بعد أربعين عاماً من البحث عن سميح الذاهل يقرر الراوي جابر السدرة الحفيد كتابة حكاية بطل الرواية جابر السدرة الجد وبحثه الدائب عن سميح. هذا الإطار الذي يجمع بين الحفيد - الراوي والجد - بطل الرواية يصطنعه الروائي السعودي تركي الحمد في روايته "شرق الوادي" ليرصد تحولات المجتمع السعودي من المرحلة القبلية والصراع على النفوذ الى مرحلة قيام الدولة على يد مؤسسها عبدالعزيز بن سعود وصولاً الى اكتشاف النفط وما أحدثه من تحولات عميقة في نسيج هذا المجتمع. وهكذا، تغطي الرواية مرحلة تاريخية طويلة تمتد نيّفاً وأربعة عقود، وهذه التغطية لا تتم مباشرة فتتحول الرواية الى اثر تاريخي، بل من خلال كتابة حكاية بطل الرواية جابر السدرة الجد منذ ولادته في قرية نجدية في اعماق نفود هي خب السماوي الى وفاته فيها، ومن خلال رسم الاطار التاريخي العام الذي تدور فيه الاحداث الخاصة، فبواسطة هذا التداخل بين الخاص والعام والتفاعل بينهما تقدم الرواية تاريخاً فنياً للمجتمع السعودي في تحولاته منذ عشرينيات القرن الآفل. يولد جابر السدرة في مكان روائي اقرب الى الخيال منه الى الحقيقة هو خب السماوي. ولعل اضافة كلمة "خب" التي تعني لغةً: الغامض المطمئن من الأرض، الى كلمة "السماوي" تشي بأن للسماويات والغيبيات والماورائيات حضوراً طاغياً في مثل هذا المكان. ففي هذه القرية لا يحس الناس بمرور الزمن ولا معنى للزمان والمكان عندهم، فهم يعيشون حياة بسيطة، يصلّون ويعملون فقط بانتظار العودة الى الجنّة، ولا يعرفون السنين بأرقامها بل بأحداثها، فيضيفون السنة الى الحدث، ويقولون: سنة الإمام، سنة الغيث، سنة المحل، سنة الجدري. في هذا المجتمع البسيط المنغلق يبدأ جابر السدرة البحث عن سميح الذاهل صديق الطفولة الغريب الأطوار الذي اختفى ذات يوم في ظروف غامضة، ويظهر بين الفينة والأخرى ليلقي بكلام غريب غامض ويختفي من جديد طارحاً الأسئلة حول ماهيته" فهل هو إنسيّ أم جنّي أم ملاك؟ ويكون بحث جابر اول الأمر بالإستماع الى حكاية سميح من رجل كبير السن هو ابو عثمان السائح الذي يروح يحكي الحكاية في جلساتهما المشتركة على نفود يتناولان القهوة والتمر، وتستمر الحكاية على مدى الفصلين الأولين من الرواية. وهنا، نقع على تقنية تداخل الرواة حيث يقوم ابو عثمان بدور الراوي ضمن الراوي العام الحفيد. ويبدو سميح في هذه الحكاية شخصية غامضة، تختلط فيه الحقيقة بالخيال والواقع بالوهم والخرافة، ويرمز الى الجانب الغيبي في حياة اهل الخب، اولئك الذين يدفعهم العيش في مكان صحراوي محدّد الى اطلاق العنان لأخيلتهم تحقيقاً لنوع من التوازن بين واقع قاس وخيال رحيب. وينتقل جابر من مرحلة البحث بالإصغاء الى البحث الفعلي، فيقصد الرياض في وقت يتربص فيه شيوخ القبائل بعضهم ببعض، ويسعى عبدالعزيز الى اقامة الدولة، فينضم الى جيشه في غزوه مكة ظناً منه ان سميحاً موجود فيها، وهنا يتقاطع العام مع الخاص، وفي هذه الفترة يظهر سميح ويختفي ويشاهده جابر في الحلم، ثم لا يلبث ان يعود إلى الخب لعله يعثر عليه. وإذ يفشل في ذلك، يقرر السفر الى الشام بحثاً عنه، فيكتشف عالماً جديداً في عمّان، ويواجه ذلك البدوي المدنيّة لأول مرة، ويركب السيارة من نابلس الى القدس، ويسمع ترتيل المزامير ورنين الأجراس. وما ان يتخيّل نجدياً في القدس يخبره انه شاهد سميحاً عند المسجد الأموي في دمشق حتى يقفل جابر إليها، وهكذا، نرى ان هذه الشخصية غير عقلانية تقودها التخيلات والأوهام والأحلام في احيان كثيرة. وفي دمشق يتزوج جابر من فتاة نجدية الأصل ويلد منها. ثم ينتقل جابر الى الظهران للعمل مع الأميركان في استخراج النفط، فيرى نفسه في مواجهة الآخر المختلف في المعتقدات والعادات ونمط العيش. وهنا، يبدأ بالتنازل تدريجاً عن مبادئه، وعلى رغم حصوله على الحظوة والمال تبدأ سلسلة من المنغّصات بالتسرّب الى حياته، وتقوده الظروف الجديدة الى مجاراة الآخر في عاداته وتقاليده وأنماط عيشه، فيتعاطى ما كان يعتبره حراماً، ويشكل اتصاله بالأميركان والعمل معهم نقطة تحوّل في مسار حياته، يربط بها ما حلّ به بعد ذلك من مآسٍ بدءاً من موت زوجته زهرة وصولاً الى اختفاء زوجته الأخرى غريس وابنه سميح في بيروت في ظروف غامضة. وعلى رغم ما اكتسبه جابر من جراء العلاقة بالآخر من معارف وآفاق وخبرات، فإنه يتوق الى العودة الى الخب ليموت فيه، ويعبّر عن هذا التوق بقوله وهو يحتضر: "آن للإبن الضال أن يعود" موحياً ان الخروج من الخب كان ضلالاً بضلال. وعلى هامش هذه السيرة للبطل تطالعنا سِيَر لشخصيات اخرى تتوازى او تتداخل معها، وتعكس العلاقات بين هذه الشخصيات تطور الأحداث والتحولات في الرواية. وكثيراً ما يضع الروائي هذه الأحداث في اطار اوسع هو التحولات التاريخية التي حصلت في السعودية او البلاد العربية وتركت تأثيرها على ابطال الرواية ومصائرهم فيتداخل العام بالخاص ويؤثر فيه في معظم الأحيان. ولذلك، نقع في الرواية على الصراع على النفوذ، وقيام الدولة على يد عبدالعزيز بن سعود، وصعود المد الناصري، والإنقلاب على الملك فيصل في العراق، ونكسة العام 1967. ولا بد لهذه الأحداث من ان تترك بصماتها على احداث الرواية ومصائر شخصياتها ولا سيما جابر السدرة. وهنا، نشير الى ان هذه الشخصية، على نشأتها في بيئة بسيطة، هي شخصية مركّبة تجمع بين المتناقضات" فجابر يحب الإقامة في الخب ويكثر من الأسفار، يخلط بين الحقيقة والخيال، يصلّي ويرتكب المعاصي، يكره الأميركان ويعمل لديهم، يرى في أتباع الديانات الأخرى كفّاراً ويتزوج منهم ويعجب بطقوسهم الدينية، يزني ولكنه يرفض لحم الخنزير، يميل الى العمّال ويعمل ضدهم، يدّعي التديّن وينغمس في الشهوات، يحصل على دبلوم ويعتقد بالأساطير والخرافات. وهكذا، يمكن القول ان التحولات التي نجمت عن اكتشاف البترول لم تستطع ان تنقل جابراً والشريحة الإجتماعية التي يمثل من التفكير الغيبي الى العقلاني، وكثيراً ما طغى الأول على الثاني في تصرفات هذه الشخصية وسواها، فالتحول كان خارجياً، مادياً اكثر منه داخلياً. هذه الحكاية يقولها تركي الحمد بخطاب روائي ملائم لها، نجح في أن يوائم فيه بين الشكل والمضمون" وفي هذا السياق أطلق على فصول روايته تسمية الأسفار، ومهّد لكل سفر بنصّ مقتبس من كتاب ديني او اسطورة او من "قصص الأنبياء" للثعلبي او من "بدائع الزهور" لإبن أياس، فأراد ان يقول في الشكل ما قاله في المضمون من تجاور الغيبي والعقلي في المجتمع الذي تتحدث عنه الرواية. وكثيراً ما يعمد الى التناص فيورد النص المقتبس في متن السفر او الفصل انسجاماً مع سياق معيّن. ومن مواصفات هذا الخطاب اكثاره من اسماء الأماكن والأحداث والشخصيات العامة والأمثال الشعبية، واستخدام اللهجات المحلية في السرد والحوار، وإيراد بعض العبارات الإنكليزية ما يمنح هذا الخطاب صدقيته الفنية وواقعيّته، غير ان اتاحته هامشاً واسعاً للغيبيات والماورائيات يجعله قريباً من الواقعية السحرية. اما استشهاده بالشعر الفصيح والشعبي فيقرّبه من السيَر الشعبية مع العلم ان بعض المأثورات التي وردت فيه ولا سيما الشعرية منها جاءت من قبيل الاستطراد الذي يثقل كاهل الخطاب ويخلخل تماسك السياق الروائي وخصوصاً حين يكون المأثور طويلاً. وقد أكثر الحمد من استخدام تقنية الحلم في روايته ليرهص بأحداث ستقع ما يجعل الحلم منسجماً مع السياق، كما استخدم تقنية الرسالة في بعض المواضع. وتعددت الأصوات الراوية وانتظمت في اطار الراوي الأساسي. هذه التقنيات استخدمها الحمد بلغة سلسة، لا تطول جملها ولا تقصر، تجنح نحو اللغة السردية وتتخفف من الأثقال الأدبية والبلاغية، وتسمي الأشياء بأسمائها، وتستخدم المفردات والتعابير المحلية ما يمنحها الصدق الفني إلا أنه يحول دون سهولة فهمها. وهي لغة يغلب فيها السرد على الحوار، وهو سرد بطيء حيناً يعنى بالتفاصيل الصغيرة، وحيناً يقفز قفزات طويلة تبلغ سنوات. وفي بعض الأحيان يحملنا البطء في السرد على الإحساس أننا في مواجهة حكواتي يروح يجلدنا بالتفاصيل على ضوء قنديل باهت. غير أنه لا بد من الإشارة الى ان هذا الكمّ الكبير من التفاصيل والأحداث والأماكن، وهذه المدة الزمنية الطويلة التي تغطيها الرواية، وتلك المبالغات الخيالية، وذلك التعدد في الأجيال، تمنح هذه الرواية بعداً ملحمياً وتعكس جهداً كبيراً بذله الحمد في روايته ما يجعلها تستحق الجهد المبذول في قراءتها. * تركي الحمد، "شرق الوادي" رواية صادرة عن "دار الساقي"، 296 صفحة من القطع الوسط.