نشأ الفكر القومي العربي ضمن ظروف تاريخية معينة، واعتمد عناصر معينة في نهاية القرن التاسع عشر، ثم مرت الامة باحداث ومتغيرات كثيرة، لكن المتابع لشؤون الفكر القومي يجد قصورا كبيرا في مراجعته لأصوله التي قام عليها وعناصره التي اعتمدها، ويمكن ان نوضح ذلك من خلال تطور "حركة القوميين العرب". بلور ساطع الحصري نظريته في القومية بعد الحرب العالمية الاولى، فمال الى النظرية الالمانية التي تمجد اللغة وتعتبرها عنصراً رئيسياً في تكوين الامم، واعتبر الحصري ان القومية العربية تقوم على ركنين هما: اللغة والتاريخ، فاللغة روح القومية، والتاريخ ذاكرتها، وفند النظريات الاخرى كنظرية المشيئة الفرنسية في اكثر من مكان من كتبه، كما همش العناصر الاخرى للقومية كالعنصر الاقتصادي، والاتصال الجغرافي، وعنصر المصلحة المشتركة الخ...، ولم يعتبر الدين بحال من الاحوال عنصراً بانياً للقومية، بل كان علماني التوجه في مراحل حديثه عن القومية. وأثرت آراء ساطع الحصري القومية في معظم التيارات والاحزاب والشخصيات الفكرية بسبب غزارة انتاجه من جهة، وتبوئه مراكز ادارية وتربوبة عالية في كل من العراق وسورية والجامعة العربية من جهة ثانية، ومن ابرز الامثلة التي تؤكد تأثيره القوي في الساحة العربية اخذ حركة القوميين العرب بنظريته في القومية العربية واعتبارها اللغة والتاريخ العنصرين الرئيسيين في تكوين القومية. وأعطى النشوء المتأخر نسبياً لحركة القوميين العرب والذي جاء بعد نكبة فلسطين عام 1948 فرصة لها لاعادة النظر والمراجعة والتقويم والنقد لما طرحه المفكر القومي ساطع الحصري في ضوء التجربة التاريخية ما بين الحربين العالميتين، لكنها لم تفعل ذلك، واستكملت ما ينقصها في معالجة الواقع باعتماد افكار شخصيتين اخريين في المجال القومي هما قسطنطين زريق وعلي ناصر الدين اللذان ليسا بعيدين في تفكيرهما عن ساطع الحصري كما أوضحت الكاتبة سهير سلطي التل في كتابها "حركة القوميين العرب وانعطافاتها الفكرية"، فقد اخذت من الاول مفهوم النخبة والتنظيم والحركة في جانبها الخارجي، واخذت الحركة من الثاني مفهوم الثأر من اسرائيل ومفهوم التاريخ كسلسلة متصلة الحركات وحدود الدولة القومية. ومرت حركة القوميين العرب، بالاضافة الى مرحلة النشوء والتكوين، بمرحلتين اخريين هما: المرحلة القومية الاشتراكية، ومرحلة التحول الماركسي. وجاءت المرحلة القومية الاشتراكية انعكاساً للمد الناصري القومي، فقد ظهرت في هذه المرحلة المقولات الاشتراكية وابرزها نظرية العمل الثوري التي تستمد منهجيتها من الفكر ومادتها من الواقع. ونقطة انطلاق نظرية العمل الثوري العربي هي الايمان بالشعب قوة للثورة وقاعدة لصنع النهضة، وقد رأت الحركة ايضاً تأثراً بالمقولات الاشتراكية ان اداة العمل الثوري حركة شعبية واسعة تضم التنظيمات والمؤسسات الحزبية والعقائدية والتنظيمات الشعبية كافة في اطار الخط الاشتراكي، وتعمل من خلال لقاءاتها المستمرة على بلورة الاداة التنظيمية للنضال العربي على افضل الأسس واكثرها رسوخاً. وفي هذه المرحلة تابعت الحركة استلهام الاعلام الثلاثة: ساطع الحصري وقسطنطين زريق وعلي ناصر الدين على صعيد المفاهيم القومية الشائعة. وجاءت مرحلة التحول الماركسية في حركة القوميين العرب صدى لنكسة حزيران يونيو 1967 . اعادت الحركة صياغة شعاراتها متأثرة بالماركسية فاستعاضت عن مفهوم الحرية بشعار مفهوم التحرير الذي يعني التحرير من الاقطاع وعلاقاته المتخلفة، والاستعمار وسيطرته، ومن الطبقات والفئات والمراتب الاجتماعية وقواها السياسية الرجعية. واستعاضت عن مفهوم "الثأر" و "العنف المنظم" بتعبيرات مثل: الكفاح المسلح، حرب التحرير الشعبية، الحرب الطويلة المدى، حرب العصابات الخ...، وحللت الحركة الاستعمار تحليلاً طبقياً اقتصادياً، فربطته بالامبريالية "اعلى مراحل الاستعمار" وفسرت الحركة الديموقراطية بلغة الماركسية اللينينية فاعتبرتها ديكتاتورية العمال والفلاحين التي تحجب الحرية عن الطبقات المستغلة، وقد ربطت الحركة الديموقراطية بمفهوم الاشتراكية، اذ تعني الاشتراكية الغاء الطبقات واقامة مجتمع لا طبقي وفرض سيادة الطبقة العاملة على المجتمع. اما مفهوم الوحدة فانتقل ليحتل المرتبة الاخيرة في شعارات الحركة بعد ان كان يحتل المرتبة الاولى. والوحدة تحولت في هذه المرحلة من الوحدة المطلقة بأبعادها المثالية الى وحدة ذات اساس موضوعي مادي، هو وحدة الطبقة العاملة واداتها: الوحدة الاقتصادية القادرة على الغاء الدور الاستعماري. مرت حركة القوميين كما رأينا بثلاث مراحل: القومية، القومية الاشتراكية، الماركسية، وطرحت في المرحلتين الثانية والثالثة مقولات جديدة استمدتها من الفكر الاشتراكي والماركسي، وانتقلت الى الفكر الاشتراكي الماركسي من دون ان تراجع الفكر القومي الذي نشأت عليه، وتجاوزته باتهامات عامة، مع انه كان الاولى ان تقوم بمراجعته، ودراسة عناصره التي قام عليها، وفرز الصحيح والمناسب من غير الصحيح وغيرالمناسب. وتعديل عناصره التي قام عليها ان كانت هناك حاجة لهذا التعديل، وتقويم مدى مناسبته لظروف المنطقة آنذاك، وتمحيص الموقف من التراث والدين ودراسة مدى صوابيته، والبحث في امكانية تغييره في ضوء الحاجة الى هذا التغيير الخ... لم تقم الحركة بكل هذه المراجعة او ببعضها على الاقل مما فوت الفرصة عليها لاغناء الفكر القومي ووضعه في مساره الصحيح من جهة، ووضع المنطقة على طريق النهضة من جهة ثانية، لأنه ما كان لها ان تنهض من دون القيام بمراجعة اصول الفكر القومي العربي وعناصره التي قام عليها، وتعديلها بما يتفق مع تراث المنطقة وحضارتها، وخصوصاً ان هذا الفكر كان في موضع القيادة مع حدوث الزلزالين اللذين هزا الامة وهما: قيام دولة اسرائيل عام 1948، وحدوث النكسة عام 1967. * كاتب فلسطيني.