قبل ايام قليلة، وفيما كنت ابحث في اوراق قديمة تركتها في بيروت، وقعت على 35 مقابلة شخصية سبق ان اجريتها في 1984. هذه المقابلات المتفاوتة حجماً، مع سياسيين وصحافيين، مهنيين وناشطين، لعبوا في هذه الفترة او تلك، دوراً عاماً ما، كان غرضها ان تخدم كتاباً عن الاحزاب اليسارية والمسلمة، لم استطع ان استكمل مقابلاته، ولا ان انجز قراءة مادته المكتبية والأرشيفية. ولهذا فالكتاب، في النهاية، لم يُكتب. مع ذلك فالمادة الغنية التي وردت على ألسنة من قابلتهم تستحق النشر، لا سيما لما تحمله من معرفة اولية تطول تاريخ البنى والتشكيلات اللبنانية القديم منها والحديث. وجدير بالذكر أن تعريف شخص ما او جماعة ما بالطائفة، لم يكن دائماً تبرّعاً من المتحدث، بل جاء غالباً جواباً عن سؤال مني. أما كلمة "الآن" فتردّ الى أواسط الثمانينات، والقياسات الزمنية تتم دائماً على ضوء هذا التاريخ. المقابلات التي سبق نشرها أجريت مع: نهاد حشيشو ومحمد مشموشي وباسم السبع ويوسف الأشقر ومصطفى بيضون ونجلا حمادة ومسعود ضاهر وعبدالله الأمين ونقولا طعمة: حبيب صادق: مرجعيون - حاصبيا انا ابن شيخ، بيته اهم بيوت عائلته الصغيرة في قرية الخيام التي يشكّل آل العبدالله أكثريتها وبكواتها. والمنطقة التي منها الخيام، تتصف بوجود العديد من انظمة القرابة بسبب الجيرة مع فلسطين الشمالية، اي ان العائلات الصغرى توجد الى جانب عشائر آل العبدالله والفاعور والتامر. خصوصية مرجعيون - حاصبيا انها القاعدة الاساسية للاقطاع الاسعدي. الجنوب لُزّم لآل الاسعد منذ الاستقلال. في انتخابات 1972 حصل تزوير متعدد الاوجه. سليمان فرنجية اراد لكامل الاسعد ان لا يحقق انتصارات كبيرة جدا على مستوى الجنوب، لكنه اراد ان لا تُمَس قوته في مرجعيون - حاصبيا. هكذا فاز بلائحتيه في هذه الدائرة وفي بنت جبيل، بينما اعطيت العائلات الاخرى بعض التمثيل في باقي الدوائر. كمال جنبلاط كان مهتما بمعركة مرجعيون. تم الاتفاق في البداية، وعبر جنبلاط، على لائحة تضم السني و"التقدمي الاشتراكي" طارق شهاب، والشيعي اسعد الاسعد، وهو الامين العام المساعد للجامعة العربية، والارثوذكسي اسعد بيوض، وانا. لكن في الموعد المحدد لتقديم المبالغ للترشّح اختفى اسعد الاسعد، كما تلكأ جنبلاط في دعم طارق شهاب، وسمّى نورالدين نورالدين، القومي، بدلا من شهاب، على ان يسحب القوميون انعام رعد من الشوف. بحسب رواية اسعد الاسعد، استدعي الى القصر الجمهوري وقال له فرنجية بفجاجة وغضب: "عارف شو عمتعمل؟ انت تساهم في القضاء على احد اعرق البيوت اللبنانية. وبمن؟ بقوى شيوعية. هذا ممنوع ان يتم، فاما ان تستمر في الجامعة العربية او ان تخسر الاثنين". في النهاية، ورغم كل شيء، نال كامل 13289 صوتا وعلي العبدالله 12970 صوتا، ونلت انا 10358 صوتا. صائب سلام قال لاحقاً انني كنت فائزاً. لقد نلت ثلث الاصوات المسيحية في تلك الدائرة المتعددة الطوائف. وجود الشيوعيين والقوميين بين الارثوذكس ساعد على ذلك. في جديدة مرجعيون، وفيها كثرة ارثوذكسية ومطرانية للكاثوليك، نلت 785 صوتاً، بينما في القليعة وهي مارونية مئة في المئة، لم انل الا 38 صوتاً مقابل 602 للأسعد. في دير ميماس الارثوذكسية نلت 399 مقابل 464 للاسعد، وفي برج الملوك الخربة سابقاً وكلها ارثوذكس، نلت 124 مقابل 120 للاسعد، وفي راشيا الفخار وفيها اغلبية ارثوذكسية كبرى، نلت 342 ولم ينل الاسعد الا 215. ومرة اخرى ففي كوكبا، المارونية كلها، نلت 21 صوتا ونال الاسعد 247. دروز المنطقة اكثريتهم ارسلانيون، وبالتالي ايدوا الاسعد. جنبلاط كان تأثيره محدوداً، لكنه ذهب الى حاصبيا قبل الانتخابات بيوم والقى كلمة بأعيان الدروز طالبهم فيها بأن ينتخبوني. طارق شهاب لم يتأثر برئيس حزبه واعتبرني شيوعياً، كما اعتبر اني كنت وراء نقص حماسة حزبه لترشيحه. في القرى السنية، نلت في كفرشوبا التي ارتبط اسمها بالمقاومة، 233 صوتا والاسعد 376، لكن في مرج الزهور التي يكثر فيها العسكر، نلت 34 والاسعد 126. القرى السنية هي الاقل حماسةً للمعارك الانتخابية والاقل انجذابا لقضاياها ورموزها. شيعياً، المنطقة خالية تماما من "أمل". موسى الصدر لم يتوجه ابداً الى هناك. لقد حصل ارهاب وعسف وقمع قبل الانتخابات وخلالها، بما في ذلك منعي عسكرياً من زيارة بعض القرى. تم هذا خلال حملتي، في ظل وجود 16 آلية عسكرية. الضابط قال لي: "ينبغي ان تخرج من المنطقة حفاظاً على حياتك". كان ممنوعا وجود ممثل لي في 80 في المئة من اقلام الاقتراع. لي علاقات واسعة باهل المنطقة ولي خدمات اديتها من خلال عملي في وزارة الصحة. في هذه الوزارة لم امارس عملا وظيفيا بل كان عملي سياسيا واجتماعيا. لقد أُمّن حوالي 12 الى 15 منحة لابناء الخيام كي يدرسوا في بلدان الكتلة الاشتراكية، لم ينل منها شبان آل صادق الا اثنتين، واحدة منهما فقط عبري، والثانية عبر الحزب الشيوعي ولا علاقة لي بها. المعايير التي تُعتمد في المنح هي الوطنية والتفوق العلمي والفقر. وانا لا علاقة لي تنظيمية بالشيوعيين، كما اني لم العب لعبة التناقضات العائلية والتقليدية، فهي تترك حزازات بالغة السوء على الجو الخيامي وباقي القرى. في 1964 ساهمت في تأسيس "المجلس الثقافي للبنان الجنوبي"، وسط مناخ التشجيع الشهابي لتأسيس الأندية والمجالس الثقافية. كان بين المؤسسين عبدالرؤوف فضل الله، وهو موظف، وكامل العبدالله، واحمد سويد، وحسين مروّه، وجوزيف مغيزل، وزيد الزين، وحسين مكي، وحكمت الخطيب. صلة عبدالرؤوف فضل الله بالدولة كانت المقدمة، والرخصة صدرت في العام نفسه باسماء مغيزل، والصيداوي فؤاد الببو، واحمد مكي. بعد ذاك اجرينا عملية تحويل جذري للمجلس، فبدل ان يكون مؤسسة للسلطة اصبح مؤسسة تقدمية، خصوصاً أن معظم المثقفين الجنوبيين هم في اكثريتهم تقدميون. منذ 1967 سقط المجلس في ايدي التقدميين. والهيئة الادارية الحالية هي: حبيب صادق وجوزيف حرب وسمير فياض ورياض اسمر وانيسة الأمين وابراهيم بيضون ونهى حجازي وأسامة جابر وحسين يتيم واحمد سويد وفضل الأمين. والمجلس يمكنني تسميته يسارياً - ليبراليا. في 1975 المسلحون نهبوا مقرنا في رأس النبع، فأخذوا مكتبته ولوحاته الفنية ومخطوطاته وملفّاته. وبعد نهاية حرب السنتين التي شلّتنا، بدأت وثبة المجلس، وكل تركيزه الآن على اسرائيل. جوزيف سماحة: منظمة العمل الشيوعي في 1969 - 1970 بدأت أطّلع على كتابات ماركسية. كانت "دار الحقيقة" للنشر مركز استقطاب ل"حزب العمال الثوري العربي". كان يعمل فيها ياسين الحافظ ورياض رعد وآخرون. استهوتني طروحات الحزب وانخرطت في جوّه. الحزب ضم مثقفين اغلبهم من اصول بعثية، وكان محدود الانتشار جداً. لقد انتج افكاره في السجال مع الاطراف الماركسية الاخرى الاكثر جذرية، وأساس السجال كان ضد اليسار الجديد، كما أيّد "الحركة التصحيحية" في سورية عام 1970. هامشية دور "حزب العمال" في الحياة السياسية اللبنانية جعلتني ابتعد منه، وهو ما لا ازال نادماً عليه. اتجهت صوب "منظمة العمل الشيوعي". كان "الصراع الطبقي في مصر" لمحمود حسين من المواد التثقيفية للمنظمة في حينه. كان عداء المنظمة لمصر وعبدالناصر واضحاً. الانشقاق الذي ما لبث ان طرأ على المنظمة، اخرج مركز الثقل المتطرف منها، اي مجموعة "لبنان الاشتراكي" و"المثقفين". وبذهابهم ذهب العداء لمنطق التحالفات السياسية. وانطباعي ان الانشقاق كان تطهيراً طبقيا للتنظيم. لقد خرج من ليسوا من ابناء الشعب. هذا الانطباع ربما كان مغالياً الا ان المؤكد ان الغالبية الساحقة للمنشقين كانت من الطلاب. يومها كان تعجيل المنظمة في تنسيب خارجين من الحزب القومي السوري ممن انحازوا الى الماركسية، رداً على المنشقين، كما لو انها تقول: اننا لم ننته بل لا زلنا نستقطب. لم يعد هناك برنامج تثقيف نظري، وصارت المجلة، "الحرية"، بمقالاتها وترجماتها مادة التثقيف الرئيسية. اما الكتب فلا. المجلة كانت موضع تقاسم بيننا وبين الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين، والعاملون في الاعلام، من المنظمة، كانوا محسن ابراهيم ومسؤولي القطاعات: حكمت العيد ونصير الاسعد وفواز طرابلسي وسعد محيو ووليد نويهض وانا، وبعد حين جورج ناصيف. مع بداية الحرب بقي فواز وسعد ووليد وانا، وذهب الآخرون الى اهتمامات اخرى، فيما بات محسن منشغلا بالعمل السياسي. ويُلاحظ أن نسبة المسيحيين في الاعلام كانت اعلى من نسبتهم في المنظمة ككل، والشيء نفسه يصح في الحزب الشيوعي بقياس محرري جريدة "النداء" بباقي جسم الحزب. اما التفسير الاساس لذلك فضمور العمل اليساري، مع الحرب، في المناطق المسيحية. لهذا لم يُترك لهؤلاء اليساريين الا الكتابة، هذا فضلاً عن الخيار المهني الأصلي لبعضهم ممن درسوا الاعلام. الوجود المسيحي في الجسم التنظيمي للمنظمة كان يتراوح بين 5 و10 في المئة. لقد ورثت قيادة المنظمة حركةَ القوميين العرب، فكانت اكثرية اعضاء المكتب السياسي سنّةً، وكانت نسبة السنة في القيادة اعلى بكثير منها في التنظيم: نهلة الشهّال وعبدالفتاح سوق من طرابلس وحسين صلح من البقاع وكذلك محمود شوباصي، وفي بيروت عدنان حلواني، وفي صيدا عدنان زيباوي ورشيد الزعتري. الشيعيان القياديان كانا محسن وشقيقه محمد ابراهيم، بينما اكثر من نصف الجسم التنظيمي كان شيعيا. الشهال والزيباوي كانا مقبولين في وسطيهما الاهلي. جماعة المنظمة الصيداويون كانوا عموما مقبولين جدا في وسطهم. وبالمناسبة فان من كانوا قياديين قبل 1973 هم اساسا جماعة المناطق وليسوا المركزيين. لقد نشأ تنظيم في الشوف، في بيئة جنبلاطية تقليدياً، وكان معقولا وناميا. في عاليه والمتن ظل ضعيفا جدا، وفي الاقليم عبّرت المنظمة عن حضور سني ملحوظ. كذلك وُجدت المنظمة في القرى السنية في العرقوب. والحال ان بيئة المنظمة شابهت البيئة الناصرية التقليدية مع اضافات شيعية كبرى. كانت هناك عائلات تدخلها: دخول الفرد واخيه وابن عمه كان ظاهرة كثيفة نسبيا. كانت الاكثرية تنتسب لاسباب كفيلة بجعلها تنتسب الى المرابطون او اي تنظيم ناصري آخر. العنصر المقرر كان، في مرات كثيرة، النظام القرابي. عماليا، وُجد بعض الكوادر في عدد من المصانع، لكن الوجود هذا لم يصر جديا. اذا اخذنا سكرتاريا اللجنة المركزية عام 1978، مثلاً، نجد ان احدا منهم ليس عاملا. محسن ابراهيم، آنذاك في اواسط اربعيناته، شيعي المذهب من قرية انصار عمل مدرّساً وكان قياديا في حركة القوميين العرب، وفواز طرابلسي، كاثوليكي من مشغرة، ابن صاحب فندق وسبق له ان انتمى الى البعث، وحكمت العيد، محام درزي من عين زحلتا انتمى قبلا الى الحركة، ومحمد ابراهيم، مدرّس من انصار، وخالد غزال، موظف مدير مصلحة سني من البقاع الغربي كان ايضاً في الحركة، ورشيد الزعتري الذي كان، كذلك، في الحركة، مهندس صيداوي سني، وأنا العامل منذ سنوات قليلة في الصحافة. المنظمة، بعد 1973 والانشقاق، المّت بها ردة فعل على الثقافة والمثقفين. العمل العسكري ملأ الفراغ، فضلاً عن نشاطات سياسية وتحالفات جبهوية. من ابرز ما فعلناه قبيل الحرب أننا في 1974 أقمنا، نحن والحزب الشيوعي والكتلة الوطنية، مهرجاناً في الزلقا بمناسبة عيد الاستقلال. المشترك بين جميع هؤلاء كان العداء للكتائب ولسليمان فرنجية. المنظمة قدّمت الشيعة في حارة الغوارنة. بعيد الحرب فُصل التنظيم العسكري عن التنظيم، واقيمت له لوائح داخلية خاصة به. الحياة الداخلية للمنظمة بصفتها حزبا سياسيا غدت تقتصر على المجلة والسياسة المباشرة. نشأت محاولات عدة لوضع برامج تثقيف وكلها فشلت. محسن كان يبادر بالدعوات لكن احداً لم يكتب. مع هذا اظن ان المنظمة كانت، في عدّتها الثقافية، اقرب من الحزب الشيوعي الى فهم التجربة اللبنانية، وذاك تبعاً لحساسيتيها حيال القضيتين الطائفية والقومية. خلال 1973 - 1978 كان فواز طرابلسي الوجه الثقافي وكذلك تولى مسؤولية العلاقات الخارجية ما عدا المسائل الجدية جداً كالعلاقة بالمقاومة التي اصبحت، بالأحرى، موضوعا داخليا. اليمن كان الاهتمام به بينه وبين محسن. في 1973 كانت المنظمة تبدو كأنها برأسين: محسن، السياسي، وفواز، المثقف المساجل مع المنشقّين. مع ابتداء الحرب صار هناك قائد واحد. فمحسن امسى مصدر الأخبار تبعاً لعمله مع السياسيين، اي انه غدا مصدر الموقف، وهذا عنصر من عناصر القيادة. انه حامل السر ومصدر السلطة. ومحسن، الى ذلك، كان دينامو الحركة الوطنية، وهو الشيوعي اللاشيوعي بسبب دوره كفرد لا يقتصر على التنظيم. حسان حيدر: شيعة جبيل هناك 31 قرية شيعية في قضاء جبيل اكبرها علمات التي ربما كانت، باستثناء قرطبا، اكبر قرى القضاء كله. وقرى الشيعة هناك متناثرة تتخللها قرى مسيحية، وثمة قرى مختلطة شيعية ومسيحية. القرى موزّعة من الجبل الى الساحل وهي، باستثناء قرية لاسا، لا تتصل بالبقاع الشيعي. ولاسا ثاني قرى جبيل الشيعية حجماً ومنها آل المقداد ذوو الامتداد في البقاع. الانقسام بين دستوريين وكتلويين شمل الشيعة الذين كانوا دستوريين، وهم الذين انجحوا انطون سعيد ضد ريمون اده في 1964، فيما كان علي الحسيني مرشحهم. وبعد نشأة "الحلف الثلاثي" في 1968 تزايد خوفهم من اده، لكن في انتخابات 1972 طرأ تحول اثر وفاة شهيد الخوري وعجز نهاد سعيد عن استقطابهم. اما اده فقوي وطوّر مواقف ايجابية من الشيعة فاهتم بمشاكلهم وقام بزيارات متكررة لهم كما زوّدهم بالخدمات. ولأن نفوذ الدستوريين وقدرتهم على تقديم الخدمات باتا منكمشين، فان اكثريتهم صوّتت لاده، وكان المحامي محمد حيدر احمد من الوجوه الشيعية التي وقفت تقليديا معه. ليس هناك بين شيعة جبيل يسار بالمعنى البيروتي. القرى، عموماً، متخلفة ثقافياً. كان هناك، الى حد ما، يسار بين موارنة جبيل. الشيعة ظلوا اكثر انشدادا الى الانقسام الدستوري - الكتلوي. النفوذ الحزبي النسبي الوحيد كان للبعث العراقي لأن قيادته في جبيل كانت في عهدة اطباء موارنة قدموا خدمات طبية وغيرها، كما ربطتهم علاقات بالقرى الشيعية. هؤلاء الأطباء، وكان ابرزهم رياض خليفة، حاولوا تسييس تلك العلاقات. في 1975 ظهرت بدايات تسليح خفيف في اوساط مؤيدي السيد موسى الصدر، وتحديدا ضمن عائلتي الحسيني وعوّاد. الاخيرة عائلة دينية فيها مشايخ كثيرون منهم الشيخ حسن الذي اصبح من قيادات "أمل". والعائلة، بالأصل، من علمات. التسلح زاد بعد دخول الردع في 1976، وقد ظهر يومها البعث السوري وكان ابرز وجوهه المحامي نمر حيدر احمد، عضو القيادة القطرية. اما الهدف المباشر فكان منافسة البعث العراقي الذي كان يعطي منحاً كثيرة لدراسة الطب والهندسة في العراق والبلدان الاشتراكية. عائلة حيدر احمد في علمات وفي قرى اخرى، هي، اذا ما أُخذت ككل، اكبر عائلة في المنطقة، وكانت، في العادة، تقود الحركة السياسية لشيعة جبيل. وقد ايدوا تقليدياً احمد الحسيني ثم ابنه علي. اما بيت الكتائب في مدينة جبيل فبقي غرفة هزيلة تكاد تكون اثرية لأن احداً لا يدخلها. فجبيل اما دستورية او كتلوية. ومع المحامي غيث خوري، الدستوري المتحوّل الى الكتائب، بدأت الأمور تتغير. وبدوره نما البعث العراقي في بيئة دستورية، اما الحزب الشيوعي فلم ينم الا نسبياً. في 1975 مع الحرب، اعتقل الكتائبيون مجموعة شيوعية في علمات كانت تعمل تحت يافطة "اتحاد الشباب الديموقراطي" الطلابي. نموّ الشيوعيين حصل في وقت لاحق، وقوي الحزب في قرية جاج المارونية. والقوميون السوريون كان لهم، ذات مرة، نفوذ عظيم. انقلاب 1961 شارك فيه مسلحون من علمات وهوجمت علمات، فيما هرب كثيرون من اهلها الى جرود المنطقة قرب اهمج والعاقورة. لقد نما القوميون في آل حيدر احمد الدستوريين. وفي علمات تتنافس تقليدياً على البلدية والمخترة عائلتا حيدر احمد وعوّاد. الارجحية في علمات الشمالية للعائلة الاولى، وفي علمات الجنوبية للثانية. وقد كان للقرية مختار واحد ثم قسّموها فصار لها مختاران من العائلتين. وعائلة حيدر احمد ظهر فيها أمليون لكنهم لم يكونوا كُثراً. ويبدو ان العائلات الاخرى هي التي استقوت ب"أمل" على حيدر احمد وعددها الكبير التي فيها ايضاً نسبة متعلمين اكثر كما انها اغنى. ومصدر الثروة التقليدي في علمات وجوارها الزراعة، زراعة الملكيات المتوسطة، ولاحقا الهجرة الى الولاياتالمتحدة، فضلا عن الوظائف الرسمية. قبل الحرب كانت الدولة في نظر الاهالي شيئا مهما ومحترما وكان للوظيفة الحكومية هيبتها. لكن تاريخ علمات لم يخل من صدامات بالدولة وبجماعات اهلية اخرى. فأهلها قتلوا جدّ سليمان فرنجية حين كان ضابطاً في الجيش الفرنسي. وتقول القصة إن أحد الطفّار من آل خير الدين كان مطلوباً بسبب اعمال السلب والتشليح التي قام بها. فلما جاءت الدورية الى علمات وعلى رأسها الضابط المذكور، حدثت مواجهة افضت الى مصرعه. وفي مساء النهار نفسه حصل هجوم بالمشاعل والبنادق التي كانت ترافق الزغرتاويين ممن اتوا على الاحصنة بقصد احراق علمات. لكن لدى وصولهم الى طورزيا في طريقهم اليها، تجمّع مسيحيو القرى المجاورة وهدّأوا المهاجمين فيما كان العلماتيون يستعدون. وفي النهاية نشأ توازن قوى ادى بالمهاجمين لأن يتراجعوا. وهناك مشاكل دائمة بين علمات واهمج المجاورة لها والمنافِسة، مشاكلُ لا يغيب عنها السبب الطائفي المعلن او المضمر. ومع ان القرية كلها تتصدى لأهمج الا ان اسرة حيدر احمد هي التي تتصدّر المواجهة. واهمج باكثريتها تؤيد ريمون اده، مع انها غدت لاحقا قلعة للقوات اللبنانية. وبين السياسيين كان من اكثر مَن حظوا بحب شيعة جبيل فؤاد شهاب الذي التف حوله الدستوريون السابقون. لقد مثّل لهم الرئيس المتحالف مع عبدالناصر، وعبدالناصر كانت صوره في البيوت كلها. ومن ناحيته نجح المكتب الثاني في ان يبني له حضوراً مميزا في علمات، لا سيما بحجة مواجهة القوميين السوريين بعد انقلابهم. وزار الامام الصدر المنطقة واهتم بها، لكن قوة "امل" لم تعرف في اي من القرى القوة التي عرفتها في قرية لاسا، الملاصقة لشمسطار والتي تتاجر مع البقاع لا مع جبيل. يوسف الصميلي: البقاع/ جوزيف سكاف القرعون اكبر القرى السنية في البقاع الغربي ومنها عبدالقادر القادري، تتلوها جب جنين. القريتان فيهما اقليتان مسيحيتان تتراوح واحدتهما بين الربع والثلث. والقرية الثالثة عدداً غزة، ثم المرج. آل القادري عائلة موزّعة على عدة قرى بسبب قيامها على طريقة دينية، وبالتالي فليس بالضرورة ان تكون ثمة علاقة قرابية بين اطرافها. ناظم القادري من قرية البيرة في قضاء راشيا، وهي قرية متوسطة حجماً تأتي، بالترتيب، بعد القرى المذكورة. ومصدر زعامته انه ظهر كمحام ناشىء اثناء التنافس على صعيد محافظة البقاع بين جوزيف سكاف ورفعت قزعون. هكذا بدأ القادري، على الارجح في 1951، الى جانب سكاف. ومع انشاء الدائرة الصغرى ترشح القزعون، الذي كان قد خرج من السجن، عن دائرة البقاع الغربي، فيما ناظم كان لا يزال محسوبا على سكاف. قزعون من قب الياس، اكبر القرى السنية في قضاء زحلة. زعامة العائلة مستمدة من العلاقة بالسلطة العثمانية. وحسين قزعون، والد رفعت، كان الى جانب الياس طعمة سكاف، والد جوزيف، من اكبر الملاكين الزراعيين. لدى انشاء الدوائر الصغرى فصلت عن البقاع الغربي اكبر قريتين سنيتين فيه، وهما قب الياس ومجدل عنجر، وضمتا الى زحلة. انهما اكبر من القرعون. لكن حتى الآن لا يزال يقال في البقاع الغربي: "لائحة جوزيف سكاف"، لأن قوته كانت على صعيد المحافظة ككل. النائب السني الحالي عن زحلة، حسن زهمول الميس، من قرية مكسه، قرب قب الياس، وهي صغيرة. والميس طبيب اصطحبه سكاف على لائحته، وعائلة الميس جذورها في بر الياس التي هي من اكبر القرى السنية في قضاء زحلة، ولم تكن اصلا ضمن البقاع الغربي. والميس هي العائلة الاكبر في بر الياس. لكن السياسي السني الوحيد في المنطقة الذي حاول ان يتمايز ويستقل كزعامةٍ عن سكاف، هو ناظم القادري الذي استفاد في مشروعه هذا من دعم المكتب الثاني له في العهد الشهابي، ومن الخدمات التي كان يقدمها له. وقد قيل ان الاموات كانوا ينتخبونه! في 1970، وفي الانتخابات الرئاسية، كان ناظم القادري احد الذين غيّروا اتجاههم، فأيّد فرنجية تبعاً لوعد قيل انه قطعه لصائب سلام. وكانت للقادري نظريته الثابتة في السياسة، وهي: عدم العداء لسورية وعدم التماهي معها. اليسار والعروبيون والناصريون في المنطقة يؤيدون تقليدياً من يناهض سكاف. وعند المسيحيين الأرثوذكس لعب آل الفرزلي دوراً سياسيا ملحوظا. والفرزلي أصلهم من فرزل، ثم من القرعون. لكنهم توزّعوا بينها وبين جب جنين ذات الاكثرية السنية، والتي استقر فيها الجب الزعامي من الفرزليين. وكان اول من برز بينهم المحامي اديب، وكان خصمه التقليدي ميشال سكاف، شقيق جوزيف الذي ترشح كأرثوذكسي برغم كاثوليكيته. في البداية حين كانت المحافظة دائرة واحدة، نزل اديب على لائحة جوزيف سكاف، لكن مع تفريع المحافظة، وحين راح جوزيف يرشّح أخاه عن البقاع الغربي، اختلف الأمر. بعد ميشال سكاف صار آل دحروج ينافسون الفرزلي التي انتسب كثيرون من شبانها الى البعث بشتى الوانه. أسعد فواز: الجنوب الأسعد هو الاقطاع في الجنوب اولاً وآخراً. مقرهم الرئيسي قلعة تبنين، مقر ناصيف النصّار. الى جانبهم كانت الزعامة الدينية، لا السياسية، لعائلة الأمين. ولاحقاً برز في الادب والثقافة الدينية آل فضل الله. في اواخر العهد التركي ظهرت عائلات سياسية جديدة: عسيران والزين والخليل. الفرنسيون لعبوا على تناقضات العائلات الى أن ضربوا نفوذ آل الأسعد نهائيا في الثلاثينات. وهم نشّطوا، في مواجهتهم، يوسف الزين الذي كان نافذاً جداً. بيشكوف ضرب الزين وهيّأ آل الخليل للحلول محله. يوسف الزين اصيب بكارثة مالية: باع اثاث بيته فاشتراه دير المخلّص ثم اعاده اليه. بعد ابراز الخليل، بدأ انعاش احمد الاسعد: الاسعد مرة اخرى. في تلك الفترة برز عادل عسيران كشاب وطني يهاجم الفرنسيين، ومعه سار شبان آخرون كعلي بزي وموسى الزين شرارة وسعيد فواز. هؤلاء كانوا يتصلون، في بيروت، برياض الصلح. الفرنسيون نفوا عادل عسيران. لقد قام ضد عمّه نجيب وضد باقي الملاكين من اقاربه المتعاونين مع الفرنسيين. وفي الاتجاه الوطني نفسه كانت تعمل مجلة "العرفان" لصاحبها الشيخ احمد عارف الزين. بعد انعاش احمد الاسعد التف بعض الناس حوله نظرا لحنينهم الى آل الاسعد. اما عادل عسيران فيبقى مؤسس الحركة الوطنية الفعلي بين الشيعة. عائلته اصلها ايراني: والده كان قنصل ايران في صيدا. علي بزي بدأ بداية ممتازة وطالب بالوحدة السورية وتصدى للفرنسيين واعتقل، لكنه ضاع في الحزبيات المحلية. كان على صلة بحزب النداء القومي. رشيد بيضون توجه الى المغتربات واوجد الكلية العاملية، وكان شخصاً نزيهاً. لقد اسس موقعاً للطائفة الشيعية في بيروت. السيد موسى الصدر أصل عائلته من قرية شحور في صور، تخرج من طهران بالادب. كان يقول في البداية انه ممنوع من دخول ايران، لكنه كان يكثر التردد على قم قائلاً انه يزور أمه. بعض ابرز المراجع الدينية عند الشيعة اللبنانيين عارضوا الصدر. قيل، مثلا، ان اطلاق لقب "إمام" فيه مغالاة. وقيلت اشياء اخرى رددها رجال دين كالسادة والمشايخ هاشم معروف ومحمد جواد مغنية وعبدالله نعمة ومحمد حسين فضل الله. حزب البعث في الجنوب معلمو مدارس. اما الشيوعيون فبدأوا بدايتهم الملحوظة، في عيترون في الستينات. عيترون، من قضاء بنت جبيل، عائلاتها فلاحية وثلثا سكانها كانوا يؤيدون كامل الاسعد حتى العهد الشهابي. عائلة برّي في تبنين صغيرة، وكلها مشايخ. والد نبيه كان، عن طريق الهجرة الى افريقيا، اغنى ابناء تبنين، ونبيه درس في مدرسة الحكمة. كان طموحه ان يترشح ضد آل فواز الذين يشكلون ثلاثة ارباع سكان تبنين ووجهاءها. وهناك ايضاً ممن تعاطوا السياسة من اهل تبنين، آل الغطيمي وهم عائلة صغيرة ومتواضعة. وقد سبق للمحامي عبدالله الغطيمي ان وصل الى المجلس على لائحة اسعدية. الحلقة الرابعة: الاثنين المقبل.