عشية اعلان الوحدة اليمنية في 22 ايار مايو 1990 بشر النظامان السابقان في صنعاء وعدن بأن عهداً من الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي والتداول السلمي للسلطة سيسود اليمن. ووصل الرئيس علي عبدالله صالح ونائبه حينها علي سالم البيض الى السلطة من خلال الديموقراطية التي لم تعلن في المجتمع، وخرجت الأحزاب السرية من جحورها وعادت من منافيها مرحبة ومباركة بالخطوة الوحدوية العظيمة. ولأن الوحدة قامت في اكثر مناطق العالم جهلاً بالديموقراطية وبتقاليد الدول الاتحادية، ولأن الديموقراطية تتطلب وجود ديموقراطيين حقيقيين ومؤسسات مدنية وطبقة وسطى فان اليمن بقي عنيفاً وغير مستقر. وباستثناء قبائل المحافظات الجنوبية والشرقية فان قبائل الشمال كانت تقوى وتتسع او تضعف وتضيق تبعاً لعلاقتها ومصالحها مع النظام الذي تمركز حينها في حوض صنعاء. ولم يتغير واقع الحال بعد قيام الوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب. نحاول عبر هذه المداخلة المتواضعة المساهمة في النقاش واغناء ما قد طرح من رؤى حول الاوضاع السياسية والاقتصادية والوحدة الوطنية في اليمن انطلاقاً من الفرضيات التالية: الفرضية الأولى: ان ما يعمق ازمة السلطة هو انتماؤها الفكري والثقافي للماضي القاسي، وعدم قدرتها على التقارب الصادق مع بعض احزاب المعارضة وفهم حجم الكارثة التي يعيشها الوطن، حتى اصبحت احزاب المعارضة في نظر السلطة عبارة عن مجموعة من الكفرة والملحدين لا همٌ لهم سوى خيانة الوطن، لذا اعطت السلطة نفسها الحق في معاقبة بعض احزاب المعارضة وتحديد الضار منها والنافع. الفرضية الثانية: التحول السياسي نحو الديموقراطية واحترام الآخر واجه صعوبات كبيرة جداً في الشمال نتيجة التركيبة الاجتماعية والثقافية للمجتمع، حيث لم يسبق هذا التحول الديموقراطي تغيرات ثقافية مدنية لانعدام الوجود الفاعل للسلطة المركزية. الفرضية الثالثة: تعتقد احزاب المعارضة انها ستستمد شرعيتها من رضا النظام نفسه او من الأنظمة الدولية وليس من وحدتها وتجديد نضالها الوطني السلمي، لذلك افقدت هذه الأساليب المعارضة قدرتها على التأثير الجماهيري، كما انها باتت تفتقد القدرة على التنظيم والمناورة واستهلك دورها في ردود الأفعال الآنية. لذلك تعيش بعض احزاب المعارضة اليمنية في فراغ سياسي واضح وفي حال المحاججة العفوية مع الحكومة وتتخبط في موقفها من القضايا الوطنية الكبرى على خلفية جملة من المتغيرات الدولية التي تواجه الساحة العربية بشكل عام. ولا يخفى ان الاعلام الرسمي وجد آذاناً صاغية لدى العديد من الفئات الاجتماعية المتضررة من حكم الحزب الاشتراكي والتي اكتوت بايديولوجيته، وحاول النظام ان يسخر تاريخ الحزب الاشتراكي لمصلحته، علاوة على النفور الضمني في مختلف الاوساط الرسمية والشعبية الجنوبية من الصراعات الدموية الدورية التي اشتهر بها الحزب الاشتراكي منذ تأسيسه عام 1978. والدرس المستفاد هنا ليس ان الماضي سيئ والحاضر كذلك، بل ان الحجج الوحدوية والاقتصادية والاجتماعية الداعمة للديموقراطية والوحدة الوطنية والتنمية الاقتصادية ببساطة غير موجودة، وهذا ما يتسبب في احتكاكات قبلية وتاريخية وجدت فرصتها للانفجار في اكثر من محافظة. وظهر واقع سياسي يتنافى تماماً مع الوحدة والديموقراطية، لأن الديموقراطية لا تستطيع ان تبني الدولة في اليمن في ظل معارضة قال عنها الرئيس علي عبدالله صالح: "ان معارضة ما يسمى مجلس التنسيق لا تحظى باحترام المواطن، وهؤلاء في خصومة مع الشعب ومع الوطن، فكيف يتم منحهم تزكية ممثلي الشعب لخوض الانتخابات؟ انني انصح هذه الاحزاب بالتصالح اولاً مع الوطن نتيجة ما اقترفته من اعمال تخريبية واحداث آثمة ضد البلد" "الحياة" 24 آب/ اغسطس 1999، لذا ستبقى ملفات الجنوب الاشتراكية مفتوحة، مع ان الكل يعرف ان ملفات الشمال لا تقل عنها وحشية وقسوة. كل هذه القضايا السياسية المتعلقة بالوحدة تعمقها الحالة الاقتصادية المخيفة. وان افضل ما يمكن التطرق اليه في هذ الجانب هو ان الناتج القومي للفرد كان في الجنوب قبل الوحدة 480 دولاراً وفي الشمال 230 دولاراً فيما هو اليوم على مستوى اليمن ادنى بعشرة او اثنى عشر ضعفاً. وقبل ثلاثة اعوام انتمت اليمن الى مجموعة البلدان الأشد فقراً في العالم، وهي أشد فقراً من دول افريقيا الغربية الناتج القومي للفرد في نيجيريا وتشاد 500 دولار. وفيما يتعاظم الفقر يرافق ذلك ارتفاع النمو السكاني، وسيشهد اليمن خلال السنوات العشر القادمة انفجاراً سكانياً كفيلاً بالقضاء على كل اصلاحات صندوق النقد الدولي، حيث يزداد السكان بمقدار خمسمئة الف فرد سنوياً يزيد بمعدل 3 في المئة، ففي عام 2012 سيصبح عدد سكان اليمن 32 مليون نسمة، ولا نتجاهل - في ظل الامكانيات الحالية المباحة للأقوياء - ما سيتعرض له اليمن خلال الأعوام القليلة المقبلة من صعوبات اقتصادية مؤكدة بسبب انهيار العملة الوطنية وارتفاع الاسعار ورفع الدعم عن السلع الغذائية الشعبية وبيع الصناعات الأولية الوطنية وإهمال الرقابة على الاغذية الفاسدة المباعة في الاسواق، ولا توجد اي عوامل للخروج من هذا المأزق. ولا شك ان الطامة الكبرى هي ما قرأنا وسمعنا حول الغش في الامتحانات الذي استشرى بسبب المناهج الدراسية التي تعمق الجهل والتخلف وتبتعد عن العلم والتقنية، ونظام الامتحانات الذي لا يحول دون التنافس بين الطلاب الأذكياء. وهناك توقعات اكثر تشاؤماً ايضاً، توحي بأن الجيل الحالي والقادم سيدخلان القرن الواحد والعشرين وهما اكثر تمزقاً وجهلاً، لا يعرفان الا ذاكرة التاريخ التعيس في عالم جديد لا يعترف بتلك الكتل البشرية الضخمة من الفقراء والأميين ولا يقوم الا على اساس المعرفة والعلم. ورافق هذا التدهور الاقتصادي لجوء الحكومة الى القروض الأجنبية، وصارت توظف بعض عائدات النفط في بناء قوات عسكرية وأمنية ضخمة، وزادت نفقات الدولة في شراء الاسلحة، وتسارعت وتيرة التضخم. وخلال الاعوام الثلاثة الاخيرة وجدت اليمن نفسها في خانة البلدان الأكثر مديونية في العالم. ولا تنسى وسط هذه الحقائق ان تذكر حقائق اخرى وهي ان اليمن 550.000 كم2 و17 مليون نسمة يمتلك مواد غذائية كثيرة، ويتميز بثروة حيوانية وزراعية وبأرض تحتوي على البترول والغاز الطبيعي والذهب ومعادن اخرى. نظرياً، تعطى هذه الامتيازات افضلية، الا ان هذه الامكانيات تتهمش وتتبدد بفعل عوامل مترابطة. اما البعد الآخر للقضية الوطنية اليمنية الوحدة الوطنية فربما هو اخطر ما في الأزمة اليمنية واعقدها على الاطلاق، حيث تمارس اساليب وحدوية عتيقة فشلت بسببها انظمة كثيرة في العالم وتراجعت عنها تماماً. ويعلمنا التاريخ ان الدول مهما بلغت سلطتها لا تستطيع ان تغطي التدهور الاقتصادي والظلم الاجتماعي والفوارق الوطنية والأضرار السياسية بقوتها العسكرية والأمنية، وان اي تنمية اقتصادية او اصلاح اداري لا يتحققان الا داخل اطار سياسي مستقر وقوي. ومن المهم هنا الاقرار بقضية واقعية هي قضية "الوحدة الوطنية الديموقراطية" ينبغي العمل بجدية وصلابة وصدق من اجلها. بمعنى آخر من المهم الاعتراف بأن قضية "الوحدة الوطنية والديموقراطية" ليست قضية خطأ يتحمله ماضي النظامين السابقين في الجنوب والشمال، او هذا الفصيل او ذاك، او عدم ثقة من طرف بطرف آخر، وانما هي اليوم قضية مشتركة، على السلطة والمعارضة الاعتراف بها والعمل على حلها. ولعل الخصام الحاد بين بعض احزاب المعارضة والسلطة يعود الى غياب المفهوم الاستراتيجي الوطني للوحدة والديموقراطية. انطلاقاً من ما سبق يمكن لنا الحديث عن الانتخابات الرئاسية المقبلة. وبما اننا نرفض العدوانية والعنف ولا يوجد اي طريق آخر للدفاع عن حقوق المظلومين المشروعة سوى الطريق السلمي، يجب على النظام اولا ان يعترف بحقوق المعارضة وان يتحاور معها، فالحوار له افضليات. ورفض الحوار وتخوين وتكفير المعارضة يتعارضان مع الانتخابات البرلمانية والرئاسية ومعاييرها الديموقراطية. وليس كل بلد ينشد لانتخابات الرئاسية هو بلد ديموقراطي، بل ان التاريخ الحديث يروي لنا ان هتلر وموسوليني وصلا الى السلطة من خلال الديموقراطية وعبر انتخابات رئاسية او برلمانية، وجاءت اميركا وكان لرواندا برلمان وتعددية حزبية وصحافة حرة ولكن لأن النظام لا يفكر الا بأشباح الماضي وحروبه وتقسيماته القبلية قامت قبائل الهوتو الأكثر عدداً وذبحت الآلاف من قبائل التوتسي وانتهى الائتلاف الحكومي بين الهوتو والتوتسي في أبشع مجزرة شهدها القرن العشرون، واصبحت الانتخابات البرلمانية في رواندا اكثر تعقيداً من الحكم الدكتاتوري. والواقع ان فرض الانتخابات الرئاسية بسبب عوامل داخلية وضغوط خارجية قد لا يساعد اليمن على الاستقرار السياسي. كما ان القروض والمنح الخارجية التي تتسلمها الحكومة مقابل السماح لهذه الصحيفة او ذاك القلم بالنشر والكتابة ليست ضمانة لانتصار الديموقراطية. لذا فالانتخابات الرئاسية التي نشجعها ونتوق اليها يجب ان تكون جزءاً متمماً من عملية حوار وطني شامل. * صحافي يمني.