"الطائر في العنق"، هي الرواية الثانية للاديب الناسك المرهف، عمرو القاضي، بعد روايته الاولى "البرزخ"، الصادرة في 1996. روايتان متراصفتان متألقتان، صدرتا في غضون سنتين متواليتين، بعد صمت ابداعي طويل امتد سنين عدة، وكأن السحائب والبروق التي تجمعت وتراكمت وئيدا على امتداد هذه السنوات الصامتة، انتزع عنها الصمام فجأة، في اللحظة الموقوتة الموعودة والمناسبة، لتنهمر زخاً ابداعياً زخماً، منفساً عن مخزونه ومكنونه. كأن الروايتين، طلقتان متوهجتان من بندقية ظلت تُعبّأ على مر الايام، وعمرو القاضي، لعلم الاجيال الجديدة القارئة، ليس جديداً على ساحتنا الادبية ولا طارئاً عليها، بل هو قديم قدم هذه الساحة وجندي من جنودها الاوائل، المجهولين والمعلومين. عرفناه، نحن المجايلين له، كاتباً جيداً للقصة القصيرة في اوائل السبعينات الحامية الوطيس، حين جمعتنا كلية الاداب في ظهر المهراز بفاس، شبيبة وطلاباً يافعين من كل فج مغربي. كان عمر ينشر قصصه في جريدة "العلم"، مضختنا الابداعية والاعلامية انئذ. وكانت قصصه مشحونة بأشواق المرحلة وهمومها واسئلتها التي تقمصت نتاج جيل باكمله. وما زلت اتذكر في هذا الصدد، قصته الجميلة "السيد الخلاص" 1969، التي حظيت باعجاب كبير من طرف قرائها لحساسية موضوعها ،وشفافية بنائها وصوغها، في فترة مبكرة، كانت فيها القصة القصيرة المغربية تشق طريقاً جديدة ، وتشهد ولادة ثانية . وبعد تخرجنا من الكلية وانتشارنا في الارض ، لتحمل مسؤوليات جديدة توقف عمرو القاضي فجأة عن نشر قصصه، وركن الى خلوة ابداعية صامتة وطويلة امتدت اكثر من عشرين سنة، حسبناه اثناءها، زاهداً في الكلمة وعازفاً عنها، كما حصل لمبدعين بارزين من نفس الجيل، وهما محمد انقار وادريس الملياني. وللغائب حجته كما يقال. لكني شخصياً، كنت ارى هذا التوقف المفاجئ المديد، كاستراحة تأملية طويلة لمحارب لا يمكن ان يلقي السلاح، ولا يملك الا ان يعود اليه، وكذلك كان. فقد عاد الينا هؤلاء الثلاثة، والعود احمد، واصلين ما انقطع، ومستأنفين ما امتنع. عاد الينا عمرو القاضي هذه المرة، روائياً مكتملاً ومكتنزاً، يحمل بيد رواية البرزخ"، وبالثانية رواية "الطائر في العنق"، مؤكداً بذلك ان صمته الطويل لم يكن سوى "برزخ" بين محطتين ابداعيتين. وروايته الاخيرة التي بين ايدينا "الطائر في العنق"، توكيد ايضاً، على ان عمرو القاضي مجود لا بداعه ومتجدد فيه، بكل موضوعية ونزاهة في القول. وماذا ترى ننتظر من مبدع ناسك ومحنك وصبور، غير الاجادة والتجديد؟! "الطائر في العنق"، عمل روائي ساخن وحساس وجريء، ينكأ جرحاً كبيراً هو جرح هذا الوطن، ويشرح مرحلة سياسية دقيقة، تشريحاً روائياً واسبتطانياً عميقاً وقاسياً، من خلال الغوص في معاناة مناضل كبير وقديم، سلخ ثلاثين عاماً من عمره في المنفى ثم عاد بغتة الى ارض الوطن، في الموسم المعد سلفا لعودة المغتربين، ليجد نفسه في منفى آخر، اشد فظاظة ومضاضة، بعد ان اصبح الوطن غير الوطن، والحزب غير الحزب، والنقابة غير النقابة والناس غير الناس. ان الرواية بذلك، هي رواية المصير الخائب الذي لا يطول شخصا بعينه فحسب، بل مرحلة باكملها، ووطناً برمته. وهنا قوة هذه الرواية، وخصوبة سؤالها وأشكالها. والطائر بذلك ليس في عنق المناضل العائد، وحده، بل هو طائر في اعناقنا جميعاً، ما دامت مسؤولية المواطينين تجاه الوطن، مشتركة وواحدة، في السراء والضراء. وقد اختار المؤلف هذا العنوان الدال لروايته مستعيراً اياه من القرآن. نقرأ في الآية 13، من سورة الاسراء: "وكل انسان الزمناه طائره في عنقه، ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا". وتضيف الاية الموالية 14: "اقرأ كتابك، كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا". هكذا يكون طائر العنق هنا، هو عمل الشخص ومصيره، وكل مسؤول عن عمله وسابقته، ومسوق الى مصيره سوقا بمقتضى هذا العمل وهذه السابقة، ويكون الطائر المعلق في عنق المناضل، هو مصيره الخائب الفاجع، بعد ان قرر العودة الى منفاه الثاني داخل اسوار الوطن. وكأن عنق المناضل القديم هنا، محشور في عنق الزجاجة، كأن الرواية وهي ترصد بدقة معاناته ومكابدته الشقية، تواجهه على امتداد صفحاتها التشريحية. وانه لحساب عسير، هذا الذي تعقده الرواية مع مناضلها الكبير، من الألف الى الياء. وانه لكتاب ثقيل، هذا الذي تقرأه على مسامعه. يختار الروائي لمناضله، اسما سايتريا وياروديا دالا، هو زعفان بن عفان. "ولد زعفان بن عفان قبل اعلان الحماية. لكنه يستدرك: لا اعرف بالضبط. لأن هيئته وبنيته لا يمكن ان يمتدا به الى هذا التاريخ. انه ولد عام الطوفان حسب رواية امه. لكنه لا يستطيع تحديد اي طوفان... كانوا يقولون له، اذا كنت مصراً على ارتباط ميلادك بحدث ما، فلماذا لا يكون يوم اعلان الظهير البربري او قد ولدت يوم معركة انوال، فيهز رأسه مبتسما". مهما يكن من امر، فقد ولد زعفان بن عفان في زمن الضائقة والازمة، وعاش حياته بالطول والعرض، يقارع اينار واصار الضائقة والازمة، لا يألو جهداً ولا يدخر وسعاً، وانتهى به المطاف بين فكي الضائقة والازمة. فالازمة هي قدره ومساره، والخيبة هي مآله ومصيره. انه بطل روائي مأزوم واشكالي، بكل معنى الكلمة. يعود المناضل زعفان من منفاه الى ارض الوطن بعد غياب او تغييب دام ثلاثين سنة، مستفيداً من ذلك الموسم الفولكلوري - السياسي لعودة المغتربين. فماذا يرى بعد عودته، وكيف يجد الوطن بعد عودته؟! لنقرأ هذه الشواهد التمثيلية، الشاهدة على المشهد: "منذ ان وطأت رجلاه المطار، وهو يسمع انينا على شكل مواويل تملأ الفضاء، ناي حزين، صوت حزين. هذا ما استطاع تصوره". "المطار مترع بالحزن. للحزن ابواب ونوافذ، تساءل في حسرة، اين حزني من حزن البلد ؟!". "انتبه الى ان عليه ان يملأ بياض الاوراق بعناية فائقة. صحيح لقد خمدت النار في الموقد، في الضلوع، في النفوس، خمدت همة النضال انكسر كل شيء". هذه بعض تفاصيل المشهد الوطني الذي تفتحت عليه حدقة المناضل الكبير، فور عودته من منفاه الطويل. وكأن نضاله الحافل وصموده الباسل، ذهبا ادراج الرياح وافضيا الى نتيجة معكوسة وصادمة. ولقد ساورته، وهو بعد في المطار، رغبة في النكوص على الاعقاب، والعودة الى منفاه، وبعض الشر اهون من بعض: "قال في نفسه، اللحظة مؤاتية، لم تبق مني الا بقايا، اجمعها في صمت. انت حزمة رماح فتك بها الصدأ. اليس كذلك؟! اغتنم فرصة وجودك بالمطار واستعد للرحيل. فانت الان ذكرى، انتهيت!". لكن، لات ساعة مندم، كما يقال. وقد سبق السيف العذل! وما على المناضل الا ان يحمل طائره في عنقه، ويقرأ كتابه كاملاً، حتى السطر الاخير، وكفى بنفسه اليوم عليه حسيباً. ما على المناضل، الا ان يؤدي ثمن عودته ويعيش غربته الثانية، في منفاه الثاني. يقول في رسالة الى صديقه الجزائري في المنفى، عمروش: "ان النفي داخل البلد اكثر قسوة من النفي خارجه، ما ابهظ الثمن ان يكون الانسان منتظراً للفرح الذي لا يأتي ابدا". فلماذا عاد المناضل اذن، الى ارض الوطن، طائعاً مختاراً، ما دامت دار لقمان على حالها؟! ايكون هاجس الوباء المنتظر الذي سيصيب البلد قد اثر فيه؟!". بلى! لقد "تيقن ان لعنة ما ستحل بهذا البلد ، وان الكاهنة العرافة صادقة". ذلك كان نذير الكاهنة حزكوية قديسة فاس، ونذير الكاهنة بنت عفطة قديسة البيضاء، في مستهل الرواية. وذلك هو تبرير المناضل لعودته الى ارض الوطن، لمواجهة الوباء وصد البلاء، وهو ما يؤكده ويتوجه ايضاً السطر الاخير في الرواية: "في المساء، اذاعت وكالات الانباء العالمية ان زعفان بن عفان، المناضل الكبير، سيعود الى بلده غدا، لان الوباء انهك بلده". وبين نذير البلاد هذا، الذي تبتدئ به الرواية، والنذير الموازي الذي به تختتم، تلعب الرواية على الضمائر الثلاثة دفعة واحدة انا، انت، هو، وعائد الضمير في الحالات الثلاث، هو المناضل زعفان بن عفان، الذي تحيط به الرواية من كافة الانحاء، متحدثة بلسانه تارة، ومتحدثة اليه تارة ثانية، ومتحدثة عنه تارة ثالثة، كاشفة عن معاناته، ومكتنهة لادق احباطاته وفلجاته. والرواية لذلك، تعتمد اسلوب التداعي وتيار الوعي، متناوحة بين الازمنة والامكنة والشخوص، تاركة للدواخل حرية البوح والافضاء. وتنهض الرواية على تقاطب حاد وفاجع، بين ماضي المناضل وحاضره، بين مبادئه النضالية السامية، وخيبات الواقع ومكره وانحرافاته بما يعمق بلوى هذا المناضل، وفداحة المصير الذي انتهى اليه. ذلك ان "البلاء" لم يعد هذه المرة اتيا من الخصوم فحسب، بل هو آت من رفاق النضال انفسهم. قدم عمرو القاضي في هذه الرواية الجميلة والجريئة، تشريحاً مجهرياً دقيقاً لوعي المناضل "الشقي"، الموزع بين المثال والمآل، بين المد والجزر. كما قدم من خلالها تشريحاً مجهرياً للمرحلة المأزومة المحشورة في عنق الزجاجة. قدم كل ذلك، بلغة رواية عذبة وراقية تحاذي اجواء الشعر، وتقبس من تألقه وتوهجه، اذ هي تغوص عميقاً في حمأة الواقع الساخنة والملتبسة وتحكم الطوق جيداً على عنق المناضل، وعنق المرحلة. لكن هل صحيح، ان الطائر الذي في العنق، هو طائر المناضل الكبير وحده، طوقه حصرا؟! ان في عنق كل واحد منا، طائره الخاص، وطوقه الخاص. وما ينسحب على المناضل، ينسحب علينا جميعاً أوالوطن، هو وطننا جميعاً. وفرضه علينا لذلك، هو فرض عين لا فرض كفاية، فليتحسس كل واحد منا اذن، الطائر الذي في عنقه.