قبل ايام قليلة، وفيما كنت ابحث في اوراق قديمة تركتها في بيروت، وقعت على 35 مقابلة شخصية سبق ان اجريتها في 1984. هذه المقابلات المتفاوتة حجماً، مع سياسيين وصحافيين، مهنيين وناشطين، لعبوا في هذه الفترة او تلك، دوراً عاماً ما، كان غرضها ان تخدم كتاباً عن الاحزاب اليسارية والمسلمة، لم استطع ان استكمل مقابلاته، ولا ان انجز قراءة مادته المكتبية والأرشيفية. ولهذا فالكتاب، في النهاية، لم يُكتب. وجدير بالذكر أن تعريف شخص ما او جماعة ما بالطائفة، لم يكن دائماً تبرّعاً من المتحدث، بل جاء غالباً جواباً عن سؤال مني. أما كلمة "الآن" فتردّ الى أواسط الثمانينات، والقياسات الزمنية تتم دائماً على ضوء هذا التاريخ. المقابلات التي سبق نشرها أجريت مع: نهاد حشيشو ومحمد مشموشي وباسم السبع ويوسف الأشقر ومصطفى بيضون ونجلا حمادة ومسعود ضاهر وعبدالله الأمين ونقولا طعمة وحبيب صادق وجوزيف سماحة وحسان حيدر ويوسف الصميلي وأسعد فوّاز وحسين الحسيني وسونيا دبس وسعيد صعب وجورج ناصيف ومحمد محيي الدين وعباس بيضون وناصري لم يذكر اسمه وابراهيم الأحدب وجهاد الزين ومحمد كشلي وسويدان ناصر الدين: وليد سكريّة: الجيش تخرجت من الكلية الحربية في 1973. قبل ذلك درست في مدرسة رمل الظريف، وشاركت في التظاهرة ضد ضرب المطار في 1968، كما شاركت في 23 نيسان ابريل 1969، وكنت في هذا العام قد اصبحت رئيس رابطة الطلبة. من البيت كسبت افكاري القومية العربية. والدي محمد اسماعيل سكريّة ترشح عن بعلبك - الهرمل على لائحة صبري حمادة في 1960، وكاد ينجح. وكمرشح ناصري خاض المعركة ثانية وثالثة في 1964 و1968. وانا، مبكرا، كنت اقرأ كتباً عن الثورات، وكنت ناصرياً نقدياً ويسارياً. صيف 1974 كانت المداهمات العسكرية في عكار، ولم يكن ثمة ما يشير الى خلاف في الجيش. وفي ايلول سبتمبر سافرت في دورة الى اميركا عدت منها في كانون الثاني يناير 1975، ثم جاءت حوادث صيدا فلم يظهر ايضاً ما يوحي بمشكلة في الجيش. والواقع ان بعض الضباط كانوا يكلّموننا عن بطولاتهم وعن انهم تمردوا على الأوامر وقصفوا. هذا يجد بعض اسبابه في ما كانوا يعلّموننا اياه في الكلية الحربية لجهة العزلة عن الناس مما لم انخدع به. كانوا يتحدثون عن الاحزاب بوصفها اعداء للبنان، وعن الماركسية كخدمة لأحلام القياصرة الجدد. وفي دروس الجغرافيا كانوا يُسمعوننا كلاماً عنصرياً عن كيف ان المناخات القاسية تولّد ديكتاتوريات. الصداقات الكاملة في الجيش لم تكن تحصل الا بين المنسجمين سياسيا، وكان التمييز يظهر خصوصا في المعاملة مع المدرّبين. فاذا كان المدرّب مسيحياً تبنى مسيحياً ودعمه، لكنْ اذا كان مسلماً بدا، على العموم، عادلاً. وكان طيارو ضباط الطيران في غالبيتهم الساحقة مسيحيين، اما قائد سلاح الطيران فدائماً مسيحي. ذاك ان الطيران هو السلاح الذي يحسم. المغاوير بدأ تأسيسها اواخر الستينات واوائل السبعينات. بدأوا سَريّة في النبطية لمطاردة الفدائيين، بعد ذاك جيء بهم الى ثكنة حمّانا وقد صاروا كتيبة تابعة تماما ومباشرةً لقيادة الجيش، مثلها مثل سلاح الطيران. وكان اختيار حمانا ملائماً للتدريب وقريباً من ضهر البيدر ووزارة الدفاع. بالنسبة الى تركيبة المغاوير، كان الجنود المسلمون اكثر من المسيحيين، وكثيرون منهم كانوا من شيعة بعلبك ومن سنّة عكار. اما الضباط فكانوا متوازنين عدداً مع أرجحية مسيحية، كما بات يستحيل ان يكون القائد مسلما بعد تحويل المغاوير الى كتيبة. قبل تحويلها، كان قائدها المقدّم الدرزي الشمعوني محمود طي ابي ضرغم. بعد التحويل اصبح قائدها المقدم رياض شمعون، وآنذاك خيضت مجابهات 1973، ومن بعده جاء مخّول حاكمه من القبيات، فسمير الأشقر من المتن. مع احداث 1975 كان نزول الجيش قد اخذ منحى معيناً. حين كان يأخذ مراكز فصل كان يجلس مع الكتائب. وعندما اقيمت المنطقة الخضراء في الاسواق التجارية، عيّن العقيد محمد الحاج قائداً لها يعاونه ضابط مسيحي، ووضعوا فيها كتيبة من الشمال كان قائدها المقدم المسلم صلاح الدين الايوبي، الا ان من تسلّمها بدلا عنه كان النقيب المسيحي فايز حكيّم. استلمت مناطق الفنادق، وكان هناك الفوج الرابع وسريّتا مغاوير. كان المفروض حماية المنطقة ومنع الاشتباك، لكن الجيش انتشر ضمن بقعة الكتائب في مواجهة القوات المشتركة، فكانت تأتي الكتائب الى منطقة الجيش وتطلق النار، فيرد الوطنيون على الجيش، ويتحرك الجيش. طُلب من سريّتنا احتلال الفينيسيا. دخلت، وكنت ملازما، برفقة ضباط، على محمد الحاج وسألته: هل مسموح ان يقاتل الجيش مع فئة، هل مسموح ان نتمركز مع فئة معينة؟ فقال لا. سألته: هل نهجم وحدنا ام مع الكتائب؟ قال: وحدنا طبعاً. قلت: الوضع على الأرض يختلف، فهل نوجّه انذاراً بمكبّر الصوت اذن؟ قال الحاج: نعم. لكنْ حينما بهدلني معاونه المسيحي سكت الحاج. كان ضباطنا يجلسون في النورماندي مع الكتائب ويخططون سوية. المسلمون الذين يشكلون نصف الكتيبة هربوا اما شمالا او الى حيث "المرابطون". الكتائب كانوا يستعملون ملالات الجيش ويطلقون من مواقعه. في اواخر صيف 1975 جدّت مشكلة بيننا وبين الكتائب. جمعت العسكر البعلبكي والقيت فيهم خطابا متطرفا قلت فيه اننا لن نحمي الفينيسيا للرأسماليين. كان هذا اول تمرد في الجيش اللبناني لأنه اول عدم تنفيذ مهمة. في اليوم التالي انسحبت السرية. ذهبنا الى حمّانا بلا أوامر فجن جنون قيادة الجيش والقصر الجمهوري وحُوّلنا جميعاً الى المحاكمة. بعد حوالي اسبوع جمعنا رئيس الشعبة الثانية جول بستاني وحاضر فينا، بهدف ان لا تنتشر العدوى، عن المؤامرة الشيوعية الدولية لضرب لبنان. سألته: لماذا الجيش يتمركز مع فئة ضد فئة بدل ان يفصل بين القوات المتحاربة، لماذا في طرق تنقلنا لا نمر الا باحدى المنطقتين ولا نمر في المنطقتين؟ فتملّص من الاجابة وأُبقي على تحويلنا الى المحكمة. اخطر مما عداه انه في 1975، كان قائد منطقة البقاع العميد حنا سعيد، يعاونه العقيد انطوان لحد ورئيس عمليات المنطقة اللواء ابراهيم طنّوس. وكان قائد القطاع الشرقي، اي مرجعيون - حاصبيا، نايف كلاس وهو مسيحي كاثوليكي من بعلبك عُرف بأنه أول من ضرب الفلسطينيين. كان هؤلاء يريدون علناً القتال مع زحلة، ولأن ضباطا مسلمين قد يتمردون تم نقلهم: احمد الخطيب نقلوه الى جهات حاصبيا، ومحمد عباس نقلوه. وقد وضعوا مكانهم مسيحيين. لم يبق آمر سرية مسلم الا سعيد ممتاز. هكذا تم تنفيذ مجزرة حوش الأمرا. وقبل حوش الأمرا كان سعيد تسلم قيادة الجيش، وحل محله في قيادة المنطقة لحد، يعاونه طنوس. اثناء معركة الكرنتينا كنت في اليرزة قرب وزارة الدفاع، لكنني شاهدت ضباط الوزارة مسرورين جداً باحتراق الكرنتينا. ثم في معركة الدامور، اخذوا سريتَي مغاوير الى الدامور. ووُضعنا في قصر السعديات للدفاع عنه، وكان ابو ضرغم يحمي القصر. لكن القصر سقط واعتبر قائد الجيش ان المغاوير خذلوه. الجنود معي بدأوا يتململون ويعلنون عن رغبتهم في الانضمام الى جنبلاط، فمنعتهم. لكننا فوجئنا بتحرك احمد الخطيب، وكنا متمركزين في حمانا. اتصلت بالخطيب واتفقت معه على كلمة سر، وان ارسل اليه مرسالا. بعد مدة اوصى لي بانه سيحتل ضهر البيدر وحمّانا من اجل عزل البقاع ومهاجمة ثكنة ابلح. كنا جاهزين ولدينا القدرة، لكن ضباطا مسلمين معي عارضوا، فاقنعتهم. ومع سقوط موقع ارنون، اوائل 1976، بات الخطيب يقول بمهاجمة جونية وفرط الجيش. كانت ارنون اول موقع عسكري يسقط في يد "جيش لبنان العربي"، وبدأت الثكنات تكرّ. كل المسلمين كانوا معبّأين ضد الدولة ومستعدين لاستقبال جيش لبنان العربي. كنا ننام في الثكنات، مسلمين ومسيحيين، وبيننا البنادق مخرطشة. كان جندي يصرخ "الله اكبر"، فيحصل احتلال ثكنة، وينزوي المسيحيون. في آذار مارس 1976 كنا نتداول في اوساط المغاوير في ضرورة الانقلاب. جمعنا سمير الاشقر في ثكنة حمانا وقال: إما انقلاب او تقسيم. طرح طرحاً يسارياً اذ اضاف: نقتل رئيس الجمهورية ونعتقل او نطرد من هم عقداء فما فوق ونلغي البرلمان. وقررنا فعلا ان ننزل في الليل: حوالي ست سرايا مغاوير وسرية مغاوير درك وسريتي مدفعية وفوج قرب وزارة الدفاع وسلاح المصفحات. لكنْ حصل انقلاب عزيز الاحدب قبل ساعات على موعد انقلابنا، وترددت جماعة حمانا وتوقفت العملية. مواقع الجيش في بيروت الغربية ايّدت الاحدب. "فتح" جلبته لقطع الطريق على انقلابنا، لأن انقلابنا كان كفيلاً بأن يأخذ منها بعض الشارع الاسلامي ويعيد توحيد الجيش. اما الاحدب فتعرف "فتح" ان لا احد معه. بعد ذلك جاءني سمير الاشقر وقال انه يجب ان نكمل لأن الأحدب لم ينجح. هكذا أتينا بسَرية، لكن مقاتلين اشتراكيين كانوا يقفون في قبيع منعوا مرورنا ومرور السرية، فاضطررنا لابقائها في حمّانا. بعد فترة قيل ان احمد الخطيب سيأتي الى حمانا وضهر البيدر، فكان القرار بالتصدي له. ضابط مسلم قال لمخّول حاكمه ان الضباط المسلمين لن يقاتلوا. قلت للأشقر: احمد الخطيب يريد ما كنا سننفّذه بانقلابنا فلماذا لا نمشي معه ونعيد توحيد الجيش؟ أجابني: جئني بموافقته وأنا معك. وذهبت الى احمد الخطيب لكنه راجع مسؤولين فلسطينيين قبل ان يقول لي: نعم. ربما فكّر الفلسطينيون بهذا في كسب ضباط مسيحيين. توجهت انا والاشقر الى البقاع، وفي شتوره اجتمعنا في بيت الصيدلي محمود الميس، وبالصدفة حضر ابراهيم قليلات. هناك اتُفق على اعادة توحيد جيش لبناني واحد وفتح طريق ضهر البيدر واكمال السير معا نحو القصر الجمهوري. وفعلا تم تمرير الخطيب الى ضهر البيدر وظهر بيان تأييد من حمّانا على اساس أن الجيش موحّد والمسيحيين موجودون في المشروع. لدى مرورنا اعتُقلنا في عاليه وأُخذنا الى كمال جنبلاط، وبعدما ارجعوني نمت في كيفون حيث شرحت الامر لشوكت شقير الذي تعهد لي بعدم مهاجمة ثكنة حمّانا. لكن في اليوم التالي هاجم الاشتراكيون الثكنة، ولم أفهم أتم ذلك بقرار اشتراكي أم بقرار فلسطيني. هكذا انهارت آخر الثُكن ودخل الخطيب. بعد سقوط ثكنة حمانا انضممنا الى جيش لبنان العربي. ذهبنا الى بعلبك حيث كان القائد امين قاسم. طلب تجهيز قوة للهجوم على الجبل، ثم أخبرنا ان العملية تأجّلت. عاد كل واحد الى بيته، ثم طلبوا ان نعاود الهجوم. ابو جهاد وجنبلاط ودّعا المهاجمين في بحمدون، وتمنيا لهم التوفيق في سيرهم الى مونتيفيردي فتلّ الزعتر. لم تستطع القوات ان تكمل طريقها فتوقفت في رأس المتن وفُتحت المدفعية وفشل الهجوم، وتوقفت القوة في رأس المتن لتبدأ حرب الجبل بمعركة المتين. كان هجوماً عشوائياً وغير منظّم اطلاقاً، ولم يكن هدفه الوصول الى تل الزعتر بل فتح معركة في الجبل. ابو جهاد كان القائد الفعلي، ولأنه صاحب الامكانيات فانه كان صاحب القرار. وفعلا سقطت المتين ودار النهب. انسحبنا وبقي المقاتلون الفلسطينيون والاحزاب. اثناء معارك المتين بدأ الهجوم على محور ترشيش - عينطورة. التقيت بالخطيب آنذاك في صوفر وتغدّينا معاً وكان هناك ابو جهاد. في هذا الوقت وصلت برقية على جهاز ابو جهاد تقول ان عينطورة سقطت وسوف نتابع الى المروج. ابو جهاد اجابهم على الجهاز: توقفوا ولا تتابعوا وخذوا مواقع دفاعية. لفت الكلام انتباهي فسألته: ألا نريد الهجوم لفتح طريق ضهور الشوير وكسر الحصار عن القوميين السوريين ثم احتلال بكفيا؟ قال: لا، هذا يعني تدخلا دوليا، فاذا وصلنا الى الضهور فهذا يعني اننا نحاصر بكفيا، لهذا يجب ان نقف في عينطورة ونفتح جبهة اخرى. هكذا فُتحت جبهة الكحالة، وتبين سخف الخطيب حين قال انه سيحتل جونية. في غضون ذلك سقطت عينطورة في يد الكتائب لأن المقاتلين الفلسطينيين لم يطلعوا الى جبل الزعرور بل حافظوا على تثبيت وجمود الموقع الفلسطيني - الوطني. لقد دخل الكتائب على ملالات تحمل صور احمد الخطيب وهم آتون من المروج. المشغولون بالسرقة كانوا كثيرين، واحدى الدبابات كانت مليئة بالسجاد الا ان صاروخاً انفجر في السجاد وبقيت الدبابة. ذهبت الى مجدل ترشيش قرب عينطورة. كان امين قاسم يجهّز قوة لمعاودة الهجوم. قلت له: لنحتل جبل الزعرور ونلتف على عينطورة. وفعلا جهّزت فصيلا لتولي المهمة، وكانت هناك خطة لأخذ كل المنطقة ووصلها بزحلة حيث يتحرك يوسف الطحّان بعد وصولهم الى عين حزير. تواجهنا في جبل الزعرور. انهزموا وسقط لهم حوالي 35 قتيلا. بقيت لهم تسع جثث منها جثة قائد المحور الملازم اول جورج هيدموس. انهارت معنوياتهم وانسحبوا، ثم دخلنا عينطورة حيث أُمرنا بالتوقف وعدم التقدم فيما استمرت المناوشات. السيد موسى الصدر والشيخ محمد يعقوب لعبا، في ما بعد، بعض الدور في حملنا على الانضمام الى "الطلائع". الفلسطينيون والحركة الوطنية كانوا الحائل دون ذلك، خصوصاً مع انقشاع تناقضهم مع دمشق يومذاك. بعد حين انضم ابراهيم شاهين، من قيادات جيش لبنان العربي. محمد يعقوب قال لي مرةً في تلك الاثناء: ينبغي ان لا نضحي بالجنوب من اجل الفلسطينيين. قلت له: اذا كنت تفكّر مذهبياً فأنا لا يهمّني احتلال اي مدينة سنيّة مهما كانت اهميتها وقداستها. ما يهمّني هو محاربة اسرائيل. والحال ان من خلاصات التجربة المريرة تلك ان قيادة جيش لبنان العربي أظهرت سوءاً في فهم السياسة، وسوءاً في فهم العسكر. قادته الأساسيون كانوا ستة: الخطيب، وهو من مزبود، القرية الصغيرة قرب برجا، وقد تخرّج في اواخر الستينات من الكلية الحربية. والخطيب سني تربطه قرابة وثيقة بالنائب زاهر الخطيب. والرائد احمد البوتاري الذي تخرّج في اواسط الستينات، وهو سني بيروتي من أسرة ملاكين. والضباط الصغار عمر عبدالله، سني من شحيم، وبسام الأدلبي، سني بيروتي، ومعين حاطوم، شيعي من الضاحية، وامين قاسم، شيعي من قرية بيت ليف الحدودية. والاربعة الاخيرون تخرجوا في النصف الاول من السبعينات. بعد ذاك انضم اليهم المقدم يوسف منصور، وهو شيعي من برج البراجنة، تخرج في اواخر الخمسينات، والرائد ابراهيم شاهين وهو شيعي من الشيّاح، والرائد احمد المعماري، سني من طرابلس، والرائد حسين عوّاد، شيعي من الضاحية. والثلاثة الاخيرون من خريجي اواسط الستينات. وعلى العموم يمكن القول ان جيش لبنان العربي كان سنياً في الشمال وشيعياً في بعلبك والجنوب، بينما انضم الدروز، لدى انقسام الجيش، الى "جيش فخرالدين" في الجبل. غسان حبّال: صيدا صيدا الداخلية، اي القديمة، احد مداخلها من القلعة، ولها مدخل آخر من القلعة البرية، وثالث من حي الشاكرية. وحي الشاكرية هو اصلا شارع المطران، وفيه مطرانية الروم الكاثوليك، سمي الشاكرية لاحقاً لأن فيه مقهى الشاكرية. وهذا الحي جزء اساسي من صيدا القديمة، وهو السوق القديمة الذي تشكل نصفَه محلات مسيحية لعائلات حريصي ونعسان وبرشا وعبسي. ومع توسّع المدينة تجاريا وماليا وعمرانيا، بدأ التوسع السكني شرقاً نحو الهلالية وعبرا والبرامية التي غدت صيدا الحديثة. كذلك نشأت هجرة من صيدا القديمة الى سهل الصباغ وحي البعاصيري، وبدأ السنّة يشترون في الهلالية وعبرا والبرامية. وعبرا كانت قرية مسيحية صغيرة، فيما كانت البرامية اصغر منها الا انها مسيحية - درزية. والتحديث الذي كان بدأ في الستينات لم يتعفّف عن غزو ساحة النجمة التي هي حدود صيدا القديمة والمكان الذي كان معروف سعد يلقي فيه خطاباته، ثم توسع الى نواح اخرى. اما العائلات في صيدا فاستغرقها وشقّها النزاع المديد بين معروف سعد ونزيه البزري، فوقف آل حشيشو، وهم عائلة متوسطة، مع سعد، وكذلك عائلة عبدالجواد الصغرى، والزيباوي وحمّود الكبريان، فيما وقفت عائلات كبرى كالكلش والزعتري مع البزري. وهذه كلها قياسات نسبية وتقريبية، الا انه يمكن القول ان صيدا القديمة، خصوصاً الصيادين، لمعروف، وصيدا الحديثة للبزري. اما المسيحيون، فباستثناء الحزبيين منهم، كانوا مع نزيه. واذا كان نزيه قويا في عائلات تجارية قديمة، كالصاوي زنتوت، فمعروف كان قويا في عائلات صعدت في وقت لاحق، كاليمن. وهذا لا يلغي ان أُسَراً غنية وبارزة، كالأنصاري، كانت تقف مع سعد في سياق نزاع المصالح التجارية بينها وبين عائلات مماثلة. اما المصاهرات مع الفلسطينيين فتكثر في الطبقات الوسطى والدنيا وتتراجع في العائلات الأغنى او الأقدم عهداً. ابراهيم مرعي: برج حمّود/ التقدمي الاشتراكي في برج حمّود مطالع الستينات بدأت اعي العمل السياسي. غالبية المنطقة من الفئات الشعبية والجو العام قومي، خاصة في ظل المرحلة الناصرية ونهوضها. بيئتي المباشرة كان معظمها من الشيعة الذين نزحوا من قضائي صور وبنت جبيل، ثم هناك اقلية نزحت في الخمسينات من بعلبك لفقدانها الأمل بالحصول على الأرض. عملوا في البرج كندرجيةً ونجارين وحِرَفيين عموماً، كما عملوا أصحاب دكاكين صغيرة وبائعي خضار متجولين وثابتين وبائعي أدوات منزلية. وفي اواسط الستينات بتنا نلاحظ تمايزا بين الجنوبيين والبقاعيين، حيث البقاعيُ يسمي الجنوبيَ "قبلاوي"، وفي بعض المشاكل القليلة التي جرت كان الجنوبيون يقفون معاً، والبقاعيون كذلك. اما في ما خص مناطق السكن، فالنبعة كانت ذات غالبية بعلبكية، وبرج حمود ذات غالبية جنوبية وعلى تماس جغرافي مع الارمن يعززه الاشتراك في بعض المهن كالكندرجية. ومع هذا كانت تجري بينهم وبين الارمن خلافات فردية احيانا من دون اية ذيول تُذكر. الفلسطينيون كانوا في تل الزعتر، والعلاقة معهم بدأت في 1967 عن طريق الأحزاب. قبل 1967 كانت العلاقات بين الجنوبيين المقيمين في الدكوانة وفلسطينيي المخيم عاديةً. آنذاك، اي في اوائل الستينات، كانت الاحزاب الاقوى في هذا الوسط البعث وحركة القوميين العرب فالحزب الشيوعي. لكن الشيوعيين بسبب خلافهم مع عبدالناصر، تقلّص وجودهم ولو أنهم استقطبوا عمالاً وحِرَفيين تعود اصولهم الى النبطية وبنت جبيل وصور. قبل هذه الاحزاب مر الحزب السوري القومي لكن حضوره اقتصر على عشرات الافراد القليلة من مختلف المناطق. فهم لم يصبحوا حالة جماهيرية، وفي 1958 انتهوا عمليا. الحركيون كانوا طلابا وأساتذة في مدارس رسمية وخاصة، والبعض حِرَفيين. معظمهم كانوا جنوبيين غالبيتهم من النبطية وبنت جبيل. وكان بعضهم من عائلات كبرى كبزّي وشرارة. والارجح ان الاتصالات في بيروت مع اجواء مدرسة المقاصد هي التي كانت وراء تسييسهم، كما كان استقطاب الشبان يتم من خلال المناسبات القومية وعمليات التحريض على اسرائيل والاستعمار وثورة الجزائر. اما حزب البعث الذي ناهز الحركة قوةً، فنافسها في ظل طرح المفاهيم والشعارات نفسها تقريبا. وكان تكوينه الاجتماعي مشابها للحركة وإن كانت الغالبية في صفوفه من الحِرَفيين، وكان منهم ابراهيم عيسى وعلي نادي من بنت جبيل، وكان مسؤولهم التنظيمي أمين سعد، وهو استاذ مدرسة خَلوق ومحترم وفهيم من بنت جبيل. ومع تواجد المقاومة الفلسطينية في العرقوب كان سعد اول من ذهب وقاد مجموعات البعث هناك وصار يُعرف ب"الأخضر العربي"، حيث استشهد لاحقاً. في ما بعد، عاش الحزبيون الخلاف الناصري - البعثي، الذي لم يترك اي اثر على التنظيم هناك، فلم يُعرف ان احداً ترك او انشق. ولاحقاً ايضاً ايّد جميع البعثيين حركة 23 شباط فبراير 1966 ضد عفلق وجماعته. مع هذا فقد البعث البريق الذي كان له مطالع الستينات. ثم كان انهيار الحركة ونشوء منظمة العمل الشيوعي، وفي هذا المناخ توزّعت قوة الحركة وغادر العمل السياسي من غادر. وفي 1968 ظهر وجود للحزب التقدمي الاشتراكي، ومحاولات قومية سورية للعودة بزي يساري جديد لم تثمر كثيراً. قبل 1967 كان هناك اقل من خمسة تقدميين اشتراكيين هم طالب واستاذ مدرسة بعلبكي الاصل ونجار وعاملا فرن احدهما بعلبكي ايضا. وفيما كانت الاحزاب القومية تتصدّع او تضعف، كان كمال جنبلاط يخوض معارك سياسية واجتماعية تلبي طموحات الناس، اضافة الى خطه السياسي الوطني المقبول، ثم انه في معظم الاحيان كان يلتقي مع الناصرية وما تمثّل. الذين انتسبوا في 1968 كانوا خمسة آخرين انضافوا الى الخمسة الأولين: 3 طلاب وحِرفيان هم جنوبيان وثلاثة بقاعيين. لكن خلال سنة من العمل الحزبي نشأت خمسة فروع للحزب، ومن هناك امتد الى سن الفيل فبلغ العدد في المنطقتين قرابة 125 عضوا. وكان الاشتراكي والشيوعي والبعث المؤيد لدمشق قد شكلوا، في تلك المنطقة، النواة الاولى لعمل جبهوي وطني، رغم ان القيادات المركزية للاحزاب لم تكن مرتاحة الى هذا التطور واعتبرته سابقا لأوانه. اما نحن فرأينا ان ظروف المنطقة تستدعي هذه العلاقة الجبهوية لأن ايا من الاحزاب لا يستطيع ان يعمل وحده. وفي اطار هذا النشاط الجبهوي اقيم اول مهرجان نظّمناه حول الايجارات في سينما بيروت، بالمزرعة، بعدما كنا اعددنا له حوالي شهر. ال125 كانت اغلبيتهم طلبة وحِرفيين، كلهم شيعة باستثناء عشرة مسيحيين وأرمن من سن الفيل. والشيعة كانوا جنوبيين وبقاعيين بالتساوي ومن العائلات كافة. في اواخر 1969 اقمنا فرعا في الجديدة، والفرع بين 5 و20 عضوا، وآخر في الدورة، وكان الاعضاء كلهم مسيحيين. كنا نركّز عليهم بايعاز من جنبلاط الذي كان يردد: "يجب ان ننزع الخوف من قلوب المسيحيين. واذا كنا حزب الشعب فيجب ان نمثّل الشعب بشكله الفعلي. وضّحوا أفكارنا كأفكار علمانية وغير طائفية، وأن الاشتراكية التي نطمح اليها هي لمصلحة كل الناس". وكثيرا ما ساعدنا هو بالندوات التي راح يقيمها منذ 1969، وكان يبادر، حسب طلبنا، الى الانتقال لمناطق فيها اكثريات مسيحية للمشاركة في ندوات. مثلاً، اقمنا في 1970 ندوتين لجنبلاط في انطلياس احداهما في "ثانوية الرموز" حضرها حوالي الفي شخص غالبيتهم العظمى من ابناء المنطقة. يومها تحدث عن الاشتراكية ولم يُثر الموضوع الفلسطيني، فقوبل بكبير اهتمام وترحيب. وكان لنا فرع في ديك المحدي اقيم في 1970 من خلال انطوان الاشقر، الملاك والمهاجر وابن المختار الذي ينتمي الى العائلة نفسها التي عُرفت بقومييها السوريين. وفي الحملة الانتخابية الفرعية في المتن الشمالي عام 1970، وكان الاشقر مرشح الحزب، لم نشعر باي خوف. كنا بشعارات واعلام الحزب نخترق الدورة وانطلياس والجديدة. منظّمو حملة الاشقر كانوا مسؤولي الحزب واغلبهم مسيحيون، وشيوعيين، فيما القوميون السوريون لم يؤيّدوه. وكانت كل المهرجانات التي تقام تأييداً للفلسطينيين في سينمات برج حمّود وسن الفيل، تقام بدعوة الحزب الاشتراكي واشرافه وفي ظل اعلامه، وذلك لأنه الحزب اليساري الوحيد المسموح به يومذاك. واقام الحزب ناديا اجتماعيا في برج حمود في 1971 كنا ندفع ايجاره واكلاف تجهيزاته من اشتراكاتنا، وكنا نحاول تعليم الناس العمل الشعبي كتنظيف الشوارع، فضلا عن عقد ندوات حول الصحة والتطعيم. يومها لم نلحظ ابداً انتسابات للكتائب او الوطنيين الاحرار. اما حركة السيد موسى الصدر فلم تأخذ في منطقتنا هذا الطابع الضخم. الذين انتسبوا في البداية الى "أمل" كانوا يعدّون على الأصابع، وكان اكثرهم بعلبكيا من عائلات صغرى، فيما طغى لونهم العائلي على لونهم الاجتماعي. النمو حصل بدءا ب1972 حين راحت "أمل" تنافس الاحزاب جدياً. على أنه في 1969 بدأت تظهر تشكيلات صغيرة ك"فتيان علي" وقبضايات كان بعضهم في السابق في المكتب الثاني، وكان منهم من يمارس التهريب. كان معظمهم بقاعيين، ولا اعرف من الذي كان يقف وراءهم، رغم اشارات رددها البعض في معرض التشكيك بالمقاومة. احدهم، وهو بعلبكي، كان في الأحرار ثم صار في فتح، لكن لاحقاً عند سقوط برج حمود والنبعة عاد الى الأحرار. بعد الحرب، حوالي نصف الاشتراكيين الذين انتقلوا الى الغربية بقوا في الحزب. والحال انه حتى ذلك التاريخ كان الحزب الاشتراكي يعاني أزمة قلّة الحزبيين الدروز. فهو "حزب درزي" كما يوصف، لكن قوته التنظيمية بين الدروز اقتصرت على المختارة وجوارها وعلى الشويفات لقربها من بيروت على الأرجح. وحين انعقد التحالف الانتخابي في 1972 مع مجيد ارسلان، كان يقال عنه في الحزب انه ليس تحالفا مذهبيا بل لصدّ الخطر الشمعوني. وكان مجلس قيادة الحزب في 1972 - 1973 يضم شيعة كمحسن دلّول وخليل احمد خليل، وسنّة كطارق شهاب وأنور الخطيب، ومسيحيين كعبّاس خلف وفريد جبران وسليم قُزَح. وقد تواجد الحزب آنذاك في المسلخ - الكرنتينا، لا سيما بين عرب المسلخ وهم سنّة، وكان مسؤولهم عوض شعبان. وفي المسلخ يومها كان هناك حضور ل"اتحاد قوى الشعب العامل" لأن حسن مطر، احد مسؤوليه، كان من المسلخ. ولم تكن العلاقات بين اجيال الحزب على ما يرام دائماً. فقد اثير، مثلا، نقاش حول فقرة في الميثاق تقول: "لبنان وطن عربي مميز"، فتساءلنا، نحن الشبان، عن معنى: مميز، وكنا نلح على ضرورة بلورة عروبة الحزب. ولم تكن هناك بالضرورة وجهة نظر مضادة، بل ظهر لدى البعض عدم حماسة لما نفعل. الاكثر عروبية كانوا يجدون ما يشجّعهم في جنبلاط نفسه، ومن ثم في دلول وخلف واحمد خليل. وغالبية فروع الحزب من الشمال الى الجنوب كانت في هذه الوجهة. وكنا شديدي التعلّق بالمقاومة الفلسطينية. وكان رأينا أن قياديين كالخطيب وقزح وجبران لن يستطيعوا المواكبة، ولهذا كنا نحن من رشّح طارق شهاب وخليل احمد خليل اللذين فازا في مجلس القيادة. وبحلول زاهر الخطيب محل والده الذي توفي، تعزز الاتجاه هذا، وكان ليتعزز اكثر لولا بضعة اشكالات. ففي اوائل السبعينات كان انتسب المحامي الطموح من شحيم، نسيب الخطيب، وكان له نفس مواقفنا من التجديد والعروبة، بينما كان زاهر يطرح طروحات شديدة التطرف اعتبرها الحزب غير واقعية. لكن الأمور لم تكن سهلة دائماً اذ سبق وأحالنا سليم قزح على مجلس تأديبي لاتهامنا باتصالات مع احزاب، من دون علم القيادة، كما جُمّدت عضويتنا في الحزب ثلاثة أشهر. الحلقة الثامنة: الاثنين المقبل.