«هيئة الطرق»: مطبات السرعة على الطرق الرئيسية محظورة    هل اقتربت المواجهة بين روسيا و«الناتو»؟    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أرصدة مشبوهة !    حلول ذكية لأزمة المواقف    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زحلة، مشكلة الهوية الدائمة ... لبنان المصغّر الذي يفتنه تاريخ من صراعاته (1 من 2)
نشر في الحياة يوم 14 - 02 - 2014

يصعب أن يُفهم لبنان من دون أن تُفهم زحلة. فهي، مُصغره، المكان الذي سريعاً ما تغدو مشاكله الداخلية عابرة للحدود. وهي، مصحوبة بقضائها، الرقعة التي تعيش فوقها أقوام الطوائف جميعاً. فهناك المسلمون، السنة منهم والشيعة، والمسيحيون، بموارنتهم وكاثوليكهم وأرثوذكسهم، وهناك الدروز. وفي قضاء زحلة تتمثل أقليات إثنية وقومية كالسريان والأرمن والأكراد، ويترك البروتسانت ما يدل إليهم. وقبل هذا وذاك، لا تكتم مدينة زحلة، ذات الغالبية المسيحية، أزمة هوية مردها الفارق بين الموقع الجغرافي وإرادة الجماعة.
ففي الطباع هم بقاعيون جداً ومباشرون بلا تزويق وتدوير. يُستدل على ذلك في معظم وجوههم العامة التي عُرفت على نطاق وطني، من رئيس الجمهورية الراحل الياس الهراوي إلى الشاعر سعيد عقل. لكنْ يتراءى للبعض كأن سكان المدينة البقاعيين جغرافياً يشبهون سكان أوروبا الشرقية والوسطى إبان الحرب الباردة، حين كانوا أسرى كتلتهم الشرقية، لكنْ منشدين بعواطفهم وإراداتهم إلى أوروبا الغربية. فأهل المدينة يؤثرون، بحسب شواهد عدة، الانتساب إلى جبل لبنان على الانتساب إلى المحافظة التي تُسمى مدينتُهم «عروسها».
هكذا طالب الزحليون منذ الستينات بإنشاء أتوستراد بينهم وبين الجبل. ووفقاً لأستاذ علم الاجتماع ملحم شاوول، كان المطران الكاثوليكي كيرلس مغبغب، الذي حل في المطرانية أواخر القرن التاسع عشر بعد عدد من المطارنة الحلبيين، أول من عمل على ربط زحلة بالجبل.
صحيح أن مصالح كثيرة شدت الزحليين تقليدياً إلى البقاع. فأراضيهم واقعة في سهله، وثلثا أراضيه كانت ذات مرة ملكهم، فيما كانت مدينتهم العاصمة التجارية والخدمية، التعليمية والاستشفائية، لمحافظتها. وهذا ما حيرهم وبلبلهم حين طُرح ضمهم إلى متصرفية جبل لبنان.
بيد أن العلاقات تلك طاولتها تغيرات كثيرة في العقود القليلة الماضية، إذ باع الزحليون أكثر أراضيهم في سهل البقاع، كما نمت حواضر أخرى في القضاء واستغنت عن مركزية زحلة. وبحسب أسعد زغيب، رئيس البلدية السابق، تبقى عام 1975 مفصلية هنا، إذ أفضى انحياز زحلة الصريح إلى مسيحيي الجبل إلى انكفائها عن جوارها، وانطلق بيع الأراضي في سهل البقاع كما صار أهلها ينفقون من مدخراتهم، فيما راحت تنمو المناطق الأخرى. «هكذا، كما يضيف زغيب، خرجنا من الحرب ضعفاء وذوي ملكيات أقل».
وحيال مستجدات كهذه، صارت المصالح والهوية، على ما يرى المثقف والأستاذ الجامعي فارس ساسين، أقل تعارضاً في ما بينها، إن لم يكن أشد انسجاماً.
وفرة النعوت الاحتفالية
ومثلما يتغنى لبنانيو الأيديولوجيا التقليدية بلبنان، كما لو أنهم بالأغنية والتغزل بالطقس وبالمآكل يحاصرون تفتتهم ويكافحون خوفهم من غدهم، يفعل الزحليون شيئاً مماثلاً. فهم ربما كانوا أشد اللبنانيين احتفالاً بذاتهم واستدراجاً للنعوت في وصف مدينتهم. ذاك أن الزجل جعل زحلة «دار السلام» و «مربى الأسود» في وقت واحد، فيما وصفها الشعر، عبر قصيدة أحمد شوقي الشهيرة، ب «جارة الوادي». وبين هذين الحدين، هي «عروس لبنان» و «عروس البقاع» و «عاصمة الكثلكة في الشرق» و «أول جمهورية في الشرق» تمتلك علماً ونشيداً، وهي كذلك «مدينة الكنائس» و «وادي السباع» و «وادي النمور» و «الميناء البري للبقاع وسورية». ولئن نُسب إلى ابنها وشاعرها سعيد عقل أنها «المدينة المسيحية الوحيدة بين البحر المتوسط والصين»، فإن زحليين كثيرين يتباهون بأنها سُميت مدينة قبل العاصمة بيروت.
والأوصاف، بعد حذف المبالغات، يبقى منها أن إحدى أبكر النقابات العمالية في لبنان أسسها رشيد سويد، عام 1923، في زحلة. وكان لزحليين هما شبل دموس وموسى نمور دورهما في وضع الدستور اللبناني عام 1926. لكنْ قبل ذلك، وفي أواخر القرن التاسع عشر، شهدت زحلة بدايات السياحة والهجرة وتأسيس الجمعيات والأندية الثقافية. كذلك ففي عهد المتصرفية، الذي يبدو العصر الذهبي في ذاكرةٍ جمعية ما، ازدهرت صحف ومجلات أسسها رجال كعيسى اسكندر المعلوف واسكندر الرياشي وشبل دموس، وعاشت منها حتى اليوم «زحلة الفتاة» التي ظهرت في 1910. ودائماً في موازاة ذلك كان احتضانها الإرساليات ينشر فيها المدارس الدينية والأهلية على أنواعها.
لكن الزحليين، وكمثل سائر المأزومين بالهوية، يكادون يحفظون عن ظهر قلب تاريخ تشكلهم ووفادة أجدادهم إلى المدينة وما عرض لهم بعد ذاك.
وبحسب دراسة ملحم شاوول «زحلة: من الزعامة الوطنية إلى الزعامة الملحقة»، وهي نُشرت فصلاً في كتاب صادر بالفرنسية بعنوان «قادة ومحازبون في لبنان»، تلاحقت ثلاث موجات من الهجرة القسرية لتشكل النسيج الاجتماعي للمدينة.
الأولى كانت نزوح عائلات مسيحية من شمال سهل البقاع ومن الداخل السوري، استوطنت وادي البردوني نهاية القرن السابع عشر ومطلع الثامن عشر. أما الثانية، الأهم والأكبر، فأعقبت انشقاقاً عرفته الكنيسة الأرثوذكسية في 1720 ونشأة الكنسية الملكية الكاثوليكية في منطقة المشرق، بينما تلت الثالثة تنصر آل أبي اللمع الدروز بعد 1850، وكانوا «المقاطعجيين» هناك. حينذاك بدأت بعلبك تخسر دورها كعاصمة للبقاع لصالح مدينة ناشئة تضم نحو 12 ألف مسيحي هي زحلة.
والحال أن الأصل السوري، لا سيما الحوراني، للعائلات الكاثوليكية الأولى التي باتت تُعرف ب «العائلات السبع» (العن، حجار، غرة، مسلم، بريدي، أبو خاطر، حاج شاهين)، لا يزال حاضراً في مصاهراتها مع مسيحيين سوريين وفي علاقات تجارية مع الداخل السوري، لكنْ أيضاً في شيء من النقمة حيال ماضٍ ومكان لم يكونا وديين. ففي زحلة قد تُفهم أكثر من أي مكان آخر مقولة لبنان ملجأً للأقليات الهاربة.
التاريخ الصراعي الذي تمتلئ صفحاته بالقتل والحرق والحصار حاضر أيضاً، أكان في ما خص العلاقة بالجوار الإسلامي أو في ما خص نزاعات الفرق المسيحية ذاتها. فالمدينة أُحرقت ثلاث مرات في 1777 و1791 و1860 التي شهدت أكبر نكباتها. حينذاك كان أهلها وأهل دير القمر، بحسب الزميل نجيب خزاقة، أول من عرف المخيمات في تاريخ لبنان، إذ نُصبت لإيوائهم في حرش بيروت قبل أن يعيدهم الجيش الفرنسي إلى بلدتيهم. وهم، في هذه الغضون، كانوا يصدون هجمات متكررة من الأكراد والحرافشة والبدو.
لكن الزحليين، بدورهم، لم يكونوا ملائكة. ففي مطالع القرن التاسع عشر انتقم فرسان منهم من جيرانهم الشيعة فأحرقوا قريتي بريتال وشمسطار، ثم في 1840 أحرقوا حمانا وكفر سلوان الدرزيتين. وربما كان مرد هذا الإحساس بالقوة، الذي لا يُلمس في بلدات ذات ظروف مشابهة كجزين، أن ملاكيهم من آل أبي اللمع كانوا ذوي سطوة ضعيفة، ثم تحولوا إلى المسيحية، رافعين لدى الزحليين معنوياتهم ومعززين شعورهم بالبأس والشكيمة.
طوائف وجماعات
وكان آل أبي اللمع أول من استقدم فلاحين موارنة إلى زحلة للعمل في أراضيهم هناك، وهذا قبل أن يتمدد، في عهد الانتداب الفرنسي، الموظفون الموارنة ممن انتقلوا من الريف إلى المدينة. وهو تمدد تفاقم نوعياً مع حرب السنتين، حتى غدا الموارنة يناهزون الكاثوليك عدداً.
واليوم يُقدر كل من الطائفتين بما يقارب ثلث المدينة، فيما يعد الأرثوذكس قرابة عُشرها، يساويهم الشيعة عدداً. ولئن قُدّر سنّة المدينة ب5 في المئة، توزع الباقون على جماعات صغرى أهمها السريان أو الماردينيون الذين يمسكون بمفاصل المدينة الصناعية ويلتحمون بكنيستهم ومغالاتهم في المسيحية.
وزحلة وإن اختلط بعض أحيائها، بقي من ثوابت تقسيمها السكني أن حي مار أنطونيوس للموارنة الذين يقيمون بكثافة أيضاً في وادي العرايش، وأن آل الهراوي يسكنون حوش الأمرا التي هي خارج زحلة الإدارية ألحقها بها التمدد السكني، فيما يقيم الأرثوذكس في المعلقة التي ضُمت مع الانتداب إلى لبنان الكبير.
لكنْ إذا عُد أهل المدينة ما بين 50 و70 ألفاً، عُد أهل القضاء بما بين 170 و250 ألفاً، أكثر من نصفهم مسيحيون، وأكثر من ربعهم سنّة وأقل من خُمسهم شيعة.
وهؤلاء عصفت بهم نوائب عدة في ماضٍ تراءى أنه مضى. دليل ذلك، وفقاً لأسعد زغيب، أن زحلة، قبل 1975، كانت المكان الوحيد في لبنان الذي تتسع مقبرته لموتى الأديان والطوائف كلها. لكنْ مع حرب السنتين وجدت زحلة نفسها تستعيد شيئاً من أزمنتها الصراعية تلك. فقد حاصرتها المنظمات الفلسطينية وجماعات «الحركة الوطنية». وفي آخر المطاف، وبحسب نجيب خزاقة، كان الجيش ما أنقذ زحلة من حصارها، فضلاً عن قرار «حركة فتح» بعدم دخولها، ضداً على رأي حليفتها «الحركة الوطنية» التي «حركت الجو الإسلامي الانتقامي في الجوار».
تكرر الأمر على نطاق أوسع وأشمل في 1981. فبشير الجميل، النجم الصاعد ل «القوات اللبنانية» يومذاك، أراد أن يفك عنها الحصار المضروب، كما أراد في الوقت ذاته أن يستخدمها لدخوله المعادلة الإقليمية السورية – الإسرائيلية التي تناسلت «أزمة صواريخ» شهيرة.
لكن الحصار الذي دام ستة أشهر، تخللتها مئة يوم من القصف السوري المتواصل، معطوفةً على تعديات كانت قد بدأت تطاول القرى والبلدات المسيحية في البقاع، ومنها زحلة ذاتها، منذ 1975، رفعت بشير إلى مصاف الزعامة الفعلية للمدينة. يومذاك، على ما يروي الدكتور جوزيف خوري، «كان الزحليون كلهم مستعدين أن يموتوا ولا يستسلموا». وفي مناخ كهذا، خضع «التجمع الزحلي» الذي أنشأه وجهاء المدينة بعيد اندلاع «حرب السنتين»، لسلطة بشير، وانضوت زحلة، وهي التجمع المسيحي الأكبر في لبنان، في عباءته.
الزعامة السياسية
ويبدو أن بشير مثل للزحليين، فضلاً عن الأمل بالخلاص، قيماً أحبوها ورأوها فيه، كالشجاعة ورفض المساومات. وهو ما تعاظم في الأيام التي تلت انتخابه رئيساً، إذ غدا يمثل أيضاً شرعية الدولة التي راهنوا دائماً على أنها مخلصهم. والزحليون معروفون بتعلق تقليدي بالدولة وجيشها الذي «يحمي»، بحيث احتضنت المؤسسة العسكرية ضباطاً كثيرين منهم.
بيد أن وريث بشير، إيلي حبيقة، لم يحظ بغير نفور الزحليين واستيائهم. فهو استقر في مدينتهم مدعوماً بالجيش والأمن السوريين ممن سبق أن قصفوهم بلا هوادة. وفوق هذا عاث عناصره، وهم من خارج المدينة وقضائها، فساداً، ففرضوا الخوات واختطفوا فتيات وسرقوا فندق القادري العائد بناؤه إلى 1910، والذي جعله جمال باشا مقراً له في 1914، ومنه أعلن الجنرال غورو، بعد ست سنوات، ضم «الأقضية الأربعة» إلى «لبنان الكبير».
والتطورات هذه لم تكن بلا أثر على الزعامة السياسية في زحلة. فوفقاً لدراسة ملحم شاوول المذكورة أعلاه، برز الزعيم الأول الياس طعمه السكاف، ملاّك الأراضي الكاثوليكي، مع بداية الانتداب الفرنسي. وقد قُيضت لهذا الرجل سيرةٌ تجتمع فيها صفحات من الغرب الأميركي إلى أخرى من الجنوب الإيطالي. فعائلته لم تكن من «العائلات السبع»، وإن ربطتها قرابة بإحداها، الحاج شاهين. وأهم من ذلك أنه عمل مدير أعمال لآل سرسق في بيروت، حيث اتسع إلمامه بالعالم الخارجي وتقلبات أحواله وأسواقه وسلعه. هكذا انقض على شراء الأراضي في سهل البقاع، حتى قيل إن سعر ضمان الأرض يُحدد في بيته. ومنذ 1914 صارت عائلة السكاف الأكبر عددياً والموزعة على جميع الأحياء السكنية لزحلة.
بيد أن بروز الياس طعمة ترافق مع صعود الموارنة بدعم فرنسي تجلى في تزعيم المحامي الفرنكوفوني والماروني موسى نمور، وهو من المعلقة التي يعتبرها الزحليون طرفية. لكن العائلات الكاثوليكية التقليدية التي تمتعت بالنفوذ إبان المتصرفية اعتبرت تزعيم نمور عليها إهانة لها، خصوصاً أنه بقي بيروتي الهوى والإقامة.
أما جوزيف السكاف، نجل الياس طعمة، فعمل على تمتين شعبيته بين الموارنة الذين غدوا عصب قوته الانتخابية، بحيث كانت أصوات وادي العرايش، ذات الأكثرية المارونية، تصب تقليدياً لمصلحته ومصلحة لائحته. غير أنه عمل أيضاً على انتزاع موقع الزعامة الكاثوليكية الأولى، لا في زحلة فحسب، بل في عموم لبنان الخمسينات والستينات. وفي هذا كان عليه أن ينوب مناب «العائلات السبع» زحلياً، وأن يُبعد، وطنياً، عن الموقع الطائفي الأول هنري فرعون. وبالطبع كانت العلاقة بالسلطة وما تقدمه من تنفيعات أساسية في هذا، خصوصاً أن السكاف لبث عضواً شبه ثابت في حكومات الحقبة الاستقلالية.
لكنْ مع «حرب السنتين» التي قلصت قدرة الزعامات التقليدية على تقديم الخدمات طارحةً تحدياتها عليها، ركز السكاف خطابياً على التنديد ب «اقتتال الأخوة» وعلى رفض «التجييش الطائفي»، من دون أن يشكل ميليشيا مسيحية خاصة به. إلا أنه لم يعترض نشوء لجان وتجمعات أهلية للدفاع عن الأحياء أبرزها «التجمع الزحلي»، لا بل وُجد من يتهمه بالوقوف وراء هذا «التجمع» الذي غطى نشاطات عسكرية لشبان متحمسين.
ومع معركة زحلة في 1981، تدهورت زعامة السكاف. فهو يومذاك كان يشغل وزارة الدفاع من دون أن يتمتع بأية قدرة على صناعة القرار. حتى إذا دخلت القوات السورية، تعامل قادتها مع وجهاء المنطقة وسياسييها ك «مهزومين»، وطالبوهم بالانصياع الكامل وإلا استحالت إقامتهم في مناطقهم وبين أهلهم.
وبالفعل واجه السكاف معضلة مزدوجة: ف «القوات اللبنانية» تضغط عليه كي يتخلى عن خطه «الوسطي» وينحاز كلياً إليها، فيما يضغط السوريون لحمله على معارضة اتفاق 17 أيار (مايو) واعتباره المسيحيين «حالة إسرائيلية»، وذلك تحت التهديد بمنعه من الوصول إلى مدينته وأراضيه التي احتلوها.
وهذا ما يفسر حادثة السيارة المفخخة التي كادت تودي به في أيلول (سبتمبر) 1988 فيما كان متوجهاً إلى مقر البطريركية المارونية. لكنه، على رغم إصابته وتدهور وضعه الصحي، شارك في اتفاق الطائف مجادلاً بحرارة لتحديد موعد الانسحاب السوري من البقاع. ولئن جلب على نفسه كراهية الرئيس السوري، غاب السكاف عن زحلة التي لم يعد إليها إلا في 1991 جثةً هامدة.
الياس الهراوي
في 1989، ومع سلام الطائف، انتُخب زحلي هو الياس الهراوي رئيساً للجمهورية بعدما اغتيل الرئيس المنتخب رينيه معوض.
وهذا ما لم يقع وقعاً حسناً على عموم الزحليين المرتابين بكل مشروع تسنده دمشق. لكنْ إلى ذلك، وعلى ما يضيف نجيب خزاقة، نشأت مفارقة مؤداها أن الهراوي بات رئيس الجمهورية فيما السكاف، المستضعَف والمهمش، زعيم زحلة. ففضلاً عن الإقرار العميق بكاثوليكية الزعامة هناك، لم يكن ما هو معروف عن الرئيس الجديد عاملاً مساعداً.
ففي سجل الهراوي السياسي أنه وصل إلى النيابة على لائحة السكاف، لكنه غادر كتلة زحلة لينضوي في تكتل «الموارنة المستقلين». وهذا ما لم يلق هوى لدى الزحليين، بمن فيهم أكثرية الموارنة المؤيدة للسكاف، فضلاً عما بدا لهم وفاء منقوصاً.
لقد حاول الهراوي إيقاظ مارونية نامت في زحلة التي يصفها ملحم شاوول بأنها اعتنقت، مع مرور الزمن، هوية عابرة للطوائف المسيحية، يُستدل عليها في مدى الزيجات المختلطة، كما في تكاثر المناسبات التي يتصدرها المطارنة الأربعة، الكاثوليكي والماروني والأرثوذكسي والسرياني. وأغلب الظن أن تجربة الحصار المديد في 1981 كانت العنصر الأفعل في إنشاء هوية كهذه، هويةٍ عززها ضمور الشعور الكاثوليكي التقليدي بالتعالي والفرادة.
وعلى أية حال، كان ما زاد في إضعاف الهراوي ما فعله حلفاؤه السوريون، حين دعموا زعامات شيعية وسنية في القضاء، أبرزها محسن دلول، على حسابه. فهؤلاء باتوا يستطيعون تقديم خدمات قد يعجز هو، وهو رئيس جمهورية، عن تقديمها. لا بل لم يتردد غازي كنعان وطاقمه الأمني في استخدام وجوه من مدينة زحلة نفسها، ومن بيت الهراوي ذاته، لإضعافه. وفضلاً عن تغييب زعيمهم التقليدي جوزيف السكاف، ثم رحيله، وسط شعور مسيحي عام بالإحباط، جاء التجنيس الممهور بتوقيع الهراوي ليُقنع الزحليين بأن «فخامة الرئيس» ضالع في محاصرة المسيحيين.
لقد بدا أن موقع زحلة حيال الدولة انهار برحيل السكاف، ولكنه انهار أكثر بوصول الهراوي إلى الرئاسة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.