محمد أركون واحد من أبناء الجزائر الذين لم يرتبطوا بهذا البلد إلا بالاسم . جزائري لكنه لم يعش جزائريته بمعناها الثقافي و الاجتماعي و السياسي بالشكل الذي يعزز فيه انتماءه لهذا البلد ، غادر الوطن مبكرا جدا ، في الستينيات ، و البلاد تخرج من استعمار استيطاني دام أزيد من مائة و ثلاثين سنة ، غادر الوطن و لم يعد إليه قط . بين رحيله من بلاده و رحيله من هذه الدنيا ، قرابة النصف قرن من الزمن ، عمرا كاملا قضاه في المنفى ، بعيدا عن الجزائر ، هل كان منفى اختياريا أم قصريا ؟ كان منفى اختياريا لرجل فرّ ، مثلما ظل يردده في كامل حواراته ، سياسة " الحزب الوحيد " و " نظام الحزب الوحيد " في جزائر ما بعد الاستقلال . محمد أركون ، المفكر و الباحث في الفكر الإسلامي الذي غادر الحياة عن عمر يناهز ال 82 في بيت باريسي فاخر بعيدا عن بيته و بيت آبائه المبني بالطوب و الطين بمرتفعات جبال القبائل البربرية ، هو واحد أيضا من مثقفي الجزائر و كتابها و مفكريها الذين لم يرتبطوا يوما بلغتها ، و ما ناله من حظ في التعليم كان بغير لغة بلده ، بلغة المستعمر التي فرضت على من سمحت لهم الظروف بمواصلة تعليمهم زمن الاحتلال الفرنسي . إنها اللغة الفرنسية التي قال عنها مالك حداد " إنها منفاي " و نظر إليها الكثير من المثقفين الجزائريين على أنها " غنيمة حرب " و تواصل بها أركون و لم يستعمل سواها منذ ترعرع في أحضان الكهنة من المبشّرين الكاثوليك المعروفين باسم " الآباء البيض " عندما كان طالبا في الثانوية بمدينة وهران غرب العاصمة الجزائر ، و ظل يشتغل بها طيلة مساره الأكاديمي و وجد صعوبة في الحديث بغيرها بل كان حديثه باللغة العربية إلى وسائل الإعلام العربية بالأخص الفضائيات أعرجا يزيد في تعقيد فهم الناس له و لأطروحاته. ولم يعش محمد أركون جزائريته كاملة ، كما لم يعش أمازيغيته كاملة ، عاشها بالعاطفة فقط ، بالشعور بالانتماء للعرق البربري و كفى ، دون أن يعود يوما لمسقط رأسه ، إلى تلك القرية الصغيرة " تاوريرت ميمون " الموغلة في جغرافية يوغرطة و ماسينسا بناحية " آث يني " بمنطقة القبائل البربرية شرق العاصمة ، وهي القرية التي غادرها في سن التاسعة من عمره و ظل يتحدث عنها في حوارته بكثير من الحنين بل و أفرد لها ملحقا في كتابه " معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية " تحت عنوان " مع مولود معمري بتاوريرت " و هو الروائي الجزائري الأمازيغي الأصل أيضا الذي يشارك محمد أركون نفس مسقط رأسه ، و صاحب الروايات الشهيرة " الهضبة المنسية " و " العصا و العفيون " ، و لقد تقاسم أركون و معمري النضال من أجل إقرار الهوية الأمازيغية في بعيديها اللغوي و الثقافي. و ظل محمد أركون ، الذي سعى طيلة مشوار أكاديمي عمره 40 سنة كاملة ، إلى خلخلة بنية التفكير و العقل العربيين ، منذ التحاقه بالسربون العام 1980 كمدرس لتاريخ الفكر الإسلامي، و ظل أيضا واحدا من أبناء الجزائر الغائبين على مستوى مدارسها و جامعاتها و مطابعها و من على شاشاتها ، ممن تم التنكر لمراجعهم و كتبهم و إسهاماتهم. و مثله ، و في نفس سنه تماما ( 82 سنة ) و بالمكان الجغرافي نفسه ( فرنسا ) كانت الجزائر قد ودّعت العام 2003 الشاعر و الروائي الكبير محمد ديب ، صاحب الثلاثية الشهيرة " البيت الكبير " " الحريق " " النول " أو ثلاثية الجزائر كما ينعتها النقاد ، و كان ديب واحدا من أبنائها ممن فضّل المنافي أيضا للموت بعيدا عن الوطن ، بل أوصى بعدم دفنه فيه و البحث عن مربع للمسلمين في مقبرة مسيحية ليوارى فيها ! و لعل ما يربط الرجلين ، أركون و ديب ، اشتراكهما في الجوع إلى الوطن ، اشتراكهما في إحياء السؤال المتكرر في «دائرة التباشير القوقازية» لبريخت: أيهما أحق بالولد، الأم التي أنجبته، أم الأم التي ربته ؟