Francois Furet. La Revolution en Debat. الثورة قيد مساءلة. Gallimard, Paris. 1999. 196 Pages. قد يكون فرانسوا فوريه أعظم مؤرخ أنجبته فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين بعد فرنان بروديل. اذ كما يصدق الوصف على فرنان بروديل بأنه كان مؤرخ البحر الأبيض المتوسط وفيلسوفه معاً، كذلك يمكن القول عن فرانسوا فوريه، الراحل قبل اشهر معدودة، بأنه مؤرخ الثورات وفيلسوفها معاً. فقد أرخ لثورة 1789 الفرنسية، ولثورات 1830 و1848، وأخيراً للثورة الروسية البلشفية في عمل موسوعي حمل هذا العنوان الدال: "ماضي وهم". ولئن جعل فرانسوا فوريه من التأريخ للثورة اختصاصه الأول والأوحد، فما ذلك إلا لأنه يكنّ لها حباً كبيراً. فهو يصدر في موقفه من الثورة عن ازدواجية وجدانية عميقة: فهو محب لها بقدر ما تؤسس لتراث، ومُبغض لها بقدر ما تقطع مع التراث. من هنا تمييزه الجذري بين ثورتين، في الثورة الفرنسية: ثورة 1789 وثورة 1793. فعنده أن ثورة 1789 كان ينبغي ان تتوقف حيث بدأت: فقد أعطت إشارة البدء للحداثة السياسية بقدر ما قطعت مع الحكم الإلهي المطلق وأرست الأسس للديموقراطية وحقوق الانسان. ولكن على وجه التحديد لأنها لم تتوقف ولم تعرف كيف تنهي نفسها، فقد تطورات - أو "انحطت" بتعبير فرانسوا فوريه - الى ثورة 1793 التي قادها اليعاقبة وانتهت بزعامة روبسبيير الى الإرهاب والاستبداد وتطبيق "سياسة المقصلة" على قادتها وأنصارها بالذات، حتى صارت مضرب مثل للثورة التي تلتهم أبناءها. من هنا المقارنة الممتعة التي يعقدها فرانسوا فوريه بين الثورة الفرنسية والثورتين الانكليزية والاميركية. فالثورة الانكليزية بدأت هي الأخرى بالقطع مع الحكم المطلق، ووجدت روبسبييرها الأول في شخص كرومويل الذي قطع رأس تشارلز الأول عام 1649 وأعلن الجمهورية الكومنولث. ولكن الثورة الانكليزية لم تقع أسيرة التطرف اليعقوبي وعرفت كيف تغلق القوس الذي فتحته وتعيد إرساء النظام الملكي في 1688، بعد تجريده من طابعه المطلق وإلزامه بأن يكون دستورياً وبرلمانياً. وتلك هي تجلية الثورة الانكليزية: فهي "لم تمسح الطاولة" ولم تؤسس سيادة جديدة مطلق الجدة، بل استبدلت سلالة بأخرى، واكتفت بإرساء قاعدة أو منظومة من القواعد للحكم لا يفتأ ملوك انكلترا وملكاتها يلتزمون بها منذ أكثر من ثلاثة قرون. وتلك هي ايضاً سمة الثورة الاميركية لعام 1776. فالثوار الاميركيون الذين تمردوا على التاج البريطاني كانوا انكليزاً بأصولهم وبلغتهم وبديانتهم وبعقليتهم. ومن ثم فإن تمردهم لم يأخذ شكل قطع مع التراث، بل على العكس شكل إحياء. فهم ولدوا أحراراً، وكذلك يجب ان يبقوا. وما كانت بهم حاجة الى ان "يثوروا" لكي "يصيروا" أحراراً. وبدلاً من قطيعة ثورية في وضعهم فقد اكتفوا بقطيعة ثورية في المكان: فهجرتهم الى الأرض الجديدة قامت لهم بذاتها مقام الثورة، ومن ثم، وكما قال ألكسي دي توكفيل، المؤرخ الكبير ل"الديموقراطية في اميركا"، فقد توصلوا الى الديموقراطية من دون ان يضطروا الى تحمل تكاليف ثورة ديموقراطية. فإرادتهم تطابقت مع واقع تاريخهم، ومجتمع الأفراد الأحرار والمتساوين الذي أقاموه في أرض هجرتهم لم يتطلب منهم الاطاحة بأي سلالة مالكة وبأي طبقة ارستقراطية سائدة. وباستثناء معركتهم في سبيل الاستقلال عن التاج البريطاني، فإنهم لم يخوضوا كفاحاً ضد أي "نظام قديم". فالنظام القديم بالنسبة اليهم هو ذاك الدي فارقوه في هجرتهم من العالم القديم الى العالم الجديد. ثوار 1789 الفرنسيون خاضوا على العكس معاركهم على جبهة "النظام القديم" الذي رأوا فيه شراً مطلقاً يتحتم عليهم اجتثاثه من جذوره ليشيدوا مكانه نظاماً جديداً مطلق الجدة، وليؤسسوا أنفسهم في أمة جديدة بمقتضى عقد اجتماعي جديد. ومن هنا ميل الثورة الفرنسية الى التجريد النظري والى المزايدة في حقل فلسفة الديموقراطية وحقوق الانسان، وهو ما استوجب إصدار "إعلان حقوق الانسان والمواطن" من الأيام الأولى للثورة، وتحديداً في 26 آب أغسطس 1789، لأن وضع الفرنسيين، على عكس وضع المهاجرين الأميركيين، كان أبعد ما يكون عن هذا المثل الأعلى. ودوماً على سبيل المقارنة مع الثورة الاميركية التي ما كانت بحاجة الى أكثر من تكريس حاضر المهاجرين وواقعهم المباشر في العالم الجديد، فإن الثورة الفرنسية جعلت كل رهانها على المستقبل من خلال نسف الجسور مع الماضي المعمّد باسم "النظام القديم". وهذا ما قادها الى نوع من عدمية تراثية، كما الى حرب أهلية بين أنصار الثورة وأعداء النظام القديم وبين أنصار النظام القديم وأعداء الثورة. ومن هنا الطلاق بين النظرية الديموقراطية للثورة الفرنسية وممارستها الارهابية. ومن هنا ايضاً الانحطاط الجذري لثورة 1789 الجيروندية المعتدلة الى ثورة 1793 اليعقوبية المتطرفة. فالتطرف اليعقوبي هو مرض الطفولة اليساري لكل ثورة لا تعرف كيف تنهي نفسها، ولكل ثورة تريد دوماً ان تبدأ من جديد من نقطة الصفر. فالإرهاب هو نتيجة حتمية ل"الثورة الدائمة". ذلك ان العنف الثوري، المعني فقط باختراع المستقبل، لا يجد حاجة الى تقييد نفسه بأي قانون وبأي اعتبار اخلاقي أو انساني وبأي وضعية قائمة. ولأنه يعمل باسم المستقبل المحض وفي سماء من التجريد فإنه يستطيع ان يكون قاسياً منتهى القسوة. ومن هنا سهولة ارتداده من أعداء السلاح الى رفاق السلاح. فالثورة، في صيغتها اليعقوبية، أشد ما تكون قسوة مع أصدقائها. وأقصر طريق الى المقصلة هو ذاك الذي يرشح لأن يسلكه رفاق الأمس. وذلك هو على كل حال قانون المقصلة في كل ثورة "ثورية"، أي في كل ثورة لا تكتفي بأن تكون مجرد فاصل في التاريخ، وتصر على عدم اغلاق المزدوجين اللذين تفتحهما في مجراه. هذه الثورة الفرنسية الثانية، التي شاءت نفسها لا متناهية، هي التي استمرت في الثورة الروسية. فثورة 1917 نسخة من ثورة 1793، ولينين هو الوريث الفعلي لروبسبيير. وكل ما هنالك ان رمزية طبقية جديدة قد حلت محل الرمزية الطبقية القديمة. فالبروليتاريا البلشفية هي التي اخذت على عاتقها متابعة الرسالة الثورية للبورجوازية اليعقوبية. وهنا كما هناك انتهى الأمر بالثورة الى الدوران على محور فارغ من العنف والارهاب والاستبداد. ولئن لعنت الثورة البلشفية الماضي كما لعنته الثورة اليعقوبية، ولئن مارست طغيانها على المجتمع والتاريخ كما مارسه يعاقبة 1793 باسم المستقبل، فقد أضافت الى هذا وذاك تزوير الحاضر تحت يافطة الاشتراكية. والحال ان سقوط ثورة اكتوبر الاشتراكية، أو اليعقوبية الجديدة بتعبير أدق، قد جاء ليرد الاعتبار الى الثورة الفرنسية الأولى، ثورة 1789 التي أمكن لها ان تدرك، منذ ذلك الوقت المبكر - قبل قرنين ونيف - ان قوام الحداثة السياسية: الديموقراطية والرأسمالية معاً.