على رغم مضي نحو عقد من الزمان على نهاية الحرب اللبنانية، فهي لا تزال تشكل مادة أدبية يجري تناولها في أنواع أدبية وفنية شتى ولا سيما الرواية. لذلك، لا غرو ان تقذف إلينا المطابع، كل مدة، اثراً روائياً جديداً يرصد الحرب وما تمخّضت عنه من مضاعفات، على هذا المستوى او ذاك. وإذا كانت الحرب شكلت ذاكرة اللبنانيين قرابة عقدين من الزمان، فانه من الطبيعي ان تكون مادة روائية. فالرواية، في معظمها، صنيعة الذاكرة. ومجال عملها هو الماضي. ولا يعني هذا انها تستعيد الذكريات كما حصلت بالفعل، او تستحضر الماضي وتثبته بين دفتي كتاب، بل تصنع الذكريات، وتعيد تشكيل الماضي، وفي الصناعة والتشكيل ترفد المخيّلة عمل الذاكرة، ويشغل الفن حيزه الخاص. وهكذا، يسقط وهم المطابقة بين المعيش والمكتوب، بين الحياة والنص، غير ان المشابهة بين الاثنين تبقى قائمة، بل هي شرط لكي يأتي النص مقنعاً. ومن الروايات التي صدرت اخيراً، وتدور في هذا المناخ رواية "حارث المياه" لهدى بركات. والعنوان شعري يجمع بين مكوّنين متضادين. بل هو كناية أدبية تحيل الى العبث واللاجدوى والفراغ، فلا المياه تحرث، ولا حراثتها تؤتي زرعاً وغلالاً. فهل يشكل العنوان مدخلاً لقراءة المكتوب؟ الرواية هي نسيج هذه الحركة المكوكية بين الذكريات والوقائع، يقوم بها البطل /الراوي، وقد شرّدته الحرب، وسدّت في وجهه السبل، وحاصرته في مكان وسط بين المتقاتلين. فإذا به يتنقل بين الملجأ والذاكرة، بين الوقائع والذكريات لينسج لنا حكايته التي تجمع بين الواقعية الصارخة والغرابة المذهلة، ويختلط فيها الواقع بالخيال، والهلوسة بالحلم، والمنطق بالفوضى. ففي الحرب تختلط المفاهيم والأشياء وتتداخل، وينعدم المنطق الذي ينتظم الأحداث والإيقاع الذي يضبط الحركة، والرواية مجلى لانعكاس الحرب في الانسان والمكان والزمان. تقع احداث الرواية في منطقة وسط بيروت الفاصلة بين المتقاتلين، وبطلها نقولا تاجر قماش ورث المهنة أباً عن جد، تنوء عليه الحرب بكلكلها، يُحتل بيته في ستاركو، يُنهب محله في سوق الطويلة، يتشرّد. وبعد سنتين من الحرب تقوده خطاه الى المحل، فيكتشف ان الطابق السفلي فيه لا يزال مليئاً بالبضاعة، فيقفز من اليأس الى الأمل ويقرّر الإقامة في المكان رغم خلوّه من الناس، واقتصار الحياة فيه على الكلاب الشاردة والنباتات البرية. ويروح البطل /الراوي يتفقد المكان ويكتشفه كي لا يبقى خائفاً منه" فنكتشف معه اي اثر تركته الحرب على المكان حيث المحال تحولت الى فجوات، والأعشاب البرية أكلت الجدران المتهدمة، وأشجار الخروَع هنا وهناك. وإذا كان اكتشاف المكان يجعل البطل غير خائف منه، فان نوعاً آخر من الخوف بقي يطارده هو الخوف من الكلاب الشاردة والبشر، وسرعان ما يتبيّن ان الكلاب ارحم من البشر حين يستفيق على كلب يلحسه وقد نجا من المجزرة التي ارتكبها بعض البشر خلف السواتر الترابية. وهكذا، لم يعرف صاحبنا الأمان في هذا المكان الفاصل بين الأطراف المتحاربين، وكأن الالتحاق بأحدها كان شرطاً لازباً للإحساس بالطمأنينة. اما اولئك الذين بقوا في المنطقة الوسطى على الحياد فكان لا بد لهم من ان يدفعوا ضريبة الحياد تشرّداً وقلقاً وخوفاً وتهجيراً. ولعل الرواية، من حيث اختيار المكان، تروّج لعدم الانتماء الى هذا الفريق او ذاك رغم الثمن الغالي الذي قد يترتب على اللامنتمي دفعه. وفي مواجهة الخوف الذي يمثله المكان الوسط والسواتر الترابية، يلجأ نقولا إلى ملجأين اثنين يلقى عندهما الطمأنينة" المحل الذي يتكدس فيه القماش على انواعه يؤمّن له دفئاً خارجياً، والذاكرة التي يلوذ بها بحثاً عن دفء داخلي، على ان الذكريات تستثيرها وقائع معينة، ويروح البطل /الراوي بين الواقع والذاكرة ذهاباً وإياباً؟ فربّ واقعة تقود الى ذكرى، وربّ حاضر يبعث ماضياً دفيناً. وهو في علاقته بالماضي ينحو منحيين اثنين" يستحضره مرة بواسطة اللغة، ويذهب اليه مرة اخرى، فيبدو ما يرويه لنا وكأنه يحدث الآن. ولعل هدى بركات تحاول مخاتلة الزمن من خلال صيغ السرد التي تستعملها. وإذا كانت وقائع الرواية تتمحور حول المكان والتسكع فيه ورصد آثار الحرب عليه، وتصوير انعكاسها على البطل من الخارج والداخل، فان الذكريات تتمحور حول زمان مضى، فتستعيد مع شخصياته وأحداثه وأحاديثه. وهكذا، تطل من ذلك الزمان اسرة البطل بأبيه الذي يعلمه سر المهنة ويقص عليه تاريخ القماش والذي يشكل البطل امتداداً له يتماهى به في نهاية الرواية، وهو الرجل الحريص دائماً على ارضاء زوجته، وبأمه المتطلبة التي تفخر بجمال شكلها والصوت وتزهو بماضيها وأمجادها مازجة بين الواقع والخيال والحقيقة والحلم. وترتبط بالأب بعلاقة أحادية" تأمره فيطيع وتنهاه فيمتثل، وتقيم علاقة مع استاذ الموسيقى. وهذا النوع من العلاقة بين الأب والأم يكرره الابن - البطل مع شمسة - الخادمة التي تقوم على خدمة أمه. والرواية حين تبرز العلاقة بين نقولا وشمسة تحيل الى اجواء "الف ليلة وليلة"، وتذكر بالعلاقة بين شهريار وشهرزاد مع اختلاف في المواقع والأدوار والمصائر" وإذا كانت المرأة في "الف ليلة وليلة" هي التي تملك قوة المعرفة - الرواية وتحسن استخدامها في مواجهة سلطة القوة التي يمثلها شهريار، فتنجح في ترويضه وشفائه وامتلاكه، فيغدو الرجل عجينة طيّعة بين يديها تحسن تشكيلها، فان الرجل في "حارث المياه" هو الذي يملك قوة المعرفة وسر المهنة في مواجهة سلطة الجنس التي تمثلها شمسة، غير انه يفشل في ترويضها وامتلاكها حين لها بسر الحرير في الوقت غير الملائم. لذلك، ما ان تعرف شمسة هذا السر حتى تغادره نهباً لوساوسه تجتاحه الشهوة وتنهشه الرغبة في امتلاكها. وهنا، لا بد من الاشارة الى ان سر الحرير وأسرار الأقمشة الاخرى تشكل مادة معرفية تزخر بها الرواية. على ان سلطة السرد لم تكن حكراً على الرجل /البطل سواء حصلت مباشرة نقولا او بطريقة غير مباشرة الأب، بل كان للمرأة منها نصيب، فروَت شمسة حكاية اجدادها الاكراد وشذرات من تاريخهم وأساطيرهم. وهكذا، جمعت بين سلطة القص وسلطة الجنس، ولعل هذا هو سر تفوقها على الرجل في الرواية، رغم ان فعل السرد يتم بواسطة هذا الرجل. لكن هذا الرجل /الراوي /البطل ما يلبث ان يفقد احساسه بالمكان ويضيع الاتجاهات وموقعه، فيخلط بين الحقيقة والخيال، وهو الذي فقد احساسه بالزمن فغدا بالنسبة اليه مجرد ماضٍ وذكريات يجترها كل ليلة، وربما كانت هذه الحال من فقدان التوازن ناجمة عن الحرب والاقامة في الخلاء حيث لا إنس ولا جن لمدة طويلة. وإذ تراوده رغبة في الحركة في نهاية الرواية سرعان ما يعدل عن ذلك ليكتشف ان الحركة مجرد حراثة ماء، ويقول: "... علامَ اعود الى ذلك؟ ألم أقض حياتي كلها احرث بالماء؟". وهكذا، تنتهي الرواية نهاية عبثية ترى في الحياة مجرد حراثة ماء. هذه الحكاية تقولها هدى بركات بواسطة راوٍ مذكر، فهل تريد القول ان الكلام في الحرب هو للرجل ام ان الروائية تريد ان تواري نفسها خلف الراوي فلا يراها إلا من كان على معرفة بها؟ على انها تستخدم صيغة المتكلم في السرد" فيبدو الراوي وكأنه يتذكر سيرته الماضية ويروي الحاضرة، وتستخدم صيغة المخاطب احياناً لا سيما حين يتذكر البطل حبيبته شمسة، وكأنه يريد ان يستحضرها بواسطة اللغة بعد ان استدعاها بالذاكرة. وهنا، يرتقي فعل التذكر ليغدو فعل معاينة، وتكسر الصيغة جدار الزمن مستحضرة الماضي الذي خلفه. والسرد في الرواية يتناول حيّزين اثنين: حيّز الحركة الخارجية للبطل وتجواله في المكان، وحيّز الحركة الداخلية عبر الذاكرة وتجواله في الزمان، هو الحيّز الأكبر في الرواية. اما الخط الزمني الذي يتبعه فهو خط متكسر، فما ان يتقدم السرد في المكان من خلال تناوله الوقائع، حتى يرجع الى الزمان الماضي من خلال الذكريات. ثم يعود ليتقدم من جديد. وهكذا، ربّ فصل متقدم في الرواية يتناول زمناً سابقاً، فالتعاقب النصّي لا يعكس بالضرورة تعاقباً زمنياً في مجرى الاحداث. اما الحوار فهو غائب عن الرواية بشكله المباشر، وحاضر فيها بطريقة غير مباشرة من خلال استعادة الراوي /البطل حوارات سابقة، ولعل الروائية أرادت من خلال تغييب الحوار المباشر ان تحيلنا الى غياب الحوار في زمن الحرب، فيتشابه المكتوب والمعيش. وبالانتقال الى الشخصيات في الرواية، ثمة ما هو ذو حضور مباشر كشخصية نقولا والحرب والمكان. وثمة ما يحضر من خلال الراوي كالأب والأم وشمسة، وحضور هذه الاخيرة مرتبط بتحديد وضعية الشخصية الاساسية في الرواية. "حارث المياه" بوقائعها والذكريات، بحكايتها والخطاب تحيل الى بيروت في زمن الحرب" فالمكان الوسط المهجور يشير الى انه لا وجود لمن ليس طرفاً في الحرب، وغلبة الذكريات على النص تدل على فقدان الاحساس بالمكان والخارج وعكوف الناس على ذاكراتهم يستمطرونها غيث الأيام الماضية، وغياب الحوار وأحادية الراوي مؤشر واضح على سيطرة الصوت الواحد، وتداخل الأزمنة وتكسّرها يشي بانكسار ايقاع الزمن وتقطّعه. بهذه الحكاية وهذا الخطاب لا تعود الرواية مجرد حراثة للمياه، بل حراثة في حقل الأدب الروائي تنبئ بغلّة وفيرة، ومرة جديدة تثبت هدى بركات انها "فلاّحة" ماهرة. * حارث المياه، رواية لهدى بركات، صدرت عن "دار النهار"، بيروت، 174 صفحة.