون ان تطرح عليه اسئلة. تعيش في تراثاتها ومعها من دون ان تمتلك وعياً بها. وحالما يدرك انسان انه ينتمي الى تراث، فهو يعرف ضمنياً انه مختلف عن ذلك التراث، وعاجلاً ام آجلاً تكرهه هذه المعرفة على طرح الاسئلة عليه، وفحصه، وأحياناً انكاره.
ويتميز عصرنا عن حقب ومجتمعات اخرى من خلال الصورة التي شكلناها عن الزمن. بالنسبة الينا، الزمن هو جوهر التاريخ، الزمن ينتشر في التاريخ. ومعنى "التراث الحديث" يبزغ بشكل اكثر وضوحاً: انه تعبير عن وعينا التاريخي. انه نقد للماضي، وهو محاولة، كررت مرات في القرنين السابقين، لتأسيس تراث على المبدأ الوحيد المنيع على النقد، لأنه شرط ونتيجة النقد: التحول، التاريخ.
تختلف العلاقة بين الماضي، والحاضر، والمستقبل في كل حضارة. ففي المجتمعات البدائية، النموذج الأصلي الزماني للحاضر والمستقبل، هو الماضي - ليس الماضي القريب، بل الماضي السحيق الذي يرقد وراء اي ماض، في بداية البداية. وكنبع، يتدفق ماضي كل ماضٍ باستمرار، يجري في الحاضر ويصبح جزءاً منه: وهو الحقيقة الوحيدة المهمة.
والحياة الاجتماعية ليست تاريخية وانما طقسية، لا تصنع من تعاقب تغيرات وانما من التكرار الايقاعي للماضي اللازمني. وهذا الماضي الحاضر دائما يحمي المجتمع من التغير من خلال خدمته كنموذج للمحاكاة ومن خلال تحقيقه الدوري في الطقس. ويمتلك الماضي طبيعة مزدوجة: انه زمن غير قابل للتحول، مغلق، انه ليس ما حدث مرة، بل ما يحدث دائماً. ينجو الماضي من كل من الحدث والمصادفة، وعلى رغم انه زمن، فهو ايضاً نفي للزمن. وهو يذيب التناقضات بين ما حدث البارحة وما يحدث اليوم. والعرف هو ان يكون عصياً على التغيير: ينبغي ان يحدث كل شيء كما في الماضي اللازماني.
لا شيء يمكن ان يكون معارضاً لمفهومنا في الزمن اكثر من مفهوم البدائيين، بالنسبة الينا الزمن هو حامل التغيير، وبالنسبة اليهم هو الوسيط الذي يقمعه. وأكثر من كونه مقولة زمنية فإن ماضي الانسان البدائي هو حقيقة وراء الزمن: البداية الاصلية. ولقد تخيلت جميع المجتمعات، عدا مجتمعنا، مكاناً ماورائياً، حيث يستريح الزمن متصالحاً مع نفسه، ويتوقف عن التغير، لأنه، بعد ان يصبح شفافية ثابتة، يتوقف عن التدفق، أو لأنه متدفق بلا نهاية، يبقى متماثلاً مع نفسه. ينتصر مبدأ الهوية: تختفي التناقضات لأن الزمن التام يوجد خارج الزمن. وبالنسبة الى الشعوب البدائية، على النقيض من المسيحية أو المسلمة، النموذج اللازماني موجود ليس في ما بعد بل في ما قبل، ليس في نهاية الزمن وانما في بداية البداية. انه ليس الحالة التي يجب ان نصل اليها حين يلغى الزمن، بل ما يجب ان نحاكيه منذ البداية.
نظر المجتمع البدائي بمقت الى التنوعات التي يتضمنها مرور الزمن، وكانت التغيرات نذر شؤم بالنسبة اليه. وما نسميه التاريخ هو خطأ، سقطة. ولقد نظرت الحضارات الشرقية والمتوسطية، كتلك الاميركية السابقة على كولومبوس، الى التاريخ بالريبة نفسها لكنها لم تنكره هكذا بشكل جذري. ان ماضي البدائيين ثابت وحاضر دائماً، اما ماضي الثقافات الشرقية والمتوسطية ينتشر في دوائر ولوالب: عصور العالم. انه تحول مدهش للماضي اللازماني، ينقضي، وخاضع للتغير، ويصبح زمانياً. والماضي هو البذرة البدائية التي تتبرعم، وتنمو، وتستنفد نفسها، وتموت - لتولد ثانية. ولا يزال النموذج هو الماضي قبل جميع العصور، زمن البداية السعيد، الذي يحكمه تناغم السماء والأرض. لكنه ماض يمتلك الخصائص نفسها التي تمتلكها النباتات والكائنات الحية، انه مادة مفعمة بالحيوية، تتغير، وفضلاً عن ذلك، تموت. والتاريخ هو حط من قدر الزمن الاصلي، سيرورة بطيئة وعنيدة للانحطاط الذي ينتهي بالموت. والتكرار هو علاج التغير والانقراض، الزمن ينتظر في نهاية كل دورة. الماضي عصر قادم، المستقبل يقدم صورة مزدوجة: نهاية الزمن وولادته من جديد، فساد الماضي البدئي وانبعاثه. نهاية الدورة هي استعادة الماضي الأصلي - وبداية السقوط المحتم. ويختلف هذا المفهوم، بشكل واضح، عن مفهوم المسيحيين والحديثين: بالنسبة الى المسيحيين، الزمن التام هو الأبدية - الزمن ملغى، التاريخ ممحوق، اما بالنسبة الى الحديثين، اذا وجد الكمال، لا يمكن العثور عليه الا في المستقبل. وأيضاً، مستقبلنا لا يشبه الماضي او الحاضر، انه اقليم المفاجأة، بينما مستقبل المتوسطيين والشرقيين القدماء يجري في الماضي.
يمتلك العالم الغربي اسماً لهذا الزمن البدئي الذي هو نموذج جميع الازمنة، عصر التناغم بين الانسان والطبيعة وبين الانسان والانسان: العصر الذهبي. في الحضارات الاخرى - الصينية، والاميركية الجنوبية - اليشب لا الذهب، رمز الى التناغم بين الخطة الاجتماعية للكائنات البشرية وخطة الطبيعة. لقد جسد اليشب من الاحجار الكريمة اخضرار الطبيعة الذي يعود دائماً، كما رمز الذهب الى تجسد ضوء الشمس. اليشب والذهب رمزان مزدوجان، مثل كل شيء يعبر عن ميتات وانبعاثات الزمن الدوري. في احدى المراحل الزمن مكثف ومحول الى مادة صلبة ثمينة، وكأنه كان يتمنى ان ينجو من التغير وانحطاطه، في مرحلة اخرى، الحجر والمعدن ناعمان، هما ثانية زمن، وحين يتحولان الى خضار وبراز حيواني وعفونة، يتحللان. لكن التحلل والتفسخ هما ايضاً انبعاث وخصب: كان المكسيكيون القدماء يضعون كرة من اليشب في افواه موتاهم.
وعكس غموض الذهب واليشب غموض الزمن الدوري: ان النموذج الأصلي الزماني يوجد في الزمن ويتبنى شكل ماض يعود - فقط ليتحرك ويبتعد مرة اخرى.
وسواء كان اخضر او ذهبياً، الزمن السعيد هو زمن انسجام، اتحاد للأزمنة، لا يستمر الا لحظة. انه ميثاق صحيح: تكثيف الزمن في قطرة يشب او ذهب يتبعه تشتت وفساد. التكرار يمنع عنا تغيرات التاريخ فقط ليخضعنا لها بشكل اكثر قسوة. تتوقف عن كونها حادثة، سقطة، او خطأ، وتصبح اللحظات التعاقبية لسيرورة لا ترحم. ولا تنجو الآلية من الدورة.
تروي جميع الاساطير، من المصريين الى اليونانيين الى الآزتيكيين، قصة ولادة، وموت، وانبعاث الآلهة. في قصيدة هندية حمراء يختفي كويتثالكوتل في الأفق "حيث تلتقي مياه البحر بمياه السماء". وسيعيد الظهور في الأفق نفسه، حين يصبح الغسق فجراً.
ألا يوجد مهرب للخروج من دائرة الزمن؟
تخيلت الهند، منذ بداية حضارتها، "ما وراء" ليس زمناً بالضبط لكنه نفي له: انه كائن ثابت متماثل مع نفسه براهمان او فراغ ثابت بشكل مساو نرفانا. براهمان لا يتغير ابداً، ولا يمكن ان يقال عنه شيء، عدا انه هو، ولا شيء يمكن ان يقال عن النرفانا، ليس حتى انها ليست هي. في كلتا الحالتين نحن نتعامل مع واقع وراء الزمن واللغة، واقع لا يقر بأية اسماء سوى اسماء النفي الكوني، لأنه ليس هذا او ذاك او ما يكمن في الماوراء. انه ليس هذا او ذاك، ومع ذلك هو كلاهما. لا تكسر الحضارة الهندية الزمن الدوري، انما تبدده وتحيله الى سلسلة من الأوهام الخيالية دون ان تنكر حقيقته التجريبية. وهذا النقد للزمن، الذي يحول التغير الى وهم، هو طريقة اخرى اكثر جذرية، لمعارضة التاريخ.
ان الماضي اللازماني للانسان البدائي، يصبح زمنياً، مجسداً، ويصبح الزمن الدوري للحضارات المتوسطية والشرقية. الهند تبدد الدوائر: انها حرفياً حلم براهمان. في كل مرة يستيقظ فيها، يتبدد الحلم. ان دوام هذا الحلم يرعبني: سيستمر العصر الذي نعيش فيه الآن - بالأحرى حلم هذا العصر، الذي يتصف بالامتلاك غير العادل للثروة - اربعمئة واثنان وثلاثون الف عام. ويرعبني اكثر معرفة انه في كل مرة يستيقظ فيها الإله يحكم عليه ان ينام مرة اخرى كي يحلم الحلم نفسه. هذا الحلم الواسع، الدائري، الوحشي والرتيب، غير حقيقي لمن يحلمه بل حقيقي لنا الذين حلم بهم. ويكمن خطر هذه الراديكالية الميتافيزيقية في ان الانسان لا يستطيع ان ينجو من النفي الكوني. ما الذي سيبقى للانسان بين التاريخ بدوائره غير الواقعية وواقعية بلا لون تخلو من النكهة والمواصفات؟
بددت الهند الدوائر، المسيحية قطعتها. قبل لحظة الاشراق، يستدعي غواتمات حيواته السابقة ويرى، في اكوان وعصور كونية اخرى، غواتمان آخرين يختفون في الفراغ. اما المسيح فقد جاء الى الأرض مرة واحدة. كان العالم الذي انتشرت فيه المسيحية يؤمن بانحطاطه المحتم، وكان البشر مقتنعين انهم يعيشون نهاية دورة. وقد عُبر عن هذه الفكرة احياناً بمفردات مسيحية تقريباً: "ستتبدد العناصر الأرضية وتتهدم بحيث يمكن ان تخلق كلها من جديد ببراءتها الأولى". ويتواشج الجزء الأول من جملة Seneca مع ما آمن به المسيحيون وأملوا قدومه: اقتراب نهاية العالم.
من المرجح جداً ان احد اسباب العدد الكبير من الارتدادات الى الدين الجديد كان الايمان بالنهاية الوشيكة. وقدمت المسيحية جواباً على التهديد الذي حوم فوق البشرية. هل كان كثيرون سيرتدون لو كانوا يعرفون ان العالم سيستمر عدة الاف من السنين؟ اعتقد القديس اوغسطين ان عصر الانسانية الأول، منذ سقوط آدم الى تضحية المسيح، استمر اقل بقليل من ستة آلاف عام، وان العصر الاخير، عصرنا، لن يستمر الا بضعة قرون.
تضمن الزمن الدائري للفلاسفة الوثنيين عودة عصر ذهبي، لكن هذا التجدد الكوني، بغض النظر عن كونه ارجاء للحركة العنيدة نحو الانحطاط، لم يكن مترادفاً مع الخلاص الفردي. وعدت المسيحية بالخلاص الفردي، وهكذا انتج انتصارها تغييراً جوهرياً: لم يعد بطل المسرحية الكونية العالم بل الانسان - او بالاحرى كل انسان. تغير مركز جاذبية الزمن. كان زمن الوثنيين الدائري لانهائياً ولاشخصياً، وكان الزمن المسيحي متناهياً وشخصياً.
دحض أوغسطين فكرة الدوائر بحجج مثيرة للفضول قائلاً من السخف ان الارواح العاقلة لا تتذكر انها عاشت جميع تلك الحيوات التي تحدث عنها الفلاسفة الوثنيون، ومن السخف ايضاً ان نسلم، في الوقت نفسه، بالحكمة وبالعود الأبدي: "كيف تستطيع الروح الخالدة التي اكتسبت الحكمة ان تخضع لهذه الهجرات التي لا تتوقف بين سعادة كاملة وشقاء غير حقيقي؟".
وأصبحت صورة الزمن الدائري تصميماً شيطانيا، وجعلت ريموندو لال Raimundo Lull يقول بعد قرون: "ان الأسى في الجحيم هو كمثل حركة الدائرة". ان الزمن المسيحي المتناهي والشخصي، غير قابل للارتداد. وقال القديس اوغسطين انه ليس صحيحاً انه محكوم على افلاطون ان يدرّس طيلة دورات لا تحصى، في مدرسة في اثينا تدعى الاكاديمية، العقيدة نفسها للطلاب نفسهم: "يموت المسيح من اجل خطايانا وينهض من الموت مرة واحدة فحسب، ولن يموت بعد ذلك". حين كسرت المسيحية الدائرة وأدخلت فكرة زمن متناه غير قابل للارتداد، ابرزت "غيرية" الزمن، اوضحت تلك الصفة التي تجعل الزمن يتحرر من نفسه، ينقسم، ويفصل نفسه، ويصبح شيئاً آخر ومختلفاً دائماً. ولقد قطع سقوط آدم الحاضر الابدي للفردوس: بداية الزمن التعاقبي هي بداية الانفصال. الزمن، الذي ينشق باستمرار، يكرر دوماً القطيعة الاصلية، القطيعة عن البداية: تقسيم الحاضر الأبدي الى أمس، اليوم، والغد، وكل منها مختلف وفريد. هذا التغير المتواصل هو علامة النقص، اشارة السقوط كل لحظة هي فريدة ومتميزة لأنها منفصلة، مقطوعة عن الوحدة. التاريخ مرادف للسقوط. وما يختلف عن تغاير الزمن التاريخي هو وحدة الزمن التي تأتي بعد كل زمن. في الأبدية تنتهي التناقضات، يتصالح كل شيء، والمصالحة تنجز الكمال ، وحدتها الأولى والاخيرة. ومجيء الحاضر الأبدي، بعد يوم القيامة، هو موت الموت - موت التغيير. وتأكيد الأبدية المسيحية ليس أقل رعباً من نفي الهند لها.
في دائرة الجحيم الثالثة، حيث يعاني الشرهون في بحيرة من البراز، يلتقي دانتي بشخص من بلاده، وهو رجل بائس يدعى Ciacco بعد ان يتنبأ بمصائب مدنية جديدة في فلورنسة - يمتلك الفاسدون موهبة الرؤية الثانية - ويطلب من دانتي ان يذكر الشعب به حين يعود الى الأرض، يغوص المسكين سياكو تحت المياه القذرة. يقول فرجيل: "لن يخرج مرة اخرى، الى ان يصدح البوق الملائكي"، وهذا سيحدث يوم القيامة. يسأل دانتي دليله ان كان الم هذه الروح سيزداد او يخف بعد "يوم القيامة العظيم". يجيب فرجيل: ستزداد معاناته لأنه في حالة الكمال الأكبر، يجب ان يكون كل من النعيم والألم أكبر. في نهاية الزمن كل شيء وكل كائن سيكونان ما هما بشكل اكثر كمالاً: يتواشج امتلاء المتعة في الفردوس، بدقة، ونقطة نقطة، مع اكتمال المعاناة في الجحيم.
ماضي البدائيين اللازماني، الزمن الدائري، الفراغ البوذي، انحلال الأضداد في براهمان او الأبدية المسيحية: ان السلسلة الكاملة لمفهومات الزمن ضخمة، لكن هذا التنوع يمكن ارجاعه الى مبدأ واحد. ان جميع هذه النماذج الاصلية، رغم امكانية اختلافها، هي محاولات لمحق التغيير او على الأقل لدفعه الى الحدود الدنيا. وهي تواجه تعدد الزمن الحقيقي بوحدة زمن مثالي، غيرية الزمن بهوية زمن وراء الزمن. وتسلم المحاولات الاكثر جذرية، كمثل الفراغ البوذي والأنطولوجيا المسيحية، بمفهومات تختفي فيها الغيرية والتناقض، المتضمنان في مرور الزمن، بعد ان يحل مكانهما زمن لازماني. وتميل نماذج اصلية زمانية اخرى الى خلق التناغم بين المتضادات دون قمعها بشكل كامل، اما من خلال وصل الازمنة بماض سحيق يصبح الحاضر باستمرار، او من خلال فكرة دوائر او عصور العالم. انفصل عصرنا فجأة عن هذه الطرق من الفكر. بعد ان ورث زمن المسيحية احادي الخط وغير القابل للارتداد، تبنى المعارضة المسيحية للمفاهيم الدورية، لكنه انكر، وبشكل متزامن، النموذج الاصلي المسيحي وأكد واحداً ينفي جميع افكار وصور الزمن التي صنعها الانسان نفسه.
ان العصر الحديث هو العصر الأول الذي يعلي التغير ويحوله الى اساس. الاختلاف، الانفصال، الغيرية، التعدد، الابتكار، التطور، الثورة، التاريخ - جميع هذه الكلمات يمكن ان تكثف في كلمة واحدة: المستقبل. لا الماضي ولا الابدية، لا الزمن الذي ليس الا الزمن الذي ليس بعد والذي سيبقى دائماً سيأتي: هذا هو نموذجنا الأصلي.
زار انكلترا في نهاية القرن الثامن عشر هندي مسلم يدعى ميرزا ابو طالب خان. حين عاد كتب انطباعاته. من بين الاشياء التي ادهشته بالاضافة الى التقدم الميكانيكي، وحالة العلم، وفن المحادثة، والفتيات الانكليزيات، "اشجار السرو الأرضية التي تقمع جميع الرغبات لتستريح في ظل اشجار الفردوس" يعثر المرء على فكرة التقدم: "يمتلك الانكليز آراء غريبة جداً بخصوص ما يعنيه الكمال. يصرون انه صفة مثالية تستند بشكل كامل الى المقارنة، ويقولون ان البشرية صعدت تدريجياً من حالة الوحشية الى الكرامة الرفيعة للفيلسوف نيوتن، ولكن بعيداً عن الوصول الى الكمال، من المحتمل في عصور المستقبل ان ينظر الفلاسفة الى اكتشافات نيوتن بنفس الازدراء الذي ننظر به الآن الى الحالة الساذجة للفنون بين البدائيين". بالنسبة لأبي طالب كمالنا مثالي ونسبي. لا يمتلك ولن يمتلك حقيقة، سيكون دائماً غير كاف وناقصاً. ليس كمالنا ما هو منجز بل ما سيأتي. كان القدماء يخافون من المستقبل وابتكروا صيغاً كي يطهروه. اما نحن فسنمنح حياتنا لنعرف وجهه المشع - الوجه الذي لن نراه أبداً.
ترجمة: أسامة اسبر - دمشق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.