تحرق مدينة صيدا الماضي، هي التي يستغرقها الحاضر مثلها مثل معظم المدن والمناطق المسلمة السنّيّة. فإذا بدت زغرتا دائمة التذكّر ليوسف كرم، وبشرّي لخليل جبران، وإذا كانت زحلة وجزّين مفطورتين على استحضار عائلاتهما، فهذه ليست حال صيدا التي تعدو مسرعة من غير أن تلتفت إلى الوراء. وإذ يحوّل الجنوب الشيعيّ ماضي الإسلام الأوّل روايةً تأسيسيّة لصلته بذاته وبالعالم، فصيدا تبقى في حلّ من كلّ تأسيس. وهي، في إحراقها الماضي، تروح تبدع يوماً بيوم قواها وسياساتها بينما تطوي صفحاتها. فقد أصبح رياض الصلح، زعيم صيدا الأوّل في الزمن الاستقلاليّ، نسيّاً منسيّاً. وكانت المدينة قد ودّعته، قبيل مقتله، بأن حجبت أصواتها عنه في انتخابات الجنوب عام 1951، بحيث فاز الصلح بأصوات الجنوبيّين الشيعة التي ضمنها له رئيس اللائحة أحمد الأسعد. وينبئ «شارع رياض الصلح»، حامل اسمه، بما آل إليه الرجل. فبعدما كان أهمّ شوارع المدينة، أعادته الطرق التي شُقّت لتربط صيدا بالجنوب شارعاً «قديماً». أمّا معروف سعد فأضحى شأناً يكاد يقتصر على عائلته وعلى «التنظيم الشعبيّ الناصريّ» الذي يتزعّمه نجله أسامة. وهو، مثل رياض، رسب في آخر انتخابات خاضها في 1972. وقبل أيّام قرابة أسبوعين فقط احتفل أنصاره بالذكرى ال39 لإطلاق النار عليه الذي أودى به بعد أسبوع، فلم تنقل الصحف إلاّ أنّ «مئات» هم «من صيدا ومنطقتها وإقليم الخرّوب والمخيّمات» ساروا من أمام تمثاله إلى ساحة النجمة. ولا تفوت المراقبَ تلك البرودة في التعامل مع أبرز الوجوه التي أنجبتها صيدا: رفيق الحريري. فالأخير، بدوره، انهزمت لائحته في الانتخابات البلديّة لعام 2004، قبل أشهر على اغتياله. صحيح أنّ السوريّين يومذاك استخدموا كلّ أوراقهم وضغوطهم للوصول إلى تلك النتيجة، إلاّ أنّهم نجحوا في ذلك. والراهن أنّ حضور الحريري في طرابلس أو الطريق الجديدة في بيروت يبدو اليوم أشدّ حرارة منه في مدينته، حيث مُزّقت يافطات ل»تيّار المستقبل» رُفعت تكريماً له في ذكرى اغتياله في 14 شباط (فبراير) الماضي. ويُلاحَظ أنّ الصور واليافطات التي لا تزال مرفوعةً ممهورةٌ بتوقيع «تيّار المستقبل»، لا بأسماء روابط عائليّة أو أهليّة أخرى. أمّا المضمون فيشبه كلام المناسبات الجاهز: «في ذكرى استشهادك... صيدا تجدّد العهد بالبقاء أمينة لمبادئ الدستور واتّفاق الطائف»، أو «الرئيس الشهيد رفيق الحريري كان لكلّ لبنان وعمل من أجل لبنان الوطن واستشهد من أجل عزّته واستقلاله». والمسألة، في أغلب الظنّ، أبعد من أنّ أزمة «سعودي-أوجيه» ضيّقت فرص العمل التي يحظى بها صيداويّون في مؤسّسات الحريري. فهذا، من دون شكّ، خلّف امتعاضاً وأطلق موجة من اللوم والعتب. لكنّ أزمة صيدا مع زعمائها أعقد من ذلك، لا سيّما وأنّ الثلاثة، الصلح وسعد والحريري، رحلوا قتلاً واغتيالاً. وفي العادة، يؤجّج القتلُ العواطفَ حيال الزعيم -الضحيّة، وقد يحرّك مشاعر ذنب تجاهه، أو يفتح الباب واسعاً لعمل المخيّلة أسطرةً له أو أمْثَلَة. ويتراءى، في صيدا، أنّ البرودة حيال الزعيم ناجمة عن برودة تقليديّة حيال «الهويّة» وما ترتّبه من ميل صراعيّ يستدعي الزعماء. فربع المليون المقيمون بين الأوّليّ شمالاً وسينيق جنوباً، أقلّ تحسّساً بهويّتهم الذاتيّة من الطرابلسيّين مثلاً، إذ الأخيرون راودتهم طويلاً منافسة بيروت وتزعّم السنّة اللبنانيّين. والحال أنّ «عاصمة الشمال» أكبر مساحةً وسكّاناً من «عاصمة الجنوب»، وهي تتربّع على رأس ريف سنّيّ مماثل لها، فيما يحيط بصيدا ريف شيعيّ يغايرها ويزن أكثر كثيراً ممّا يزن الريف السنّيّ في إقليم الخرّوب. ثمّ إنّ الطرابلسيّين عاشوا تاريخيّاً على أوهام موقع راسخ لهم في الداخل السوريّ، بينما كسر قيام إسرائيل ومأساة الفلسطينيّين، الملموسة جدّاً في صيدا، توهّماً كهذا عند الصيداويّين. وفي فترة لاحقة، وبفعل الإذلال الذي أنزله النظام السوريّ بطرابلس، بدت هويّة الأخيرة جريحة محتقنة، لا سيّما وأنّ الأذى مصدره الأمّ السوريّة. لكنّ صيدا، التي دمّر مسلّحو «فتح» فيها دبّابة سوريّة في ساحة النجمة، عام 1976، لم تشعر بذينك الجرح والاحتقان. وفوق هذا، انفصلت طرابلس فعليّاً عن بيروت، منذ 1975، وتقوقعت على ذاتها، وهو ما لم تعرفه أختها الجنوبيّة الأصغر الموصولة، عبر المقاومة الفلسطينيّة فحزب الله فرفيق الحريري، بالعاصمة الأقرب إليها جغرافيّاً ممّا إلى طرابلس. فلن يكون صعباً بالتالي ملاحظة الفارق في المشهد العامّ، كأنْ تبدو المحجّبات في صيدا أقلّ كثيراً منهنّ في «عاصمة الشمال»، وأن تبدو الوجوه الصيداويّة البارزة، من مفتي المدينة الشيخ سليم سوسان إلى رئيس بلديّتها محمّد السعودي، أشدّ اعتدالاً من زملائهم الطرابلسيّين. وفي بعض خلفيّات تلك المقارنة أنّ الحياة السياسيّة لصيدا لم تشُبْها الحدّة التي شابت سياسةَ الطرابلسيّين، من منازعة عائلتي كرامي والمقدّم التي أودت بعدد من القتلى إلى صعود «دولة» الشيخ سعيد شعبان وهبوطها. العائلات فإذ يُروى تاريخ الصراعات التقليديّة في «عاصمة الجنوب»، بردّها إلى عائلتي البزري والجوهري، قبل أن يصعد معروف سعد منافساً لنزيه البزري، يبدو الرواة مطمئنّين إلى رواية مضبوطة الفصول ومحكومة بنهايات سعيدة. فوفقاً للمحامي حسن شمس الدين، كانت الحياة السياسيّة في المدينة مغلقة تقليديّاً. فلعقود ظلّت المنافسة محصورة بين نزيه البزري ومعروف سعد، لا يفوز واحدهما على الثاني إلاّ بمئات قليلة من الأصوات، علماً بأنّ الاثنين لم يمثّلا زعامتين تقليديّتين. فالبزري ينتسب إلى جبّ فقير في عائلته، بنى زعامته عبر الخدمات الإنسانيّة التي قدّمها كطبيب، فيما كان معروف مفتاحاً انتخابيّاً لرياض الصلح ارتبط اسمه ب «القبضنة» والقتال في فلسطين. ويمضي رجل الأعمال عدنان الزيباوي في تشريح الزعامتين، والتقاطع العريض بينهما، ملاحظاً أنّ البزري في الخمسينات إنّما عبّر عن «صعود متعلّمي الفئات الوسطى في مواجهة رياض الصلح وأغنياء عائلته. صحيح أنّ العائلات التقليديّة التفّت حوله، إلاّ أنّ خدماته كطبيب وفّرت له قاعدة تأييد معتبرة من فقراء المدينة ومحدودي الدخول. أمّا معروف، ولأنّه «قبضاي» قاتل في فلسطين ثمّ أصبح من رموز الناصريّة، فغدا الأشدّ التصاقاً بالمزاج الشعبيّ، لكنّ هذا لم يحرمه أيضاً تأييد عائلات تقليديّة كالأنصاري والبابا وبعض آل قطب». وعموماً، دفعت عناصر عدّة نحو نزع التطرّف عن الحياة الصيداويّة، كما يرى شمس الدين. فقد كان لضيق الحياة السياسيّة أن سدّ الباب على كفاءات حزبيّة وغير حزبيّة انتقلت منذ الخمسينات إلى بيروت. كذلك، حال هذا الاستقطاب دون نموّ أحزاب كالشيوعيّين أو ك «الجماعة الإسلاميّة» (الإخوان) التي انتعشت في الجوار. لكنْ، وكامتداد لزعامة معروف سعد ولناصريّته، استطاعت وحدها الأحزاب القوميّة العربيّة، كحركة القوميّين العرب، وخصوصاً حزب البعث قبل صدامه مع عبد الناصر في 1959-1960، أن تتمدّد. فقد تحوّل البعث، وفقاً للزميل نهاد حشيشو، «قوّة أولى في المدينة»، وكان يلتفّ حول القياديّ النقابيّ حسيب عبد الجواد. بيد أنّ ذاك الصعود القوميّ العربيّ ضبطه التحالف الشهابيّ – الناصريّ، وحدّ من جموحه، فيما كان معروف سعد الأكثر تعبيراً عن التحالف المذكور وشخصنةً له. التفاؤل القويّ وفي السيرة تلك يُلاحَظ أنّ ثلاثة من «أبناء الفقراء»، هم نزيه البزري ومعروف سعد، ثمّ رفيق الحريري، وصلوا إلى المواقع القياديّة في مدينتهم، ما يعزّز ثقة الواثقين بحِراك اجتماعيّ سلميّ تسير الأمور بموجبه سيراً طبيعيّاً. وهذا، في عمومه، ما غذّى ميلاً إلى التفاؤل مسحوباً إلى يومنا هذا، وهو تفاؤل لا تشذّ عنه إلاّ القلّة. فالشيخ ماهر حمّود، مثلاً، يرى أنّ أحوال صيدا الراهنة «جيّدة جدّاً بالمقارنة مع لبنان، فهنا أمان وتوافق سياسيّ»، ولا يلبث أن يضيف: «فإذا انحلّ الوضع السوريّ، وهو يبدو ذاهباً إلى الحلّ، ازدادت الأمور تحسّناً». ومن موقع سياسيّ مختلف، يرى المحامي محمّد علي مقلّد وبعض أصدقائه من تجّار ورجال أعمال ومثقّفين أتيح لنا أن نلتقيهم، أنّ أسباب الاطمئنان إلى صيدا ومستقبلها كثيرة، في عدادها ضعف الشعور الطائفيّ واعتدال سائر المشتغلين بالشأن العامّ فيها. أمّا عدنان الزيباوي، فيذهب إلى أنّ «لا مخاوف إلى هذه الدرجة»، وأنّ المدينة الآن «شرعت تتجاوز الحدّة الطائفيّة». وهو يميل إلى التفاؤل من موقع استهواله أيّ صدام مسلّح قد يطرأ. ذاك أنّ حدثاً كهذا «سيكون أشرس وأقسى من الصدام المسلم – المسيحيّ منتصف الثمانينات، نظراً إلى الاختلاط السكنيّ حيت تنعدم خطوط التماسّ». وإذ يشدّد الزيباوي على أنّ القوى السياسيّة كلّها، بما فيها حزب الله، واعية لخطورة ذلك، يخالف المحامي خالد لطفي تفاؤل المتفائلين، فيعتبر أنّ الوضع «لم يكن مرّة أسوأ منه الآن»، من دون أن يبدي الثقة التي يبديها الآخرون بقدرة القوى السياسيّة على الضبط والتحكّم. شيعة المدينة والحارة كائناً ما كان الأمر، يبقى من الصعب ألاّ تُرى صيدا ضمن المناخ العريض من تنازع سنّيّ – شيعيّ يشقّ العالم الإسلاميّ ويخضّه. فكيف وأنّها الجسر بين بيروت والجنوب الذي تُسمّى «بوّابته». وغنيّ عن القول إنّ حاجة حزب الله لإبقاء هذا الجسر مفتوحاً، وضمان سيولة التواصل بين الجنوب والضاحية الجنوبيّة، يضاعفان التنبّه إلى تلك الوظائف الصيداويّة. والحال أنّ ما قوّى الميل الصيداويّ إلى التفاؤل ذاك السجلُّ الناصع تقليديّاً عن التعايش السنّي – الشيعيّ في المدينة. فلسنوات مديدة، بحسب عدنان الزيباوي، لم يكن ممكناً تمييز السنّيّ عن الشيعيّ، ولا التمييز بين مقبرة للسنّة ومقبرة للشيعة. ويرى طبيب الأسنان فادي الأمين، الجنوبيّ الذي عاش وعمل طويلاً في صيدا، أنّه لا يشعر حتّى اليوم بمشكلة سنّيّة – شيعيّة. ف «80 في المئة من مرضاي سنّةٌ، علماً بأنّ عائلات بعضهم فيها أطبّاء أسنان». والرأي هذا مشترك بين كثيرين في دائرة البيزنس ومهنيّين ومتعلّمين. فصيدا، بوصفها السوق التقليديّة للجنوب، إنّما نمت في علاقتها مع شيعته. ولئن استثمر الأغنياء الصيداويّون في الجنوب، فإنّ «بورجوازيّتهم، على عكس نظيرتها الشيعيّة، قليلة التسيّس والأدلجة»، وفقاً للأمين. وهناك مصاهرات بين المذهبين شملت معظم الأُسر السياسيّة، فضلاً عن التجاريّة، بمن فيهم عائلتا البزري وسعد، كما تسلّلت إلى طبقات وفئات أدنى كعباً، ما دلّ إليه «اكتشاف» الأمّ الشيعيّة للشيخ أحمد الأسير نفسه ولكثيرين من مريديه. ويعيدنا الزيباوي إلى مرحلة كانت «حركة القوميّين العرب» في الخمسينات تجمع سنّة وشيعة، وكان أغلب قياداتها، كالمحامي مصطفى صالح وحسين الدرويش وسواهما، شيعة من حارة صيدا الشيعيّة، كما كانت قرية الغازيّة الشيعيّة أيضاً، إلى الجنوب من المدينة، شريكة في تظاهراتها ونشاطاتها القوميّة العربيّة. وعلى العموم، لم تكن التنظيمات السياسيّة التي نمت في صيدا راديكاليّة من حيث المردود الأهليّ لعملها أو لدعاوتها. فحتّى «الجماعة الإسلاميّة» تحوّلت، مع الطائف، على ما يشير المحامي محمّد علي مقلّد، حزباً سياسيّاً برلمانيّاً يتقيّد باللعبة السياسيّة. وإذا وضعنا حارة صيدا جانباً، وسكّانها يقاربون الثمانين ألفاً، قُدّر عدد الشيعة في المدينة بما بين 10 و15 في المئة من سكّانها، وهم خمسة آلاف ناخب من أصل نيّف وخمسين ألفاً، ترقى هجرتهم إلى مطالع القرن العشرين. فهم بدأوا حينذاك يغادرون قراهم ويفدون إلى «عاصمة الجنوب» مقيمين حول بيت علي «أفندي» عسيران، جدّ رئيس المجلس النيابيّ الراحل عادل عسيران، الذي ورث عن أبيه قنصليّة إيران وكان من أغنى أغنياء زمنه. وتدريجاً تحوّل مكان إقامتهم الجديد إلى ما بات يُعرف ب «حيّ رجال الأربعين»، من دون أن يقتصر الحضور الشيعيّ في صيدا عليه وحده. ذاك أنّ التداخل السكنيّ غدا من سمات المدينة وممّا تتباهى به في مناسبات التباهي اللبنانيّ بالتعايش والتسامح. إلاّ أنّ الرضوض شرعت تظهر مع اغتيال رفيق الحريري، خصوصاً حين وقف حزب الله إلى جانب سورية وكرّم أمينُه العامّ رستم غزالة ثمّ دافع عن «الضبّاط الأربعة» وهاجم المحكمة الدوليّة. هكذا بدا حزب الله للكثيرين من الصيداويّين كأنّه مع الاغتيال، وقد حصل هذا «فيما لا يزال قتيلنا في الأرض» بحسب أحدهم. لكنْ حتّى بعد اغتيال الحريري، ظلّ من الصعب إقناع الصيداويّين بالوقوف ضدّ حزب الله. فهم لا يمكنهم إلاّ أن يكونوا في صفّ المقاومة والصراع مع إسرائيل. هكذا، وكما يرى شمس الدين، فإنّ «التحالف الرباعيّ» خاطب مزاجهم الباحث عن التوافق بما لا يُخرجهم من كتلة المقاومة العريضة. غير أنّ حزب الله لا يقنع بالقليل. فتعاليه، والأصابع السبّابة لحسن نصر الله ونعيم قاسم، ولغة «لن نسمح» و «لن نتسامح»...، نفّرت الصيداويّين بمن فيهم الذين أحبّوا الحزب بسبب المقاومة فجعلوا يتحوّلون عنه. وكانت «سرايا المقاومة» التي أنشأها الحزب لتكون واجهة صيداويّة له، وتضمّ بضع مئات من المقاتلين أكثريّتهم شيعيّة، تذكيراً يوميّاً بانزعاج السكّان. ف «السرايا» تلك تضمّ شبّاناً عاطلين من العمل تحوّلوا عبئاً على أمن المدينة واستقرارها، حتّى أنّهم اصطدموا، قبل أشهر، مع حليف الحزب أسامة سعد وتنظيمه الناصريّ. وفي هذه الغضون كان ما يزعج الصيداويّين من محدودي الدخل أنّ جنوبيّين قدموا إلى المدينة بعد حرب 2006 اشتروا محلاّت تجاريّة تبيع الألبسة أو تدير مصالح ووكالات صغرى كان يحتكرها صيداويّون سنّة. ولمّا كانت التعويضات التي دُفعت عن حرب تمّوز هي بعض ما استُثمر لإقامة تلك المحلاّت والمصالح، شاع محليّاً أنّ حزب الله هو الذي يشتري ويبيع، وانتشر خلط واسع يربط كلّ شيعيّ بالحزب المذكور. هذا التذمّر تركّز في بيئات المدينة الأفقر والأكثر تهميشاً، وفي أوساط أصحاب المصالح الصغرى ممّن باتوا الأكثر حذراً حيال الشيعة، إن لم يكن عداء لهم. ففي بيئات كهذه تبلورت المشاعر الأشدّ حدّة التي راح يعبّر عنها ويؤجّجها الشيخ أحمد الأسير. وجاء الهجوم على بيروت في 2008 ليضاعف المرارة في صيدا التي اقترعت بغزارة، بعد عام واحد، لبهيّة الحريري وفؤاد السنيورة. لكنْ حتّى ذلك الحين لم يظهر على الشيعة، بحسب نهاد حشيشو وفادي الأمين، أيّ خوف أو قلق يحملان على التفكير في مغادرة المدينة. مع هذا، راحت النُذر تتجمّع وتتكاثر. ففضلاً عن ظاهرة أحمد الأسير، كان من حاول تفجير السفارة الإيرانيّة في ضاحية بيروت الجنوبيّة شابّاً صيداويّاً اسمه معين أبو ضهر، وظهر اسما الصيداويّين حسن ومحمود أبو علفه في الملفّ الخاصّ ب «كتائب عبد الله عزّام». وإذ رحل عن حارة صيدا معظم الصيداويّين السنّة المقيمين فيها، باتت الحارة مثل الضاحية الجنوبيّة في صورها وشعاراتها وملصقاتها. ولم يعد مستهجَناً سؤال الصيداويّ عمّا إذا كان مخيّم عين الحلوة الفلسطينيّ، القريب من الحارة في الجنوب الشرقيّ للمدينة، سبباً للاطمئنان حيال تمدّد شيعيّ. صحيحٌ أنّ الصيداويّ المتوسّط لا يزال ينفي احتمالاً كهذا، مستبعداً أن تؤول مدينته إلى ما آلت إليه مدينتا صور وبعلبك اللتان تحوّلت أكثريّتهما من سنّة إلى شيعة. لكنّ الصحيح أيضاً أنّه بات يسمع السؤال ويفكّر فيه ويُطرق قليلاً قبل أن ينفي. وفي هذا ما يشير إلى احتمالات مفتوحة أمام تسخين الهويّة الصيداويّة الباردة تقليديّاً.