قبل أن ينقضي عام على استقلال لبنان، وُلد رفيق الحريري. بالطبع، لم يكن لأحد أن يُدرك أن اسم هذا الطفل الصيداوي، ابن العائلة المزارعة والمتواضعة الحال، سيُرفَق لاحقاً بذكر الاستقلال: بعضٌ سيقول أنه جدّده باتفاق الطائف. بعض سيقول أنه بمصرعه أسّس الاستقلال الثاني. وبعض سيصفه بأنه مُقوّض كل استقلال لمصلحة الخارج دولاً ورساميل. اليوم، بعد اثني عشر عاماً على اغتياله المأسوي، ما زال الموقف من الرجل وإرثه موضع جدل وخلاف. في شبابه لم يتميز الحريري بالكثير. أنهى تعلّمه الثانوي في 1964 ثم درس المحاسبة في الجامعة العربية وانتسب إلى حركة القوميين العرب. بعد ذاك هاجر إلى السعودية، مثله مثل شبان لبنانيين كثيرين وجدوا في الخليج أورشليمهم الجديدة التي كانتها، لدى الأجيال الأسبق، أفريقيا وأستراليا والأميركتان. لكنه، مثل لبنانيين قليلين، أثرى هناك. ومثل لبنانيين أقل، أثرى كثيراً: فبعد أعمال بسيطة ومتقطعة تحول مقاولاً وبنّاء قصور، وتدفقت شلالات المال. تزامن ذلك، في النصف الأوّل من السبعينات، مع ارتفاع عائدات النفط أربعة أضعاف، ونشوء طبقة جديدة عابرة للحدود سمّاها البعض يومذاك «حاملي محفظة السمسونايت». مفهوم «تراكم رأس المال» ينقلب هنا رأساً على عقب. ... إلى السياسة در في الثمانينات، بدأ رفيق الحريري يضيف إلى عالم الأعمال عالم السياسة. قيل الكثير في أسباب الإضافة. أبرز ما قيل جاء على شكل سؤال: ما الذي يحمل رجل أعمال ثرياً إلى هذا الحد على الغرق في أوحال السياسة اللبنانية؟ ثمّة من رأى نازعاً شخصياً إلى العظمة وجمع الزعامة إلى الثروة. هناك من أشار إلى حاجة إقليمية إلى شخصية جديدة مؤثرة في لبنان تأتي من خارج «نادي أمراء الحرب». كائناً ما كان الأمر، أقلع الحريري كالسهم صوب هدفه: اشترى أملاكاً في أوروبا وفي لبنان. وزّع أموالاً على محتاجين. بدأ يعلّم طلاباً ويخصّصهم في الخارج. وكان ملحوظاً شراؤه القصور التي صار ثرياً بسبب بنائها: من أبناء رجل الأعمال والمليونير الراحل نجيب صالحة اشترى ما بات يُعرف ب «قصر قريطم» الذي يفصله سور مرتفع عن محيطه. ومن آل الخوري اشترى قصر القنطاري الذي سبق أن حلّ فيه الرئيسان الأول والثاني لجمهورية الاستقلال، بشارة الخوري وكميل شمعون. كان في ذلك شيء من طلب العظمة ومن الاستحواذ على التاريخ. وكان للحريري دوره في الكواليس التي أنجبت اتفاق الطائف في 1989. من لا يقتنع بالسياسة، كي يرمي سلاحه، يقتنع بثلاثين من الفضة. أليس السلام بذاته قضية فاضلة تحتمل تلويث اليدين برشوة الميليشيات؟ في مكان ما بدا أن التلاقي السعودي – السوري على صيغة للسلام اللبناني يخاطب الحريري: يخاطب حاضره ك «شيخ» وبليونير صار ما صاره في الرياض، لكنه أيضاً يخاطب ماضيه كقومي عربي عثر في حافظ الأسد على جمال عبدالناصر، إلا أنه عبدالناصر وقد تكيّف مع شروط إقليمية ودولية جديدة، ومع مصالح اقتصادية كان يتهدّدها الرئيس المصري. وفعلاً، ما لبث الأسد، مطالع 1991، أن شارك في حرب تحرير الكويت تحت قيادة أميركية. والتكيف كان سمة المرحلة: في 1991 أيضاً، انعقد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط. سورية شاركت، ومنظمة التحرير شاركت ضمن وفد أردني. بعد عامين كانت أوسلو، وكانت المصافحة الشهيرة بين ياسر عرفات وكلّ من اسحق رابين وشمعون بيريز في حديقة البيت الأبيض. المصادقة الغربية على الطائف، وعلى التلاقي السعودي – السوري إنهاءً للحرب اللبنانية، عزّزت الاندفاع الحريريّ في الاتجاه ذاته. فابن العائلة المزارعة في صيدا، الذي صار عملاقاً مالياً، لا يستطيع أن يفكر من غير أن يحسب حساب العواصم التي ينبع منها القرار كما تصبّ فيها الاستثمارات. وهو، في هذه الغضون، بنى علاقات وصداقات وثيقة تعبر الأطلسي إلى واشنطن، وإن حضنت باريس أقواها، وتحديداً عائلة الوجه الديغوليّ جاك شيراك. وشيراك الذي كان رئيساً لبلدية العاصمة، كان غادر رئاسة الحكومة في 1988، قبل عام على الطائف، ليعود رئيساً للجمهورية في 1995. إنها النيوليبرالية لكنّ الغرب ليس مجرّد علاقات وصداقات منزّهة. يومذاك كانت النيوليبرالية شريعة الزمن، خصوصاً أن الفترة تلك ترافقت مع انهيار الاتحاد السوفياتي وكتلته وشيوعيّته. من لا يقلّد رونالد ريغان، الذي ترك البيت الأبيض مطالع 1989، يقلّد مارغريت ثاتشر التي ودّعت 10 داوننغ ستريت في 1990، أمّا من انحطّت به المثالات والنماذج فعليه بسيلفيو بيرلوسكوني الذي تولّى رئاسة الحكومة في روما عام 1994. الشرق الأوسط والعالم كانا يهلّلان ويتبادلان التهاني. لا شيوعية بعد اليوم، ولكنْ أيضاً لا فقر ولا حروب. العالم «قرية كونية» تهندسها التقنية والتواصل فيما يبنيها المال. أما عندنا، فلا بد من إخماد تلك المأساة المديدة والمستعصية، المسمّاة «الصراع العربي الإسرائيلي» أو «أزمة الشرق الأوسط». ألم تُذلّل ظاهرات لا تقل عتوّاً كالعنصرية في جنوب أفريقيا والديكتاتوريات العسكرية في أميركا اللاتينية؟ لمَ لا عندنا؟ هذه المرة، التفاؤل صار كابوساً. في هذه الغضون، وفي 1992 تحديداً، قطف رفيق الحريري الثمرة السياسية الأولى. لقد كلّفه الرئيس الياس الهراوي تشكيل الحكومة التي استمرت تحكم ست سنوات. دخوله الاحتفاليّ إلى المشهد السياسي جاء على خلفية إفلاسٍ ضرب سياسيّي السنّة التقليديّين وأظهر عجزهم عن إدارة ما بعد الحرب الأهلية بأثقالها وتعقيداتها. لعل هذا ما اقتضى منه بعض الجهد لتظهيره ولتقديم نفسه مخلّصاً وحيداً في غياب البدائل. بقاء سليم الحصّ رئيساً للحكومة في وجه الحكومة العسكرية التي ترأّسها ميشال عون بين 1988 و1990، جعله موضع التباس سياسي: فهو، كموالٍ لسورية وكدستوري يرفض الاستجابة لإجراءات رئيس الجمهورية، صُنّف في خندق العداء للمسيحيّين. عمر كرامي، بدوره، بدت رئاسة الحكومة ما بعد الحرب فضفاضة عليه وعلى قاعدته الشعبية المتآكلة في طرابلس. اسم الحريري بات يتردّد كما الإشاعات، قوياً لكنْ يصعب تصديقه. تظاهرات أيار (مايو) 1992 وأحداث الشغب التي رافقتها والتدهور السريع للعملة الوطنية كانت الموسيقى الافتتاحية التي عُزفت لتكليفه رئاسة الحكومة. اللبنانيون الذين أفقرتهم الحرب وصدّعت مجتمعهم، بعدما أفقدتهم أقارب وأحبّة، أسبغوا على هذا الحدث لوناً خلاصياً فاقعاً: الرجل الذي ناب نسبياً عن الدولة فعلّم آلاف الطلاب على نفقته، سيعمّر البلد. هنا أيضاً صُرع الفقر وانفجرت السعادة. أصابع الناس باتت تعدّ البلايين التي تُنسب ملكيتها إلى الحريري: أربعة، خمسة، ستة... يجمعونها ويضربونها ويقسمونها فيما الرؤوس تهزّ إعجاباً والأعين تجحظ انبهاراً. الراديوات ارتفعت بأغنية وديع الصافي «عمّر يا معمّر العمار». تحوّل ثوريّ الجديد ضرب أطنابه: طفرة تلفزيونية. استثمارات. عقود ومشاريع وأرقام كثيرة الأصفار. وفود أجنبية بيض وسود وصفر تأتي وتذهب. صلة وثيقة بالعالم بعد عزلة الحرب التي جعلت بيروت قرية والكهرباء طموحاً، فيما هرّبت الأجنبي والعربي المهدّدين بالخطف في الضاحية الجنوبية أو إليها. سلع العولمة وآلاتها غير المألوفة في استهلاك اللبنانيّين تدفّقت. شبّان وصبايا تخرّجوا في جامعات أوروبا وأميركا يعودون. لغات ولهجات ومصطلحات وتفنّن في الكلام. وبعد كلّ حساب وقبله، ليس الحريري زعيماً تقليدياً. إنّه «العصاميّ» الذي بنى نفسه بنفسه. هذا بذاته تحوّلٌ ثوريّ في بلد تصدر سياسته عن العائلات و «البيوتات». وهو ليس زعيماً محلياً «على قدّنا». إنّ وراءه العالم. التلفزيونات شرعت تناقش مسائل مجتمعيّة في الثقافة والجنس والدين والأمزجة وأحوال الكون. مراجعاتٌ بدأت تظهر لأزمنة الحرب ولمعاني الطائفية. هذا يوحي بأن أعصابنا ارتخت وبتنا في استقرار وفي سلام. الحرب كأنها صارت وراءنا: من ظنوا أن سببها ضعف موقع المسلمين في السلطة وجدوا العلاج في الطائف. من ظنوا أن سببها السلاح الفلسطيني شاهدوا بأمّ العين الإسرائيليّين ثم السوريين يُخضعون الفلسطينيّين. من ظنوا أن السبب صراع «العرب» و «الغرب» رأوا المتوازيين يلتقيان. أما الذين تحدثوا عن الفقر، فها هو الحريري يخطّئ ما تصوّروه: ما إن تولّى رئاسة الحكومة حتى راحت قيمة العملة المتداعية تقفز. سعر صرفها جُعل يستقرّ. تأهيل البنية التحتية والمرافق انطلق. التضخّم هبط. النمو ارتفع. الشرايين تنبض في قلب بيروت. بيروت صار لها قلب. وداعاً جهنم إذاً. أهلاً بالجنة. سياسة السنّة لكنْ، وفقاً للقواعد اللبنانية الراسخة، لا يتأهّل الحريري، أو أي سياسي آخر، ما لم يتحوّل زعيماً لطائفته، أو زعيماً فيها. هنا المعركة بدت سهلة نسبياً. فالزعماء السنّة الآخرون كان يستولي عليهم الهرم أو الوهن أو الأبرشيّة الحانوتيّة أو كل هذه الصفات معاً. بعضهم، كعمر كرامي وسليم الحصّ، بدوا امتداداً للنفوذ السوري، مقطوعي الصلة بكل نفوذ آخر. وبعضهم، كصائب سلام، كانوا مكروهين من السوريين، وبالفعل ما لبث سلام أن غادر لبنان إلى سويسرا حيث توفي. الأوّلان ليسا كافيين. الثالث ليس مقبولاً. صحيح أن السنّة توحّدوا في ظل الناصرية، ثمّ وراء المقاومة الفلسطينية. لكنّهم الآن يتوحّدون للمرة الأولى حول قطب داخلي، وهذا ما يُحسب حسابه في تبلور الطوائف وعوائد الحصص والنفوذ. وبسرعة صار البليونير الصيداوي زعيم بيروت، فيما جُعلت شقيقته بهية نائب صيدا. تنافسُ معروف سعد ونزيه البزري صار من عمل الأرشيف. أما طرابلس، التي ترهّلت زعامتها الكرامية، فالتفّت هي الأخرى حوله شأنها شأن الأرياف السنّيّة. ذاك أن العائلات السياسية في الأخيرة إما تلاشت سياسياً، كحال آل المرعبي في عكار، أو سلّمت أمورها لزعماء الطوائف الأخرى، التي بدت أقوى منها في سنوات الحرب، كحال سنّة الإقليم وسنّة حاصبيّا. هنا وهناك بدأ يظهر زعماء حريريّون صغار، منهم من صدر عن بيوت سياسية وجدت في الحريريّة ما يجدّدها (أحمد فتفت، محمد الحجّار...)، ومنهم من تأسّس معه بيت سياسي (خالد الضاهر، مصطفى علّوش...). «الوسط» وتعميره وبالطبع، لم ينفصل مشروع الحريري لطائفته وبلده، ولنفسه بالتأكيد، عن «الوسط التجاري». هذا الترابط العضوي لم يعرفه لبنان منذ العهد الشهابيّ، حين اتّصلت سياسته باقتصاده بثقافته بإعلامه في جسم واحد، فيما انبثق طاقم يشبه المكاتب السياسية للأحزاب. لكنّ المدينة، وفقاً لمشروع الوسط، تطلع من رأس بانيها. من فكرة ومخطط أكثر ممّا من شوارع وأحياء. الباطون كثير والأرقام والأوراق كثيرة، إلا أن الروح قليلة. «الوسط التجاري» كان إعلاناً عن أولويات: بيروت قبل سائر لبنان. الخدمات قبل الصناعة والزراعة. المستثمر أوّلاً والسائح ثانياً والآخرون في ما بعد. الغني المطلوب جذبه يُفضّل أن يكون حديث نعمة يدخّن سيجاراً حتى في المطاعم الضيقة والمغلقة، لكنّه لا يشرب كوب عصير ولا يأكل سندويشاً كما لا يريد مكتبة عامّة أو «كيوسك» للصحف. أهم من ذلك أننا بتنا، للمرة الأولى، أمام قطاع خاص يؤمّم الملكيات مستفيداً من موقعه في الحكومة والبرلمان. المال متوافر بغزارة والمستفيدون، المستحقّون منهم والفاسدون، متوافرون أيضاً. لكن ملاكين كثيرين أفاقوا ذات يوم وقد أُمّمت أملاكهم وأعطوا أسهماً أحاطت علامات استفهام وتعجّب بكيفيّة حسبتها وبتقدير مستقبلها. هناك رابحون وهناك خاسرون تحت لافتة بيروت ولافتة الوحدة الوطنيّة. لم يصل الأمر مرة إلى هذا الحدّ الكيماويّ: التبخّر من جهة، والتمدّد من جهة أخرى. الاعتراضات الأولى على مشروع بناء الوسط جاءت من تقنيّين، من مهندسين واقتصاديّين تساءلوا عن معنى إنشاء جزيرة فخمة وسط خرائب بيروت، وعن مصير الآلاف من أصحاب الحقوق، الملاكين والمستأجرين، وعن تبعات عدم إعادة الأسواق القديمة ساحة لقاء نادرة، اجتماعية واقتصادية، بين اللبنانيين، ناهيك عن ماهية المعايير المعتمدة في هدم المباني أو الإبقاء عليها، والحفاظ على ذاكرة المدينة وتراثها وهويتها. لكن الاعتراضات تلك لم تخاطب اهتمام السياسيين. هؤلاء صوتوا في البرلمان على تشريع الشركة العقارية بما يشبه الإجماع، وفي قانون من مادة وحيدة. كان همّهم استبعاد كل نقاش جديّ حول المواد التي تجعل من «سوليدير» ابناً مدلّلاً لآباء كثيرين، ابناً متخماً بين أبناء بلا أبٍ، متروكين يتضوّرن جوعاً. السياسيون أنفسهم الذين تجاهلوا نقد المهندسين والاقتصاديين المبكر، سيدركون بعد سنوات قليلة فوائد الانقضاض على المشروع والتحذير من أخطاره. لكنّ هذا حصل بعدما تغيّرت خريطة الولاءات والتحالفات، بتغيّر اتجاهات الريح التي رفعت الحريري ومشروعه. روائح المال زكمت الأنوف. القيم بدأت تنخرها جرثومة المال السريع. الإدارات البديلة والموازية التي رعاها الحريري اتّصفت بالديناميّة التي افتقرت إليها الإدارة الرسمية المترهلة، إلا أنها اتّصفت أيضاً بفساد أقام في تعريفها نفسه. تصاحب ذلك مع ثقافة غير مسبوقة جعلت الترفيه أولوية الثقافة. الرقم يحل محل المفهوم. النسب المئوية تطرد التحليل. لقد كان في رفيق الحريري شيء من أندي وارهول، لكنْ بدل إحالة العالم بفنّانيه وسياسييه إلى «الثقافة الشعبية»، فإنه أحال كل شيء إلى المال: من معه يُعطى ويُزاد... اقتصاد السوق لا يكفي. المطلوب ثقافة السوق أيضاً. المثال مدينة دبي. الهدف ماليزيا. القبلة هي «المول». الناس باعة ومشترون. أصحاب فنادق ونزلاء. مالكو مصارف ومودعون. «الفاشل» لا مكان له. في أحسن أحواله، يُعامَل كما عومل شاعر أفلاطون: يوضع إكليل على رأسه ويُطرد من الجمهورية. ورفيق الحريري شخصياً كان في موقع القلب من ذلك كله. الوسط نُصب الحريري وأهرامه. إنه يُنقش نقشاً في حجره وفي مستقبلنا. المطار المكلف يحمل اسمه. تمثال رياض الصلح لا يُعاد إلى موضعه إلا بعد أخذ ورد. مدينة كميل شمعون الرياضية، وهي خارج الوسط، يمكن تغيير اسمها. المساجد التاريخية الجميلة في الوسط، التي تحاكي في هندستها هندسة سنان، هيمن عليها جامع محمد الأمين الجبار الذي يتطلب مدينة أضخم من بيروت كثيراً كي يتناسق معها. مع ذلك، تناسق المسجد الحريريّ مع مزايدات وشكوك داخل الطائفة السنيّة حول «إيمان» الحريري و «تقواه»، أطلقها رجال دين في ذروة إعادة بناء الوسط. هكذا، ولإسكاتهم، رد الرجل بمسجد جعل الكاتدرائية المارونية الواقعة خلفه أشبه بعلبة كبريت. وعملاً باللعبة اللبنانية، اندفع القائمون على الكاتدرائية إلى بناء برج للجرس يزيد علوه عن ارتفاع مآذن مسجد الأمين الأربع. التعمير شيء وتذليل الطائفية شيء آخر. هذا لا يهمّ. يمكن تذليله لاحقاً حين تفيض أنهار المال على الجميع. المهمّ الآن أن بيروتَ بيروتُ الحريري وحده، بلا قبل ولا بعد. في المواسم الانتخابية خصوصاً، كان يتنقّل فيها تنقّل إمبراطور مدجّج بالعظمة. نجاح واكيم مثلاً، الذي نال في انتخابات 1972 بوصفه «مرشّح عبدالناصر»، الرقم الأعلى في تاريخ الانتخابات اللبنانية، صار يفتّش عمّن يعرفه. أبناء العائلات التقليدية، السياسية والمالية، الذين احتقرهم الحريري واحتقروه، انزووا في بيوتهم أو انضمّوا إلى حركات اعتراضية قليلة الأثر، بعضها تجمّع حول سليم الحصّ في المواسم الانتخابية، بعدما سلّم آل سلام بالزعامة الحريرية. أدبيّات التزلّم والتزلّف عصفت بالصحافة. المناسبات الاجتماعية باتت تُستهلّ بشكر الحريري، لا ينافسه في ذلك إلا سيادة الرئيس القائد حافظ الأسد. لقد كانت الحريرية 23 يوليو اللبنانية، إنما بثياب مدنية لبسها مقاولون حلّوا محلّ الضباط. إلا أنها، بما فيها من استيلاء على أملاك كثيرين في عدادهم ملاكون سنّة، كان في وسعها أن تطلق صراعاً اجتماعياً عابراً للطوائف، لكنْ هيهات. فالسنّة الخائفون من سطوة ميليشيات «أمل» في الثمانينات، ثم من سلاح «حزب الله» في التسعينات وما بعدها، لا يملكون كماليات الانفصال عن زعيم حامٍ من أبناء طائفتهم. والمسيحيّون الخائفون من السلاح السوري يستولي عليهم الهمّ الواحد الذي هو خروج السوريين. في المقابل، ربما تراءى للحريري أنّ تتجير الكون هو ما يُضعف الطائفية. ذاك أن القطاع العام والإدارة هما، بعد كل حساب، ملعب الطوائف وبورصة الحصص. والناس حين ينقسمون شارين وبائعين لا يعودون ينقسمون طوائف. لكن هذا التأويل يغدو تبسيطاً محضاً حين نتذكّر أن هذا التتجير الشامل مبنيّ هو أيضاً، وعند كل منعطف من منعطفاته، بناءً طائفياً ومناطقياً. أوليست الكتلة الأولى والأقوى في «المكتب السياسي» كتلة أبناء صيدا السنّة الذين عرفوا رفيق الحريري منذ نعومة أظفاره وشاركوه الانتساب إلى حركة القوميين العرب: فؤاد السنيورة، عدنان زيباوي، مصطفى رزيان، عبداللطيف الشمّاع...؟ هنا، في تأويلها «الاقتصادي» للعالم، كرّرت الحريريّة، ولو بالمقلوب، الأوهام الطبقية التي سبق للشيوعيين اللبنانيين أن أشاعوها. لكنّ الأمانة تدفع إلى الاعتراف بأن طائفية الحريري كانت وظلّت أقل الطائفيات طائفية. إعلامه، مثلاً، عكس هذا الواقع على نحو دقيق. تلفزيونه سنّي أقلّ كثيراً ممّا التلفزيونات المسيحية مسيحية، وممّا التلفزيونات الشيعية شيعية. كذلك جريدته. لقد اجتمع شيء من خفر أهل الأحياء المدينية إلى شيء من ثقة الأكثرية بأنها أكثرية، وإليهما انضافت النزعة التجارية التي لم تتعفّف، إبّان الأعياد الدينية، عن رفع الاستهلاك والدعاية إلى سوية لا تبلغها الصلاة نفسها. الأمن السوري والمعترضون هذا المشروع، الذي أعاد صياغة البلد، ما كان له أن ينطلق من دون إذن الأمن السوري. في بلداننا، رجل الأعمال لا يدخل السياسة ولا يبني المدن من دون موافقة الضابط. الخوّة التي اتّخذت شكل الابتزاز كانت كبيرة، لكنّ دافعها كان يعزّي النفس برهان وبحاجة نفسيّة. أما الرهان فإن السلام الإقليمي آتٍ لا محالة، ومعه لا بد أن ينسحب السوريون، بل قد يتفكّك الجهاز العسكري الحاكم في سورية نفسها. وأما الحاجة فالحصول على إقرار هؤلاء الحكّام الفعليين بأن للحريري سلطة عليهم، تناظر سلطتهم عليه، ليست مستمدّة من السلاح. عشاء «سيادة العميد» و «سيادة العقيد» في قريطم كان مناسبة نموذجية لاستعراض مركّب الحب والكراهية الذي يجمع بين الضيف والمضيف. كل منهما كان يضع على الطاولة مصدر قوته ويسأل الآخر، بمداورة مهذّبة، أن يسلّم له به. صيحات النقد تعالت في مواجهة الحريري: بعضها كان مُحقاً تماماً. أسوأها كان ذاك الصادر عن معجبين بالحرب وبتدمير الوسط الأصلي. هؤلاء فضّلوا مَن هدم الوسط بكفاءة على من يعمّره بكفاءة أقل. أسوأ هؤلاء، وهم أسوأ من الحريرية وأخطر، الذين جيّروا نقدهم لخدمة النظام الأمني، قبل أن يستلّوا محاضر هذا النقد من أدراج الضباط السوريين واللبنانيين. في عداد هؤلاء اصطفّ جيش يجمع العقائديين إلى المرتزقة، والأزلام إلى الحساد. لكنّ الحريري، وفيما كان العالم يتباهى مرةً بموت التاريخ ومرةً بموت السياسة، وفّر للشبّان تمريناً على شبابهم. فيه «قتلوا آباءهم»، ومن خلال تحدّيه تراءى لهم أنهم يستحوذون على مدينتهم بعد استسلام الآباء البيولوجيين. أما قدامى الحزبيين الذين هُزموا في الحرب، فأيقظهم الحريري على فجيعة: أعماركم ذهبت سدى، وأفكاركم كذلك. لقد حلّ، داخل الأعمار والذاكرات، قطعٌ حادّ لم يحتمله كثيرون. حتى السينمائي السوري عمر أميرالاي، المشهود له بالنقدية ونظافة الكف، لم يستطع مقاومة الأبّهة الحريرية وسطوتها الإمبراطورية. وفي أواسط التسعينات، بدأت حملة على الحريري وعلى نيوليبراليته «المتوحّشة» ونهجه الاقتصادي، فبُعثت الاتحادات النقابية حيةً ولُمّعت صور معارضين حتى سطعت كزعامات شعبية. لكن المطلوب كان شيئاً آخر: ف «الهبّة الشعبية» بين 1996 و1998 بإضراباتها الكثيرة وتظاهراتها وصخبها التلفزيوني، إنما جاءت تحضيراً لحدثين داخلي وخارجي: في تلك الفترة، قُرّ رأي النظام السوري على ترئيس إميل لحّود على الجمهورية اللبنانية، وتكثّفت الاستعدادات في الوقت ذاته لتوريث بشار الأسد حكم سورية. كان من المُلحّ، بالتالي، تحجيم الحريري الذي تضخّم دوره وحضوره أثناء ولاية الياس الهراوي الممدّدة حتى بات الشخصية الوحيدة في المشهد اللبناني، وهذا ما فعّل حساسيات طائفية لم يعسر عليها أن تجد أغطية أيديولوجية، مقاوِمة ويسارية وإسلامية. حصل ذلك بعدما عُمّم أن أفكار «رئيس جمعية المعلوماتية» السوريّة، طبيب العيون الشاب المتعلم في الغرب، لا تتّفق مع أفكار الفريق المحيط بأبيه من الحرس القديم، كعبدالحليم خدّام وحكمت الشهابي وغازي كنعان. هؤلاء مالوا إلى الحريري وسهّلوا له الوصول إلى أذن الأسد الأب. النجل أراد أن يعطيه أذناً صمّاء.