الصورة الهشة التي يبدو عليها مناضلو الرواية السياسية في السعودية، ما هي إلا انعكاس طبيعي لهيمنة طقس الخوف على الروائيين، وضآلة المادة المتعلقة بالحركة النضالية، أو بمعنى أدق عدم توفر مرجعيات مادية في هذا الصدد، إذ لا تتوفر أدبيات سياسية كما تتمثّل في كتب المذكرات مثلاً، أو الشهادات المتعلقة بالتاريخ السياسي، حيث تم إمحاء آثار كل تلك الحقبة وطمسها في عالم النسيان، كما أنه لا يمكن للروائي في حالة تقليب مرجعياته السوسيو-ثقافية أن ينهل من الحروب مثلاً، أو الحديث عن حركات تحررية مقاومة للاستعمار وهكذا، وبالتالي فهو لا يغترف إلا من التجارب المجهضة. بموجب تلك المحدودية في الرؤية والتجربة يعود الروائي إلى مرجعيات معرّفة، فواقعة الإضراب العمالي مثلاً، يتم التذكير بها من وجهات نظر مختلفة، تبدو في الغالب تلميحية لا تصريحية. بل منقوصة ومشوشة، وتفتقر إلى الدقة والتفصيل السردي، بل يعوزها الاستطراد الذي يسمح لنموذج المناضل السياسي أن يحتل مساحته المستوجبة في السرد، وهو نقص يباعد بينها وبين المتطلبات الحقيقية للرواية السياسية. الرواية السياسية في السعودية رواية مذعورة. وهو واقع إبداعي يمكن تفهّم أسبابه، لأنها منبثقة في الأساس من بنية خوف وحذر، ولذلك تتخذ من منطقة المسكوت عنه مكانها ومبرر حضورها، كما يكشف وعي ولا وعي الروايات عن وجود سكتات وشقوق غير معبأة بالكلام، الأمر يفسر اعتماد الروائيين على لغة التمويه، وابتعادهم القصدي عن الحاضر، حيث يزعم أغلب الروائيين أنهم يختصرون حكاية جيل في شخص، هرباً من استحقاقات اللحظة، وهو خيار موضوعي ينعكس بشكل مباشر على شخصية المناضل السياسي، فهو إما مراهق مغرّر به سرعان ما يتوب عن مراهقته الثورية عند أول اصطدام مع السلطة، أو طالب يمارس نزوة النضال الصوري خلال فترة دراسته في بيروت أو القاهرة أو أمريكا أو باريس، وبمجرد أن يعود إلى الوطن يتخلى عن أوهامه وينسحب ناحية مشاريعه الشخصية، ليلتحق بتجار المدن وسماسرة المال العام. وفي أحسن الحالات هو مجرد حالم تقتله أحلامه الرومانسية بسبب لا واقعيته، وحماقاته الدونكيخوتية فيقضي ما تبقى من أيامه مأزوماً بحمولاته الأيدلوجية. السجن مظهر من مظاهر غياب الديمقراطية في المجتمع، وبالتالي يمكن أن يمثل حضور الفضاء السجني الكثيف، من الوجهة الروائية، أداة كشف لزمن سادته الاضطرابات السياسية. ووفق ذلك الرصد لنظام العلامات، ينبغي قراءة دلالاته، بمعنى التعامل معه كإشارة إلى وجود بيئة نضالية، لا مجرد إحالة إلى حالات عصيانية فردية، أو نزوات سياسية غير ناضجة الملامح، لكن أغلب الروائيين يتعاملون معه كعزلة تأديبية للمناضل، أو فرصة لعودة ابن الوطن الضال إلى رشده الوطني، وكأن المناضل كما تستعرضه أغلب الروايات، مجرد كائن مارق، بحاجة إلى الاستتابة، بل تشي أغلبها بكونه خائناً لوطنه، أو مجرد كائن مفتون بثوريات (الآخر) العربي المزّيفة، إلى الحد الذي يتم فيه تأثيم المناضلين والهزء بأحلامهم. وعند فحص أساليب التذكُّر والاستدعاء والتخييل عند الروائيين، بكل ما تحتمله أدائياتهم من إختلاف ممكن بين روائي وآخر باختلاف لغته وموقعه من الحدث المسرود، يتبين أن أغلبهم، عدا استثناءات ضئيلة جداً، يتفقون في نهاية المطاف على تجسيد المناضل في صورة كائن مهدّم وغير مؤهل سياسياً، يسكنه الخوف، أو يُميت نفسه بنفسه بالإفراط في الكحول والتدخين والأوهام والثرثرة، كما يتم رسم معالمه على المستوى الاجتماعي كشخصية معتلّة، مشوشة، وغير مستوية نفسياً، وهي مواصفات مجحفة وغير دقيقة، لا تعبّر عن جوهر الشخصيات النضالية، وعمق درايتها بالشأن السياسي، ومنسوب استوائها النفسي والاجتماعي والذهني، بقدر ما تتطابق مع شفاهيات المخيال الشعبي الذي يردد تلك المقولات الناقصة بوعي أو بدون وعي. أما السبب فيكمن، على ما يبدو، في اعتقاد معظم الروائيين بأن إنجاز رواية سياسية يعني الانحياز التام لمشروعية السلطة ومكوناتها، كما تكشف سياقات أغلب الروايات، والتنازل عن إبداء أي رأي ينم عن الاختلاف مع مشروعها، خصوصاً في الروايات المكتوبة بنزعة ثقافوية تنم عن وهم نخبوي بأهمية رأي كاتب الرواية في الأحداث والتحولات السياسية الجارية، اعتقاداً منه بأن روايته التي يعرضها كصك توبة أو استرضاء، ستسمح له بإعادة التموضع على مسافة أقرب إلى مفاعيل السلطة، كما تكشف بعض الروايات عن هذا البعد بمنتهى الوضوح، بما تحمله من مراجعة فكروية لمراحل اضطراب العلاقة بين المواطن والسلطة، وما تقترحه من تصورات كحل لإشكاليات الدولة الحديثة. اللحظة الديمقراطية آخذة في الاتساع، ولكن التعبير الروائي عنها لا يزال على محدوديته، أو ربما لا يمتلك الروائيون الرغبة، أو القدرة أصلاً على التقاط مهبّاتها، فهم يتعاملون مع مضائق الواقع حتى هذه اللحظة، ويبالغون في مداهنة السلطة واستعطافها، رغم أن الواقع فيه من الذوات النضالية الفاعلة، التي تتكئ على تاريخ من الإنجازات والبطولات، ما يكفي لأن تكون مرجعيات ملهمة للروائيين، وتمتلك من الرصيد والخبرة ما يؤهلها للحضور في الروايات كنماذج نضالية، إذ ليس من المنطق أن تنتهي أغلب الروايات بتوبة المناضل عن فكرة النضال، عوضاً عن ترميم أخطاء التجربة، باستثناء نماذج قليلة جداً نجحت في تجسيد معنى البطولة الجماعية ومفهوم المجايلة النضالية. وكأن معظم الروائيين لا يحبون أبطالهم، حيث يبدون بعض التعاطف معهم. أو الشفقة عليهم، ولكنهم لا يتبنون أحلامهم، وبالتالي يتنازلون عن رسم الظلال الإنسانية لشخصياتهم، وتوطينهم في النص كشخصيات قابلة للالتصاق بالذاكرة، وتوسيع معيارية الفعل النضالي. الرواية السياسية تنتمي بالضرورة إلى نسق الكتابة السياسية، المبنية على أطروحة تعتمد بلاغة المحاججة والإقناع، أو تقديم رؤية عمادها الإغراء بأهمية القيم، والمبالغة في إمكانية تغيير العالم، انطلاقاً من الواقع، مع مراعاة أنها يمكن أن تزدهر من خلال ارتباطها بتاريخ سياسي وطني مليء بالصراعات الأيدلوجية. ومن هنا تأتي أهمية فحص الرواية السياسية وهي تعيش صيرورة تشكّلها، فأهميتها تنبع من حيث كونها تضطلع اليوم بمهمة تأريخ الفعل الوطني، وتأسيس مروية شعبية موازية، وليست بالضرورة داحضة للمروية الرسمية، أي تشكيل ذاكرة أو معجم يضم المناضلين بأسمائهم ومختلف توجهاتهم، الذين يشكلون رافداً للنضال من أجل مجتمع متقدم تسوده القيم والحقوق. ولا شك أن بإمكان الرواية السياسية في السعودية، بل ان مهمة من مهماتها، هي إثارة الجدل، والتصدي لما تبعثر من التجربة النضالية من جميع جوانبها لتقدم صورة مرآوية لمختلف التوجهات، داخل حاضن ديمقراطي، هو بمثابة المقترح الممكن للتعايش، في ظل انعدام ذلك الأفق الحواري على أرض الواقع. ولكن المثير للحيرة هو عزلتها المزمنة داخل السياق الثقافي والحقوقي، وانتفاء كونها محل المتخاصمين سياسياً، فالمتوالية الروائية السياسية الحاضرة في المشهد، لم تتعرض للمساءلة سواء داخل النص أو خارجه من قبل أطراف معنيين بمفاهيم وإشكالات المرحلة التي تم التطرق لها، وهو تمنّع يؤجل استواء المروية السياسية، ويعمّق حالة الصمت، رغم ما يعلنه معظم الروائيين عن ضرورة قراءة التجربة، وما يحاولون تمريره من أفكار حول أولوية الكتابة في هذه المرحلة. المهمة تبدو شاقة بالنسبة للروائي وهو يحاول استلال الحكايات المتيبّسة على الشفاه منذ زمن نتيجة الخوف والإحباط واليأس، أو عندما يجهد لاستفزاز الذاكرات المطمورة بالنسيان، كما يستثير الضمائر المتمّنعة عن الحضور والترافع عن جدوى النضال، وفي ظل موجة نكوص معولمة، لذلك يُلاحظ أن أغلب الروايات غير مدّعمة بالوثائق، وغير معزّزة بالمعلومات الدقيقة، حول الحوادث والأسماء والتواريخ، بل أنها تنأى عن التسجيلية تغليباً للكلام العمومي، حيث تتفشى الأفكار الفضفاضة، على حساب الوقائع ، وهو أمر يمكن تفهّم مبرراته مرحلياً، عند الروائيين الذين يعتمدون تذهين الرواية، نتيجة انعدام التجربة وانتفاء الممارسة، ولكن ليس من المقبول أن تستحوذ تلك النزعة التمويهية التعميمية عند روائيي التجربة والخبرة، أي أولئك الذين عاشوا بالفعل مرحلة النضال وأسسوا لأبجدياتها المادية والمعنوية. الرواية السياسية الناقدة لمفاعيل السلطة تدفع بالأدب الروائي إلى مكان الصدارة، كما تحرّر طاقته الإبداعية على المستوى الفني والموضوعي. وعليه، ينبغى ألاّ تجنح الرواية السياسية في السعودية لمراجعة المرحلة الآفلة بعين واحدة، وأن تتجاوز مرحلة سرد الوقائع بنصف لسان، بمعنى ألاّ يكتفي الروائيون بإدانة القهر، واستهجان قمع الحريات بعبارات وصفية رخوة تموت بمجرد الانتهاء من قراءة الرواية. وبالتأكيد ليس مطلوباً منهم تبييض تاريخ أبطالهم، أو التغاضي عن أخطائهم الأخلاقية، ولا تبرير ممارساتهم الحزبية، بقدر ما يُفترض الاشتغال على رواية مهمتها سرد الحقائق، واستحضار الوقائع كما حدثت، مع إبداء موقف جدلي إزاء ما حدث، لأن هذا هو الكفيل بجعل الرواية في السعودية ركيزة من ركائز التغيير بمعناه الشامل. معظم المناضلين في الرواية السياسية في السعودية لا يلهجون بمعاني الحرية ورحاباتها، بقدر يراودون أنفسهم دائماً بالاستقالة الطوعية عن النضال، والتوبة عن الجهاد. وهؤلاء الأبطال المحكوم عليهم بالانجراح بدون أن يُصابوا بشظايا المواجهة، هم في الغالب بدون سمات ثورية أو قتالية، مقابل امتلاء عقولهم بالأفكار والأيدلوجيا التي تفوق مستوى أعمارهم ومهماتهم الحزبية. إذ لا يجرؤ أحد منهم على التفكير بالهرب من السجن، ولو من منطلق التمنّي والتوق إلى الحرية، وهو تمنّع يخصي الخيال الروائي. ولا أحد منهم يتكلم عن تجربة النضال من المناطق الآمنة في المنفى، وهو امتناع يعني تأجيل سرد الحقيقة. ومن ينجو من قدر الاستتابة الحتمي، لا يحدّث نفسه إلا بابتكار طريقة نكوصية للتواؤم مع فكرة كونه مناضلاً أو سجيناً سابقاً، وتأهيل نفسه للتكيّف مع المتغيرات والكف عن الأحلام. وهي مفارقات مربكة، تقتضي البحث في سر اقتراب أغلب الروائيين إلى هذا الحد من التطابق مع المروية الرسمية، لإعادة مواضعة تجربة كتابة الرواية السياسية. تلك الكتابة المغلوطة الناقصة، التي تحمّل المتلقي وزر اعوجاجها، ينبغي تعديل مساراتها، وذلك برصد التجربة النضالية من جميع جوانبها، وسرد الوقائع من خلال رواية سياسية واعية، ومؤثرة بالضرورة في الحياة الفكرية والاجتماعية، يتم بموجبها توثيق ارتباط الكتابة الروائية بالتاريخ السياسي، كما يتم الإفصاح من خلالها عن حقيقة أن المناضل ليس مجرد دليل على رومانسية الزمن الماضي وخيباته، كما تحاول أغلب الروايات تقديمه بهذه الصورة، توليداً للحسرات، وتبريراً للراهن، بل هو فعل وجود يختصر إحساس المجموع بالمكان، ويعكس بالضرورة وعي الكاتب بالفعل الروائي كفن ومضمون، فمجرد وجود مفردة تشير إلى النضال السياسي في بنية السرد، ينبثق الإحساس العبقري بوجود كائن ملهم، يمكن أن يؤدي دوراً جمالياً استثنائياً، داخل الحدث الإنساني، بكل تجلياته السياسية والاجتماعية والثقافية.