منذ انهيار النظم الاشتراكية والميل لتبخيس مفهوم الثورة يتصاعد، وطغت نزعة «مسيحية» هائلة الشحنة فيما يخص تعميم أساليب قيل أنها معاكسة للثورة، من مثل الديموقراطية والنضال السلمي، والحوار والتعايش و..ألخ. وتعممت الفكرة حول أن «التغيير الثوري»، والعنف، والقوة، لا تفضي سوى إلى الكوارث. وبالتالي ليس من خيارات سوى عبر الحوار والتداول السلمي والوسائل الديموقراطية. وكان يجرى التلميح إلى أن التطور العالمي هو الذي يفرض هذا التطور «الإنساني». صديقنا ماجد كيالي يعود إلى هذه المسألة بعد أن تلاشى الحديث فيها في مقالة جديدة عنوانها «مفهوم الثورة من كارل ماركس إلى بيل غيتس» (جريدة الحياة 15/2/2010)، وهو ينطلق من رفض مفهوم الثورة بالمعنى الذي مورست فيه في الثورات الفرنسية والبلشفية والصينية وثورات التحرر الوطني من الأساس، مشيراً إلى أثرها السلبي في كل الأماكن التي حصلت فيها، بما فيها الثورة الفرنسية. هذه المسألة التي «عمقها» في رده على الصديق سامي حسن (الحياة 24/2/2010) الذي كان قد تناول مقالته تلك (الحياة21/2). ما بدا لي من مقالة الصديق ماجد ومن رده على الصديق سامي حسن أن مفهوم الثورة ذاته ملتبس، لهذا يختلط البحث ويغمض، ليظهر بأن ما يود قوله هو «أن عصر الثورات، ..، انتهى». وبالتالي فإن مفهوم الثورة «بات في حاجة إلى مراجعة، كما بات في حاجة إلى إعادة تعريف». وهنا تأتي مقارنة ماركس (الداعي إلى الثورة) ببيل غيتس (صاحب مايكروسوفت)، «بمعنى أيهما أثر وغيّر في شكل أكبر وأعمق». حيث سيبدو الخلط واضحاً بين التطور التقني وأثره في المجتمع بالثورة التي هي نتاج التناقضات التي تخترق المجتمعات، والتي تنعكس على تحقيق التطور المجتمعي. وهو الخلط الذي يتوسع حين وضع «الابتكارات والاختراعات والاكتشافات، التكنولوجية والعلمية» و«التطورات والثورات السياسية» التي تنظم المجتمع والحكم والسياسة وفق الأسس المدنية الحديثة، في مصاف الثورة «بمعنى الكلمة». فالخلط هنا هو بين التعبير المجازي لكلمة ثورة ومعناها الواقعي كونها فعلاً سياسياً يعبر عن التناقضات الطبقية. حيث أن اكتشاف الصناعة هو الذي أسس لنشوء الثورات السياسية التي عبرت عن الميل لسيطرة طبقة جديدة بدل القديمة. وبالتالي فإن التطور التكنولوجي والابتكارات العلمية هي تطورات في الاقتصاد تنعكس في الوعي، وتؤسس في فترات معينة للثورات السياسية. وهنا الثورات يمكن أن تكون عنيفة أو غير عنيفة، لأن المسألة تتعلق بطبيعة الصراع الطبقي وليس برغبات الأفراد. والمشكلة أن ماجد في خلطه هذا يدلف إلى رفض الثورات السياسية لمصلحة «الثورات العلمية»، حيث «حفرت التطورات العلمية والتكنولوجية ثورتها بالطريقة السلمية: الهادئة، الناعمة، التدرجية، آخذة الأكثريات معها من دون بيانات أو بلاغات ثورية، ومن دون مبالاة بأطياف الثورات الأيديولوجية والسياسية الصاخبة». وهو بالتالي ينحو نحو التطور الطبيعي الذي ينعكس ميكانيكياً في التحولات السياسية. ولذلك سيكون نمط الثورات الفرنسية والبلشفية والصينية والفيتنامية وثورات التحرر الوطني قد انتهى، وانفتح أفق ثورات بيل غيتس والطرق السلمية، حيث أن «التطورات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وانفتاح مسار التطور والتداول السياسي بالوسائل الديموقراطية» فرضت ذلك. لهذا يمكن تلخيص موقفه في: الثورات في العلوم والتطور السلمي في السياسة. ويرى بأن «الثورات التي تحققت بهدوء في شكل تدريجي كانت أكثر تأثيراً وديمومة من الثورات أو الانقلابات السريعة والعنيفة». وربما كان «هروبه» من مفهوم الثورات هو الذي جعله يتجاهل كلية التاريخ. أو أن خلطه لمفهوم الثورة هو الذي أوقعه في هذا المطب. لأن كل التطور الرأسمالي الحديث تحقق عبر الثورات: من ثورة كرومويل في القرن السابع عشر في انكلترا، إلى الثورة الأميركية والثورة الفرنسية. أو العنف البسماركي. هذا قبل الثورة البلشفية والصينية. وإذا كان ينطلق من «الفشل» في الثورة الفرنسية والبلشفية، فإنه يتجاهل أن هاتين الثورتين فتحتا باباً واسعاً للتطور الصناعي والعلمي والمدني. وهو هنا يخلط بين اللحظة التي تحدث فيها الثورة (1789 في فرنسا، و1917 في روسيا) وبين المسار الذي اتخذه التطور بعدئذ، ومن ثم بين النتيجة التي وصلت إليها. وما يمكن أن أقوله هنا في شكل سريع هو أن الثورات البلشفية والصينية هي التي فتحت أفق التطور الذي جعل روسيا دولة مدنية حديثة (متفوقة كثيراً على الهند التي يقارن ماجد بها)، وكذلك الصين، بغض النظر عن «فشل الاشتراكية». فقد نجحت في نقل هذه المجتمعات إلى مرحلة الحداثة بكل معانيها. طبعاً لم يكن أي خيار سلمي، هادئ وتدرجي، يسمح بذلك، لا عبر تصور بليخانوف الذي فشل في كل الأمم التي أتبعت فيه الحركة الشيوعية هذا المسار عبر «الماركسية السوفيتية»، والتي كانت تردد كلاماً مقارباً لما يقول ماجد، ولا عبر أي تصور رأسمالي. فمصر استمرت قرناً كاملاً بعد تجربة محمد علي دون أن تتجاوز طابعها الاقطاعي القروسطي مثلاً. والهند بنت مجدها الصناعي بالتعاون مع الاتحاد السوفيتي قبل أن تثمره في «عصر العولمة»، على رغم أن الشعب الهندي لا زال يعيش في القرون الوسطى (عكس روسيا التي كانت لحظة ثورة أكتوبر تعيش القرون الوسطى). وماجد في كل ما يشير إليه لا يستطيع تجاوز عملية الخلط في الأفكار والمفاهيم. فهو يتناول مسألة العلاقة بين العلم والأيديولوجية، حيث ينطلق من «أن العلوم والتكنولوجيا هي التي حفرت أثرها، عميقاً، في تاريخ البشرية أكثر من المعتقدات والإيديولوجيات»، و «أن كل هذه الثورات والإيديولوجيات لم تؤثر (بمعنى الديمومة والاستمرارية والقدرة على الفعل والتطوير) في تاريخ البشرية، وفي شكل وجودها، مثلما فعلت الاكتشافات والابتكارات العلمية»، ليصل إلى «أن الأفكار، وليس الإيديولوجيات، هي التي تقود عمليات التطور والتغيير في كل مرحلة». ليبدو أن معنى الأفكار هنا هو العلوم، وأن الإيديولوجية هي بنى مغلقة وليست نتاج الواقع من جهة، وليست أفكاراً من جهة أخرى. فالأفكار بالمعنى المجتمعي هي إيديولوجية، وهنا يمكن أن نتلمس طبيعة كل إيديولوجية وموقعها في الصراع الواقعي. إن الأفكار/ الإيديولوجية هي نتاج الوجود الواقعي، وهي التعبير عن الرؤية المجتمعية التي تتوافق مع وضع قائم أو مع ميل لتغييره. إذ أن التغيير هذا يكون ضرورة في لحظة من أجل تطوير العلوم والتكنولوجيا في المجتمع. هناك قضايا عديدة يمكن تناولها في نص ماجد، لكن يمكن القول بأن أساسه هو المراهنة على التطور السلمي التدرجي الهادئ في عالم ينزع إلى الحرب وتفجر التناقضات، لأنه يقوم على النهب والاستغلال والقهر. * كاتب سوري.