إطلاق 80 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الأمير محمد بن سلمان    انطلاق المؤتمر الدولي لأكاديميات الشرطة    السعودية الأولى خليجياً وعربياً في مؤشر الأداء الإحصائي    «الجناح السعودي».. ينطلق في «الصين الدولي للطيران والفضاء»    وزير الخارجية: حل الدولتين السبيل الأوحد لتحقيق السلام    «الرابطة» تُرحِّب بقرارات القمّة العربية والإسلامية    رئيس بولندا يشكر خادم الحرمين وولي العهد    الفرج يقود الأخضر أمام «الكنغر»    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة.. نشروا مقاطع منافية لأخلاقيات المهنة    إسناد التغذية والنقل ل«جودة الخدمات» بإدارات التعليم    «التقني»: إلغاء إجازة الشتاء وتقديم نهاية العام    وزير الداخلية يرعى حفل جامعة نايف وتخريج 259 طالباً وطالبة    وزير الحرس الوطني يفتتح قمة الرياض العالمية للتقنية الحيوية    في بيتنا شخص «حلاه زايد».. باقة حب صحية ل«أصدقاء السكري»    ماذا لو نقص الحديد في جسمك ؟    المملكة تحذر من خطورة تصريحات مسؤول إسرائيلي بشأن فرض سيادة الاحتلال على الضفة الغربية    الأهلي يطرح تذاكر مواجهته أمام الوحدة في دوري روشن    غارات إسرائيلية عنيفة على ضاحية بيروت    الذهب يستقر قرب أدنى مستوى في شهر مع انتعاش الدولار    سعود بن نايف يستقبل أمين «بر الشرقية»    أمير الرياض يستعرض إنجازات «صحية تطوع الزلفي»    أمير القصيم يطلق مبادرة الاستزراع    تطوير وتوحيد الأسماء الجغرافية في الوطن العربي    الاتفاق يعلن اقالة المدير الرياضي ودين هولدين مساعد جيرارد    مقتل ضابط إسرائيلي وأربعة جنود في معارك بشمال غزة    نقلة نوعية غير مسبوقة في خدمة فحص المركبات    استعادة التنوع الأحيائي في محمية الأمير محمد بن سلمان    "الحج المركزية" تناقش موسم العمرة وخطط الحج    رحب بتوقيع" وثيقة الآلية الثلاثية لدعم فلسطين".. مجلس الوزراء: القمة العربية والإسلامية تعزز العمل المشترك لوقف الحرب على غزة    فوبيا السيارات الكهربائية    «نأتي إليك» تقدم خدماتها ب20 موقعًا    مجلس الوزراء يجدد التأكيد على وقوف المملكة إلى جانب الأشقاء في فلسطين ولبنان    ولادة أول جراء من نمس مستنسخ    الأخضر يحتاج إلى وقفة الجميع    المنتخب السوداني يسعى لحسم تأهله إلى أمم أفريقيا 2025    «طريق البخور».. رحلة التجارة القديمة في العُلا    السِير الذاتية وتابوهات المجتمع    أحمد محمود الذي عركته الصحافة    وفاء الأهلي المصري    للإعلام واحة    إضطهاد المرأة في اليمن    يسمونه وسخًا ويأكلونه    يأخذكم في رحلة من الملاعب إلى الكواليس.. نتفليكس تعلن عن المسلسل الوثائقي «الدوري السعودي»    «سامسونغ» تعتزم إطلاق خاتمها الذكي    «الغذاء»: الكركم يخفف أعراض التهاب المفاصل    التحذير من تسرب الأدوية من الأوعية الدموية    الرهان السعودي.. خيار الأمتين العربية والإسلامية    أسبوع معارض الطيران    جمعية يبصرون للعيون بمكة المكرمة تطلق فعاليات اليوم العالمي للسكري    إطلاق 80 كائنا فطريا مهددا بالانقراض    نائب الرئيس الإيراني: العلاقات مع السعودية ضرورية ومهمة    التوقيع على وثيقة الآلية الثلاثية لدعم فلسطين بين منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية ومفوضية الاتحاد الإفريقي    الرئيس السوري: تحويل المبادئ حول الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين ولبنان إلى واقع    الأمر بالمعروف بجازان تفعِّل المحتوي التوعوي "جهود المملكة العربية السعودية في مكافحة التطرف والإرهاب" بمحافظة بيش    البرهان: السودان قادر على الخروج إلى بر الأمان    اطلع على مشاريع المياه.. الأمير سعود بن نايف يستقبل أعضاء الشورى المعينين حديثاً    أمير الرياض يطلع على جهود الأمر بالمعروف    مراسل الأخبار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معرفة بعض لبنان طوائف وعائلات ، مناطق وأحزاباً سياسية 9
نشر في الحياة يوم 16 - 09 - 1999

قبل ايام قليلة، وفيما كنت ابحث في اوراق قديمة تركتها في بيروت، وقعت على 35 مقابلة شخصية سبق ان اجريتها في 1984. هذه المقابلات المتفاوتة حجماً، مع سياسيين وصحافيين، مهنيين وناشطين، لعبوا في هذه الفترة او تلك، دوراً عاماً ما، كان غرضها ان تخدم كتاباً عن الاحزاب اليسارية والمسلمة، لم استطع ان استكمل مقابلاته، ولا ان انجز قراءة مادته المكتبية والأرشيفية. ولهذا فالكتاب، في النهاية، لم يُكتب.
وجدير بالذكر أن تعريف شخص ما او جماعة ما بالطائفة، لم يكن دائماً تبرّعاً من المتحدث، بل جاء غالباً جواباً عن سؤال مني. أما كلمة "الآن" فتردّ الى أواسط الثمانينات، والقياسات الزمنية تتم دائماً على ضوء هذا التاريخ.
المقابلات التي سبق نشرها أجريت مع: نهاد حشيشو ومحمد مشموشي وباسم السبع ويوسف الأشقر ومصطفى بيضون ونجلا حمادة ومسعود ضاهر وعبدالله الأمين ونقولا طعمة وحبيب صادق وجوزيف سماحة وحسان حيدر ويوسف الصميلي وأسعد فوّاز وحسين الحسيني وسونيا دبس وسعيد صعب وجورج ناصيف ومحمد محيي الدين وعباس بيضون وناصري لم يذكر اسمه وابراهيم الأحدب وجهاد الزين ومحمد كشلي وسويدان ناصر الدين ووليد سكريّة وغسان حبّال وابراهيم مرعي وحسين قطيش وابراهيم العريس وعبدالله الغطيمي:
عصام العبدالله: الخيام/ البعث
ظهر اوائل البعثيين في الخيام اواسط الخمسينات. كان منهم الطالبان يومها في مقاصد صيدا، محمد العبدالله، ابن المفتي، وغسان العبدالله التنوخي، من عائلة ملاكين زراعيين صغار. وكان بعثي من آل خشيش قد اقام اول مكتبة في الخيام بأموال نتجت عن بيع غسان التنوخي ارضاً له. ومحمد وغسان ليسا من البيت - النواة في آل العبدالله، مع ان جد محمد لوالده هو المؤسس السياسي للعائلة، لكن جبّهم تدهور لأن والده، المفتي، انصرف نحو الدين وترك السياسة. وكان البعث ينمو يومها في مواجهة آل العبدالله ونفوذهم.
الشيوعيون لم يشكّلوا جواً لهم في الستينات. نايف ناصر، وهو كندرجي شيعي وشيوعي، اتى بآلة حملها من اوروبا الشرقية، وهذه كانت البداية. اما الناصرية فلم تعن شيئاً. كان هناك ابراهيم العبدالله، وهو شقيق النائب علي، درس المحاماة في مصر ثم انتسب الى الحركة لكنه لم يسكن الخيام، ولا استقطب احدا بالتالي.
بالنسبة الي، لعب الشعر والمتنبي وعظمة العرب وقصائد سليمان العيسى الدور الأساسي. فالوجبة الشعرية في مهرجانات البعث كانت الوجبة الاساسية. وقد انتسبت رسمياً في 1958 - 1959 من خلال محمد زكريا عيتاني، لكنني كنت بدأت النشاط عشية الثورة. ففي 1958 نلت البريفيه من "مدرسة حوض الولاية" حيث كان عيتاني استاذا للصفوف الابتدائية.
كنا نقيم في البسطة، بعدما ولدت في انطلياس تبعاً لتنقّل والدي الذي عمل في الشرطة منذ اواخر الثلاثينات. في 1959 انتقلت الى "مدرسة رمل الظريف"، وفي 1960 صرت "قيادة شعبة" في البعث، وفي 1961 "قيادة فرع بيروت"، وفي 1962 عضوا في المؤتمر القطري اللبناني، وفي 1963 عضوا في المؤتمر القومي السابع، وهو الذي ينتخب القيادة القومية.
الجو البعثي في بيروت كان كله تقريبا طلابيا. كلهم في العشرين وما دون، ومن أُسَر فقيرة، لكنني نادراً ما اتذكر عمالا او مهنيين. وطلاب البعث كانوا يومها صنفين: الجنوبيين وهم الاكثر بؤساً، يسكنون وحدهم في غرف مستأجرة او مع عائلاتهم البائسة، وطلاب المراتب القيادية ممن ينتمون الى شريحة اعلى، وكان من هؤلاء الأمين القطري آنذاك، عبدالوهاب شميطلي، ونقولا الفرزلي وفواز طرابلسي وطلال شرارة وفؤاد ذبيان.
والى الجسد الشيعي للبعث كانت القيادة سنية مطعّمة بمسيحيين، وابرز هؤلاء كان جبران مجدلاني، المحامي الذي يجيد الفرنسية، وهذا ما بدا لنا يومها بالغ الاهمية، فكنا نقول في معرض المزاح، اننا في دولة البعث سنعيّنه وزير خارجية.
ومع انشقاق 1962 وقفت مع الحزب ضد الاشخاص، لكن بدا ان الحزب ينهار، وكانوا يتحدثون عن هيمنة من القيادة القومية العفلقية على الحزب في بيروت. احسسنا ان البعث خسر مرجعيته الايديولوجية. فهؤلاء المثقفون والمهنيون هم الذين تسلموا الجريدة. ونحن لم نكن نقرأ، واكثر قراءاتنا القليلة كان ادباً. وكانت لدينا نشرة تنظيمية ذات طابع تنظيمي بحت. كان الاعداد الثقافي، بالفعل، رهيبا. فكنا نفنّد الماركسية من دون ان نعرف عنها شيئاً. وحين استخدم بيان لجماعة علي صالح السعدي كلمة "نرجسية" في وصف عفلق، لم نفهم معنى الكلمة. اما حين وصل علي خليل حاملاً شهادة علوم اقتصادية من اميركا، ووصل عاصم قانصوه مهندساً من رومانيا، فكان امرهما له بهجة ورهجة عندنا.
وكان في داخل البعث ما يشبه الصراع الطبقي، واذكر ان البناية الاولى التي دخلتها في الروشة كان فيها بيت نقولا الفرزلي. علي جابر كان مكروها وكان يقال انه لا يمارس الطب كما يجدر ببعثي اشتراكي يطبّب مجاناً، وحين ذُكر انه جلب بيانو الى بيته قامت القيامة. لكن بعض الرمزيات كانت مشتركة بيننا، فكنا جميعا نظن ان المطلوب في القيادي البعثي ان يكون طويلا، صوته قوي، وعربيته ممتازة.
بعد ذلك تلقينا اخبار المؤتمر السادس والانفتاح على الماركسية بترحيب. ابرز معارضي المؤتمر كانوا: الامين القطري يومها علي الخليل وعبدالمجيد الرافعي وعلي جابر وخالد يشرطي وخالد العلي. الاول شيعي من صور، والثاني سني طرابلسي، والثالث شيعي من النبطية، والرابع سني فلسطيني، والرابع سني من أرياف عكّار.
المؤتمر القومي السابع تهيأنا له بصفته سيكون الرد اليميني على السادس. الذين انتُخبوا الى المؤتمر من لبنان كانوا عبدالامير عباس وايلي ابو الروس وانا وآخرين. معظم اللبنانيين انسحبوا من المؤتمر الذي بقيت فيه شعبة فلسطين، اذ كان اللبنانيون منحازين لمقررات السادس. المؤتمر انعقد في "المسرح العسكري" بدمشق. رأيت في البداية أمين الحافظ وميشيل عفلق وضباطاً يجلسون في الصدارة. قرأوا أسماء الأعضاء وقالوا: من لم يظهر اسمه يرفع يده. فرفع يديه، بين من رفع، كمال ناصر ويوسف الخطيب اللذان القيا خطابين وجدانيين طويلين.
عندما غادرنا المؤتمر أهاننا الحرس على الباب وأخذوا منا بطاقات العضوية، وكي يراضينا عفلق ارسل لنا بشير الداعوق الى الفندق. يومها كان اريستوقراطيو الحزب في بيروت يسرّبون اخبار المؤتمر الى احمد شومان في "النهار"، وكان الحزبيون الابرياء يتساءلون: كيف تتسرّب الأخبار؟
تركت الحزب بعد هذا المؤتمر، وكانت لي تجربة اخرى في "لبنان الاشتراكي" ثم المنظمة، لكنني في البعث كنت أسعد حالاً. فهو يُطلق "البطل" الذي فيك، واليسار يقمعه.
عبد الستار اللاز: الدائرة الثانية
الاسم الأصلي لعائلتي: اللاظ. أسرة صغيرة قدمت من منطقة اللاظ في شمال شرق تركيا على حدود روسيا، واللاظ اليوم في تركيا تجار ويعملون في قطاع المال. ثم هناك قومية اللاظ، او اللاز، وتعد قرابة مليونين.
والعائلة هاجرت وتوزعت في مناطق سورية وفي القاهرة. احد الاجداد كان ضابط بحرية تركياً يتنقل على الشاطىء السوري، اولاده واحفاده كل واحد منهم ولد في مكان: جبلة، عكا، بيروت... هناك قرابة مباشرة مع فلسطينيين نزحوا في 1948 ولا زالوا يحتفظون باسم اللاظ. واللاظ كانت في القاهرة اسرة اريستوقراطية صغيرة ابان العهد الملكي. وهناك، ايضا، اقارب لنا في طرابلس، ولهذا فمشاعرنا تتجاوز بيروت اليها.
في بيروت تقيم العائلة الصغيرة في البسطة التحتا: منطقة الباشورة وزقاق البلاط، وابي موظف صغير، بعدما عاش ابوه في عز وغنى عن طريق الادارة العثمانية. فعم والدي، جميل اللاز، كان رئيس مصلحة جمارك في سورية ولبنان. وعمه الآخر، حسين، كان رئيس محفل ماسوني وكان وجيهاً. ومنذ الجد بدأ الانخراط في الدولة اللبنانية عن طريق الوظيفة الرسمية.
وجيل الوالد كان يؤيد عدنان الحكيم ويفضّل بيت سلام على بيت الصلح، فيما يحتل عبدالله اليافي اهمية اقل. اسلام البيت كان اكثر من عروبته، ونظرته الى لبنان كانت نظرة اسلامية اساساً.
وفي الدائرة الثانية كانوا يتعاملون مع مرشحي الشيعة والاقليات المسيحية بوصفهما فولكلوراً، فالمهم المرشح السني. في هذه الحدود كان هناك احترام لرشيد بيضون كفاعل خير، دون ان يظهر اي شعور ب"خطر شيعي".
التنافس المهم كان، في العادة، بين عدنان الحكيم وسامي الصلح. والذين كانوا يقترعون للحكيم هم، بيروتياً، مع صائب سلام، كآل منيمنة ورمضان ويمّوت. وجيه منيمنة، مختار الباشورة مثلا، كان مدعوما من صائب ويقترع للحكيم. الدائرة الثانية عائلاتها صغيرة، وليس هناك عائلات كبيهم وعيتاني وشاتيلا وشبارو وعانوتي. ثم ان الثالثة "أصفى" بيروتياً.
وكانت قوة الحكيم الانتخابية في البسطتين وزقاق البلاط حيث ثمة كثافة كردية عمل على تجنيسها ورعايتها، ودافع في البرلمان عن مطالبها الاجتماعية. اما المسيحيون عموماً فلم يكونوا يؤيدونه.
محمد أبي سمرا: فتح/ شبعا
في أيار مايو 1973، وفي دار المعلمين في بير حسن، وجدنا انفسنا مسوقين لأن نكون مع المقاومة، كأنه ما من خيار لنا غير ذلك. بعد اشهر حصل الانشقاق في "منظمة العمل الشيوعي" وتعرّفنا الى طروحات المنشقّين في ما خص العمل في الأحياء وشعار "حي - معمل - مدرسة".
ومع العودة الى الأحياء عدت الى الشيّاح، حيث يقيم الأهل، فبتّ أتعرّف من خلال اجتماعات "المجموعات المستقلة"، على نوعيات هي نفسها تلاميذ وموظفون صغار. لم يأت اناس من الحي. كانوا يأتون ببعض ابناء الحي الى الاجتماع، من خلال علاقات ثنائية، لكنْ فقط ك"كمالة عدد".
بين 1973 و1975 حصل انفلات في جونا السياسي، وبدأت تدريبات على السلاح في المخيمات والعرقوب وراشيا. كان تدريبنا مع "الديموقراطية" وفتح، وكانت لي دورة في دير العشاير واخرى في سورية ل15 يوماً. والحال اني كنت استحي بحمل السلاح واحس انه يفصلني عن جوٍ اهلي حميم، لا سيما عن علاقات بنيتها مع المسيحيين في عين الرمانة. لهذا لم اكن احمله الا في الليل.
في نيسان ابريل 1975 كان انتهى النشاط السياسي للمنشقين، لكن الحدث جدّد نشاطيتهم، فكان هؤلاء، في الشياح، بين اوائل الذين نزلوا الى الشارع يوقفون الناس ساترين وجوههم بجوارب نايلون.
الناس، بمن فيهم اهلي، غادروا الشياح التي لم يعد فيها الا المسلحون. ولم يعد لي في هذه الوحشة من خيار غير حمل السلاح، فحملته مع فتح. لكن ما كان يمنحني بعض الامان وجود مسلحين اعرفهم، لا المسلحون الجدد عليّ واغلبهم فلسطينيون.
استمرت هذه الحال اربعة اشهر انتابني بعدها ضجر متواصل على شكل شعور بالنعاس لا يبارحني. لم اطلق خرطوشة. تعرفت في المركز على شاب عراقي يحب الشعر، فرحنا نتسلّى معاً.
برجوعي الى قريتي، شبعا، حيث الضجر قاتل ايضاً، اتصلت، مع آخرين، بأبو خالد العملة للحصول على سلاح منه، وكان مركزه في ابو قمحا. وبالفعل انشأنا "التجمع الوطني في شبعا" الذي تجمع بين افراده المقيمين جميعاً في بيروت، روابط قرابية وعائلية، فضلا عن وجود وجه رعائي للتجمع هو المرشح الانتخابي السابق امام حمدان.
وحملنا المسدسات وانخرطنا في نشاط سياسي من حول فتح. شكلنا خمس او ست خلايا مسلحة تضم واحدتها 3 - 4 افراد، ورحنا نعقد اجتماعات مغطاة بالصداقات والقرابات.
مع تدهور الوضع اكثر، قبيل الدخول السوري، استولينا على ارض مشاع، وما لبثت ان ظهرت الخلافات بيننا حول تقسيم الارض هذه والبناء عليها، فضلا عن الخلافات حول توزيع الطحين. وفيما توتر الجو في القرية، راح المختار يحذّرنا من اننا سنخرب القرية خصوصاً ان اسرائيل على مرمى حجر منا.
وشبعا ثلاثة ارباعها سنّة وربعها روم ارثوذكس، لكن عدد مسيحييها خضع لتناقص مديد، خصوصا مع الهجرة الى بيروت والخارج. وفيما هجرة المسلمين الى الخليج فهجرة المسيحيين الى الأميركتين، والكثيرون منهم لا يعودون.
والمسيحيون يقيمون في جهة من جهات القرية، وحالات التزاوج المختلط نادرة، بل حالات الاختلاط الاجتماعي، ما خلا زيارات المناسبات، نادرة. وهم، اقتصاديا، يعملون في الوظائف والمهن البسيطة التي يعمل فيها المسلمون، الا ان الاخيرين تربطهم علاقات تبادل وتجارة مع سورية، وقبلا فلسطين، مما لم يعهده المسيحيون. فشبعا قريبة جدا من الحدود مع سورية ولأهلها 14 مزرعة وحرج زيتون في داخل الأراضي السورية تمتد جنوبا حتى الشريط مع اسرائيل ويقيم فيها رعيان، كما أنها غير بعيدة عن الحدود مع فلسطين وتاليا اسرائيل. كذلك يقبل تقليديا اهل شبعا المسلمون على الجيش، وابناء العسكريين حين يعودون الى القرية بعد اقامة وتجوال في مناطق اخرى، يبدون بين اكثر ابناء شبعا تمدناً وتمديُناً. مع هذا لم تشع ايديولوجية الجيش، على النحو الذي نعرفه عند الموارنة، وعند الشيعة جزئياً، في اوساط اهل شبعا.
والقرية، وهي تقع شمال كفوشوبا وراشيا الفخار وشرق حاصبيا والخيام، اربعة ارباع، كلٌ منها تحالف عائلي. اولها حول العائلة الاكبر، هاشم، وكان منها وجيه قبل الخمسينات هو ابرز وجهاء القرية آنذاك. ومقابل اعتداد هذا التحالف واحساسه بقوته، يشعر تحالف بيت برغش بالدونية حياله، ربما لأن العائلة التي يُعرف بها صغيرة جدا، ولربما انقرضت كليا. وهناك تحالف بيت عساف، وهم ايضاً عائلة ربما انقرضت، وهو يستند الى العلم والوظيفة، وابرز أُسَرهم الآن عائلة ماضي، ومنها رئيس البلدية، فضلاً عن كونها عائلة الولاء بالدولة والارتباط بالمركز البيروتي. واخيرا هناك المسيحيون.
وكان علي ماضي اول نائب من شبعا، وقد صوّتت له القرية كلها واعتزّت بنجاحه، ثم تكرر الشيء نفسه مع منيف الخطيب الذي ينتمي الى حلف بيت عساف. ومنيف مدير مدرسة سابق، والده كان وجيها على صلة بالثورة السورية الكبرى، وشقيقه ضابط كبير.
وكان الفتحاويون ينتسبون الى عائلات بيت برغش الاكثر اشتمالاً على العائلات الصغرى، فيما نما "اتحاد قوى الشعب العامل" في عائلتي هاشم والخطيب، واغلبهم نالوا شهادة بريفيه في حاصبيا ثم توجهوا الى دار المعلمين في بيروت، حيث اصبحوا ناصريين.
وشبعا اكبر قرى العرقوب الذي تشاركها الانتماء اليه قرى سنية في سفح جبل الشيخ، كالهبارية وكفر شوبا وكفر حمام وعين عطا، وقرى مسيحية - درزية مختلطة كراشيا الفخّار وكميمس والكفير ومحيطهما من التلال والاحراج وصولاً الى راشيا.
والقرى السنية عموماً شبه جرداء، مأهولة بعدد من البيوت الصغيرة المتواضعة. وبين 1967 و1969 تمركز فيها الفدائيون الفلسطينيون وامتدوا منها الى الأحراج التي تشرف على شمال اسرائيل. لكن الزعامة السنية التقليدية في المنطقة هي لآل شهاب في حاصبيا، وإن ظهرت محاولات لتحديها كالتي مثّلها المحامي احمد سويد من كفر حمام.
غسان مكحّل: جوار زحلة وبعلبك
تنطوي المدن والقرى التي على سفوح السلسلة الغربية على لون شيعي طاغ يتخلله وجود مسيحي. فهناك في قضاء زحلة، مدينة زحلة والمعلّقة والكرك والفرزل ونيحا وابلح وغيرها، وفي قضاء بعلبك، النبي ايلا وتمنين التحتا والفوقا وقصر نبا وبدنايل وبيت شاما وحوش الرافقة وطليا وغيرها. وتقع شمال هذه القرى شمسطار وطاريا وحدث بعلبك. وخلال السنوات العشرين الماضية حصل تقلّص في الوجود المسيحي لصالح الوجود الشيعي.
والوصف والتوازن الطائفيان نفسهما يصحّان في المدن والقرى التي على سفوح السلسة الشرقية، وهي في قضاء زحلة: حوش حالا ورياق وعلي النهري وحارة الفيكاني ورعيت ودير الغزال والناصرية وسرعين التحتا والفوقا والنبي شيت وجنتا ويحفوفا حتى الحدود السورية. وفي خط آخر هناك الخضر ومعربون ثم بريتال وحورتعلا ودوريس وصولا الى بعلبك.
فقد خضعت هذه المنطقة لهجرة مسيحية متلاحقة، وهناك فيها الآن قرى صغيرة مهجورة تنمّ عنها كنائسها، كقرية ماسا بين الناصرية وعلي النهري. وكان من عوامل الهجرة المسيحية تلاحُق هجرة شيعية من منطقة جبيل اليها، ومع الحرب اضيفت هجرة جنوبية.
فاذا اخذنا، مثلا، قرية الناصرية التي كان يملكها ريمون ابو رزق، وجدنا ان المسيحيين قد غادروها، بمن فيهم الملاكون، وحلّت فيها عائلات شيعية كان افرادها يعملون في الاراضي الزراعية لأبو رزق. انه، بمعنى ما، تحول اجتماعي ارتدى وجهاً طائفياً.
وهذان السيولة والحِراك الطائفيان هما ما نقع عليه، بصور مختلفة، في أمكنة أخرى: فحوش حالا، مثلا، كانت بمثابة مزرعة ملحقة برياق، المسيحية تاريخيا، الا انها، هي التي اقام فيها مسلمون، توسّعت لتعادل رياق عددياً. وتقليديا كانت منطقة سفوح السلسلة الغربية ذات ولاءات تقليدية تتوزّع بين صبري حمادة وجوزيف سكاف وبيت حيدر. اما منطقة السفوح الشرقية فتبارى فيها حمادة وسكاف، وكان الثاني اقوى بسبب الأرض والمال.
هذا كله يتغير الآن بطبيعة الحال. وربما كان آل حيدر، وهم عائلة محبوبة في المنطقة، سبّاقين، بمعنى ما، في اعلان هذا التغير عن طريق ترشّح ستة اشخاص منهم في انتخابات 1972، ما ادى الى ضرب نفوذهم.
والتغيّر الذي كان سابقاً على هذا، والذي ترتّبت عليه نتائج مهمة لاحقة، حصل مع عهد الانتداب الفرنسي. ذاك ان المنطقة انتقلت من الدوران في فلك بعلبك الى الانجذاب الى زحلة التي حظيت بالتركيز الاقتصادي والاجتماعي، فضلاً عن انها اقرب من بعلبك الى طريق الشام، مع ما يعنيه ذلك من تبادل وتجارة وفرص لهو وتسلية.
على أن المنطقة بمجملها ليس فيها عشائر، وإن أقامت فيها عائلات كبيرة العدد كاقامة آل الموسوي في النبي شيت، مع وجودهم في قرى اخرى. وهناك عناصر كثيرة، وخاصة بالمنطقة الى هذا الحد او ذاك، تتدخّل في اقتصادياتها. فاقتصاد علي النهري ورياق يعتمد على محطة سكة الحديد وما استجلبته من موظفين وعمال. كما ان معلّقة زحلة محطة سكة حديد تكثّف فيها الوجود الاسلامي تاريخياً. ولئن قامت ابلح ورياق على ثكنات الجيش، فان بدنايل وتمنين حافظتا على طبيعتهما كقريتين فلاحيتين. ونظراً للوقوع في دائرة حدودية، فان المناطق الشرقية عرفت انماطا من الاقتصادات والمداخيل لا تتعرض لها عادة القرى والبلدات الداخلية.
ويبقى ان المنطقة الغربية، وهي التي انتشرت فيها الاحزاب اكثر، اشدُ انفتاحا واقل تعصبا من الشرقية التي اجتاحتها موجة الاسلام السياسي بسرعة اكبر. لكن القرى المسيحية، في الشرقية، عرفت تواجداً شيوعياً كثيفاً، كحالة آل صليبا في رعيت. وبسبب سكة الحديد كان للشيوعيين وجود مبكر وكثيف بين شيعة علي النهري أيضاً، كما وُجد الشيوعيون، للسبب نفسه، بين شيعة معلّقة زحلة ومسيحييها.
ويلاحَظ عموماً أن القرى المسيحية التي نما فيها الشيوعيون، قرى جبلية وشبه معزولة، على ما هي حالة رعيت ودير الغزال، وهاتان القريتان كانتا المصدر التقليدي لشيوعيي رياق الذين هاجروا مع الحرب خوفاً من الولاء الكاسح في رياق للدولة والكتائب.
وفي المقابل، وُجد الحزب الشيوعي في قرى شيعية سهلية، كحوش حالا وتمنين وبدنايل. وفي بداياتها نمت منظمة العمل الشيوعي، لا سيما بين الاساتذة والطلبة، الا ان انشقاق 1973 قضى على حظوظها.
في علي النهري، احدى اكبر قرى المنطقة، ظهر حزب النجادة في الاربعينات، ثم التقدمي الاشتراكي في الخمسينات والستينات. اما القوميون السوريون فلم يُلحَظوا في المنطقة الشرقية، علماً انهم وُجدوا في الغربية، لا سيما في قرية الفرزل الارثوذكسية، كما وُجدوا في تمنين، من خلال عائلة عرار الصغيرة العدد والتي تتشكّل من فلاحين وملاكين صغار شديدي العصبية.
وتاريخياً بدأ البعث في بعلبك وبدنايل، وتغذّى من انتشار التعليم والثقافة والصلات بالشام. فزيد حيدر من بدنايل، وحبيب زغيب من يونين القريبة من بعلبك، وحسين عثمان بعلبكي ورئيس بلدية. وبعد 1973 حقق البعث العراقي قفزة هناك.
وبدورها وُجدت حركة القوميين العرب أيضاً في المنطقة الغربية، لا في الشرقية، مثلها مثل البعث مع انه فاقها قوة بكثير. والاثنان صعدا من ضمن المد الناصري في الخمسينات، لكن اللون الشيعي طغى على البعث كما توضح الانتسابات اليه في عائلات حيدر والموسوي وغيرهما.
بيد ان موسى الصدر وحركة "أمل" شهدا نموّهما خارج هذه المنطقة. النمو حصل في بعلبك والبقاع الشمالي، اي في الوسط العشائري، حيث ارتبطت قطاعات عريضة من السكان تقليديا بالدولة وتقديماتها. كذلك التف حول الصدر آل الموسوي في النبي شيت، وهم هناك عائلة كبيرة ساهمت في ثورة 1958 وقصفَها الطيران اللبناني، لكن هذا الالتفاف لم يبلغ ما بلغه بين عشائر البقاع الشمالي.
والحال أنه ما من تقليد لرجال الدين في المنطقة. ففي تمنين، مثلا، عائلة رجال الدين هي آل الخطيب، وأصلها البعيد من الجنوب. وفي هذه القرية التف السيّاد، اي آل مرتضى والحسيني، حول الصدر، بينما وقفت عائلة المشايخ، آل الخطيب، ضده. وخلفية ذلك ان الشيخ حسين الخطيب الذي كان رئيس المحاكم الشرعية الجعفرية في بيروت، تضرر من تأليف "المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى"، وصار في طليعة معارضي الصدر. وقد انتسب شبانٌ من هذه العائلة الى التنظيمات الشيوعية والناصرية، والشيوعيون بينهم هم الذين قاتلوا "أمل" لاحقاً.
في علي النهري مثلاً تكتّلت آل الموسوي، ممن اصولهم في النبي شيت، وكذلك آل مرتضى والفوعاني وجمعة، وكلها عائلات صغرى، حول "أمل". اما العائلات الكبرى كآل المذبوح، وفيها شيوعيون وبعثيون سوريون واشتراكيون، وآل مكحّل، وفيها شيوعيون ونجادة ثم بعث وناصريون واشتراكيون، وآل مهدي، فلم يقفوا معها. وبسبب محسن دلّول، تعاطف آل دلّول، وهم عائلة متوسّطة الحجم، مع الحزب الاشتراكي.
ويمكن القول ان العائلات التي تقف مع "أمل" حالياً، هي التي كانت تقليديا اقرب الى صبري حمادة، اي انها كانت، بصورة عامة، ضد جوزيف سكاف. او هذا، على الاقل، ما يصح في علي النهري تماماً.
فالنزاع، هناك، هو تقليديا بين اسرتي مكحّل والمذبوح اللتين تتقاسمان الأُسَر الصغرى، فتقف مكحّل مع جوزيف سكاف، والمذبوح ضده. واذا ادخل نمو الاحزاب بعض التغيير على لوحة الصراع التقليدي، الا ان السنوات الاخيرة، لا سيما مع الدخول السوري الى البقاع، اوقفت هذا النمو، وهو ما بذل حزبيو علي النهري وبدنايل جهوداً ملحوظة للتغلّب عليه. غير ان الاحزاب العقائدية لم تكن ابداً قوة خارقة في المنطقة. والدليل انه حين ترشح الشيوعي والبعثي، زكريا رعد وحسين عثمان، في 1972، لم ينالا في منطقتنا الا نسبة هزيلة من الاصوات.
وفي الفترة الاخيرة، وكما أشير قبلاً، لوحظ وجود كثيف لحزب الله في المنطقة الشرقية، مع استمرار تواجد شيوعي ذي غلبة مسيحية حمى السوريون استمرارها. وأيضاً في حور تعلا، نما البعث السوري في وسط آل المصري، من احفاد ملحم قاسم، وهو ما صار ظاهرة ملحوظة بعد 1973 والصدامات السورية - اللبنانية وقصف رياق.
الحلقة العاشرة والأخيرة: الاثنين المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.