الفكرةُ التي خامرتْ ساطع الحصري ورافقت إنتاجه لقرابة نصف قرن (إنتاج نظرية في القومية العربية)، هي عينُها التي ستسكن نديم البيطار وتأخذ عليه لبّه ووقته طيلة سنوات الستينات والسبعينات - وبعض سنوات الثمانينات - من القرن العشرين. ولكن، بينما كان الحصري مندفعاً الى بناء نظرية في الأمة وعوامل تكوينها، وإلى إقامة الدليل على وجود أمة عربية في وجه من يجحدون ذلك الوجود، انصرف نديم البيطار الى العمل على إنتاج نظرية في الوحدة العربية غير آبه بما اذا كان مثل هذه النظرية يستدعي حُكماً إقامة الدليل على وجود الأمة التي نريد التفكير في وحدتها. وهكذا لم يكن للمشترَك العقدي (الإيديولوجي) بين الرجلين (التوحيد القومي)، ولا للمشترَك الفكريّ (البناء النظري)، ان يمنع الاختلاف بينهما في المقاربة المنهجية وفي عدّة الأدوات المستخدمة في المقاربة. قاد الاختلاف في الموضوعة الى اختلاف في الفرضيات ووسائط المقاربة - وبالتالي - الى اختلاف في النتائج والرؤى. فرض التفكير في الأمة على ساطع الحصري مقاربة ثقافية للمسألة القومية العربية توزّعت بين العناية بالموروث (اللغة، الثقافة، التاريخ) وبيان آثاره في التكوين القومي، و(بين) استدعاء امثلة من التاريخ الحديث قصد الاستدلال بها على الفرضية. أما التفكير في الوحدة، فأخذ نديم البيطار الى شكل صريح من التحليل السياسي للديناميات التي تصنع عملية التوحيد القومي على نحو أعرض فيه عن التفكير في ما قبل السياسة، أي في جملة العوامل التي صنّفها تحت عنوان العوامل الإعدادية (أي غير الأساس) التي قد تساعد – في أفضل أحوالها – على التمكين لعملية التوحيد، لكن من دون ان تكون حاسمة او يتوقف التوحيد عليها، وفي جملتها اللغة والثقافة والتاريخ... الخ التي أقام الحصري صرْح أطروحته القومية عليها. نحن امام مفكّريْن هما الأعلى كعباً في الفكر القومي العربي، ولا يضاهيهما في المكانة والتأثير الفكري وسعة الاطلاع سوى قسطنطين زريق. والجامعُ بينهما – بل بين الثلاثة – منهجاً وخلفية تفكير (هو) التاريخ. لذلك ما كان صدفة انّ اصداء التاريخ وتجاربه ووقائعه تتردد في كتاباتهم وتحتل حيزاً استدلالياً مرموقاً. إذ الدفاعُ عن اية أطروحة قومية، وكائنة ما كانت المنطلقات الفكرية والمنهجية، مما لا يكون من دون التوسل بدلائل التاريخ وسوابقه وتحكيمها للفَصْل والبتّ أو البيان. على ان نديم البيطار يزيد على صاحبيه بقدر غير يسير من العلم بنظريات علم الاجتماع السياسي وبمنزع تنظيريّ قل نظيره في الفكر القومي العربي، وهو ما أضفى على نصوصه القومية مسحة من الغنى المعرفيّ والتماسُك النظري لا يضارعُهُ فيها غيره من أترابه. ويمكن القارئ في نصوص هؤلاء الثلاثة الكبار ان يلحظ ان علمانية الحصري الحادة وليبرالية قسطنطين زريق الفاقعة حالت دونهما والاستئناس بتجارب التاريخ الثوري المعاصرة لفهم ديناميات التوحيد القومي في حقبة ما بعد القرن التاسع عشر (البلشفية، الصينية، الفييتنامية، اليوغوسلافية...)، وحالت دونهما والتفاعل الحي واليقظ مع موضوعات الفكر الماركسي في المسألة القومية. أما نديم البيطار، الذي لا يقل عنهما تشبّعاً بالعلمانية والليبرالية، فلم يخطئ بناء الصلة الصحيحة بتلك التجارب الحديثة ودروسها وبالمرجعية الفكرية الماركسية – والراديكالية عموماً – في وعي المسألة القومية. وقد لا يشبهه في هذا المنحى سوى ياسين الحافظ وإلياس مرقص وإن هو لم يتمذهب مثلهما بالماركسية. ويردّ هذا التمييز بين البيطار والحصري وزريق، على صعيد صلة كل منهم بمرجعيات الفكر المختلفة والنظريات السياسية المتنوعة، إلى نوع الميزان الذي يزن به كلّ مفكّر من هؤلاء – ومن غيرهم – موقفه من المسألة القومية العربية. وفي هذا نملك ان نلحظ ما يلي: إذ كان الانحياز الإيديولوجي للفكرة القومية العربية يجمع بين البيطار والحصري وزريق، فإن نسبة ما هو إيديولوجي في هذا الانحياز تتفاوت بين الثلاثة المشار إليهم. ففيما هي تقل في حالة البيطار، تزيد عليها قليلاً عند قسطنطين زريق، وتزيد أكثر عند ساطع الحصري. والنسبة تتدرّج – قطعاً – نحو الأعلى كلما انتقلنا من هؤلاء الى آخرين: تعلو عند عصمت سيف الدولة، وتصبح أعلى عند عبدالله الريماوي وميشيل عفلق وصلاح البيطار، لتبلغ الذورة عند زكي الأرسوزي. ومن النافل القول ان منسوب الموضوعية و «العلمية» يرتفع بالتلازم مع هبوط مؤشر الاعتصاب الإيديولوجي للفكرة الواحدة والوحيدة في أي نص من نصوص هؤلاء المشار إليهم. لدينا على هذا الحكم قرائن وأدلة من نصوص نديم البيطار وساطع الحصري وقسطنطين زريق. أول الأدلة ان ما يبدو في عداد البداهات عند الحصري وزريق – وخاصة الأول منهما – يقع في حكم الفرضيات عند نديم البيطار. فالأمة السابقة وجوداً للدولة يقينية من يقينيات الحصري – وإلى حد ما زريق – بينما هي فرضية لم يقم عليها دليل من التاريخ في نظر البيطار. وثانيها ان العودة بالأمة الى نواتها الثقافية المتحدرة من مواريث الماضي، كما عند الحصري، يشبه تأسيساً لتاريخ ما قبل – الأمة واطراحاً لمعناها الحديث المتبلور في عصر القوميات وتجارب قيامها، وهو ما يرفضه البيطار المتمسك بنظرة عصرية وسياسية للأمم والقوميات. وثالثها ان الحصري وزريق ظلا منحصرين في نطاق منظومة الفكر السياسي الليبرالي – على رغم تفوق رؤية زريق في هذا الباب – ومباعدين لأية منظومة فكرية أخرى (الماركسية مثلاً)، فيما وسّع نديم البيطار دائرة علاقاته بمرجعيات الفكر الإنساني الحديث والمعاصر، فأعفى نفسه من اتباعية نظرية يفرضها الاعتصام بمصدر فكري واحد ومنهج في النظر واحد. حين أصدر نديم البيطار كتابه «من التجزئة الى الوحدة» قبل نيف وثلاثين عاماً، أراد كتابه محاولة على طريق «الوصول الى نظرية وحدوية علمية جامعة» يصبح في الوسع بمقتضاها بيان طريق التطور نحو دولة الوحدة من خلال «تحديد العملية الموضوعية التي كان يتم فيها الانتقال من حالة تجزئة الى حالة وحدة». لم يكن هذا الكتاب، في الحقيقة، أول نص تلحّ فيه فكرة النظرية على البيطار، لكنه – قطعاً – أكثر نصوصه انشغالاً بالفكرة، وهو – على وجه اليقين – ارفعها تنظيراً وسعة إحاطة بالظاهرة القومية والوحدوية. ولعله اقلها أدلجة وتسييساً لئلا نقول أكثرها علمية. ولسنا نتزيّد ان ذهبنا الى القول انه من اكثر نصوص الفكر القومي العربي رصانة، خلال القرن العشرين، إن لم يكن أكثرها بإطلاق. لم نتعمّد، في هذه الفقرة (السابقة) استعمال لغة المقادير والتفضيل المعياري (أكثر، أقل، أرفع، أوسع...) وإنما فرضتها مناسبة المضاهاة والمقارنة. إذ لا يملك القارئ في نصوص الفكر القومي العربي، من منظور مقارن، غير ان يلاحظ حالة التفوق المعرفي للبيطار على مجايليه وسابقيه من المثقفين القوميين العرب، ولا يملك – معها – غير ان يجد نفسه مدفوعاً الى وصف الفارق بينه وأترابه بالمفردات المناسبة: مفردات التكميم الرياضي والتمييز المعياري. على ان نديم البيطار نفسه فطن الى ما يميزه معرفياً عن غيره ممن قاسموه الهاجس الأيديولوجي والسياسي (القومي) نفسه، فطفق يبحث لدوره المعرفي عن نصاب مفاصلة مع أدوار غيره من الشركاء في ميدان الفكر القومي. واذ هو عثر عليه في الدعوة التي انفرد بها، الى تأسيس نظرية علمية وحدوية تخرج بها فكرة الوحدة من الحيز الأيديولوجي – الدعوي الى الحيز النظري المعرفي، وجد نفسه مدفوعاً الى تبرير الدعوة من طريق مساجلة الوعي الأيديولوجي القومي وبيان قصوره وتهافته وعجزه عن توفير القاعدة النظرية الضرورية لفكرة الوحدة العربية. من يقرأ أحكام نديم البيطار على الفكر القومي العربي، وعلى الفكر الثوري العربي عموماً، يلحظ المقدار الهائل من الحدة والقسوة اللتين تنطوي عليهما تلك الأحكام فالفكر هذا – في عبارته عنه – يتميز ب «طبيعة تبشيرية» من حيث انه «ينطلق... من مجردات ومفاهيم أخلاقية وميتافيزيقية، ويدور حول رغبات ذاتية يحاول فرضها على الواقع الاجتماعي التاريخي...». انه يعاني، بهذا المعنى، من نقص حاد في الموضوعية والعلمية، بل هو يتميز على هذا الصعيد «بتخلف علمي هائل» اذا ما قيس بغيره، حتى ان البيطار لم يجد حرجاً في الاستنتاج انه «ليس هناك في العالم الحديث كله من فكر أكثر عمقاً وتخلفاً من هذا الفكر، وأكثر منه عجزاً عن مجاراة أو استيعاب العقل الحضاري الحديث». وبصرف النظر عما يمكن أن يكون في مثل هذه الأحكام القاسية من تعميم وحيف، فإن في القول بها جرأة نقدية ليست مألوفة في الفكر القومي من ناحية، وتطلع الى مجاوزة عوائق هذا الفكر من ناحية ثانية. ما الذي تعنيه علمية الفكر عند البيطار: هذه التي يدعو اليها ويسعى في تأسيسها، ويؤاخذ الفكر القومي العربي على الذهول عنها؟ انها تعني عنده، في المستوى النظري، التسليم بالقاعدة المعرفية التي تفيد بأن الظواهر الاجتماعية «تخضع لموضوعية مستقلة خاصة بها» شأنها في ذلك شأن الظواهر الطبيعية، وان هذه الموضوعية «تكشف عن ذاتها في قوانين أو علاقات انتظامية تسودها، وان حرية الإنسان ترتبط الى حد كبير بإدراك هذه الموضوعية». وأول ما تعنيه هذه القاعدة أن الوحدة – وهي ظاهرة اجتماعية – تفرض النظر اليها والتفكير فيها على هذا المقتضى، أي بما هي ظاهرة تحكمها قوانين موضوعية منتظمة لا سبيل الى فهمها أو تحقيقها من دون حسبان فعل تلك القوانين وأحكامها. أما علمية الفكر القومي العربي، فتتحقق من طريق تبين تلك القوانين وبيانها. ما برر نقد نديم البيطار للفكر القومي العربي، ولما عده منزعاً ايديولوجياً غلاباً فيه، هو – بالذات – انصراف هذا الفكر عن وظيفته المعرفية المفترضة: الكشف عن القوانين الحاكمة لظاهرة التوحيد القومي في التاريخ المعاصر وإنتاج نظرية علمية خاصة بالظاهرة في الواقع العربي، تأخذ في الحسبان موضوعية تلك القوانين وعموميتها من جهة، وطبيعة حضورها واشتغالها في هذا الواقع العربي من جهة ثانية. ذلك ان هذه الوظيفة، في تقدير البيطار، وحدها تمنح هذا الفكر مشروعيته التاريخية. اذا كانت علمية تفكير ما تبدأ من تسليمه بموضوعية الظاهرة الاجتماعية وانتظام أمرها على مقتضى قوانين حاكمة لها، على نحو ما يرى نديم البيطار بحق، فإن علمية الفكر القومي العربي لا تقبل شذوذاً عن هذه القاعدة. انها لا تستقيم من دون التسليم بأن التوحيد القومي – وهو مسألتها الرئيسة – ظاهرة اجتماعية وتاريخية محكومة بقوانين موضوعية مستقلة، درجة ما من الاستقلال، عن الرغبة والإرادة الذاتيتين. يتوقف النجاح في إنجاز عملية التوحيد القومي أو الإخفاق فيه على حسن – أو سوء – وعي تلك القوانين وطريقة بناء المشروع السياسي التوحيدي على مقتضاها. ليست الإرادة – في هذا المضمار – فاعلاً عديم التأثير والفائدة، لكن هامشها ضيق ان قورن بما لتلك العوامل الموضوعية من مساحة تأثير واسعة، بل ان الإرادة إياها لا تملك ان تؤثر على النحو الأفعل او المناسب الا متى ركبت على معطيات تلك القوانين وأصبحت في جملة وسائطها وأدوات إنفاذ أحكامها. يميز نديم البيطار بين نوعين من القوانين الحاكمة للتوحيد القومي: يسمي الأول منهما قوانين أساسية، ويطلق على الثاني اسم قوانين إعدادية. وإذا كان في إفراده النوع الأول منها باسم «الأساسية» ما يفيد بأنها ذات الأثر الحاسم في سيرورة التوحيد ذاك، فإن تسميته النوع الثاني منها ب «الإعدادية» بدلاً من «الثانوية». هي مقابل لفظي ودلالي ب «الأساسية» – ما يعني أنها ليست هامشية التأثير في حسبانه، وانها الى الدور التمهيدي أقرب منها الى الأدوار الإضافية النافلة، او قل انها تكون عنده – بهذا المقتضى – بمثابة عوامل مساعدة تترجح فاعليتها وتأثيراتها كلما توافرت العوامل الأولى الأساس وتتضاءل قيمتها العملية كلما افتقرت عملية التوحيد الى العوامل الأساس تلك. ويحدد البيطار قوانين التوحيد القومي الأساسية في ثلاثة قوانين: «وجود إقليم – قاعدة يرتبط به ويتمحور حوله العمل الوحدوي»، و « وجود قيادة مشخصنة تستقطب مشاعر الشعب»، و «وجود مخاطر خارجية تولد الضغوط والتحديات التي تدفع الى الاتحاد». أما القوانين الإعدادية، فعديدة ووافرة وتتشكل من طيف من العوامل مثل «تماثل الأنظمة السياسية في البلدان المدعوة الى الاتحاد»، و «تماثل المفاهيم والتصورات الإيديولوجية»، و «التعاون في استثمار مورد أو منتوج واحد»، و «انحسار أو ضعف التشكيلات الحزبية والحركات المحلية»، و «الإسهام الشعبي في العملية الوحدوية»، و «التجاور الجغرافي»، و «توافر لغة واحدة»... وبينما تمثل القوانين الأولى «الأساس الذي من دونه لا وجود لاحتمال تحقيق اتحاد سياسي» فإن الثانية «لا تستطيع، على رغم الأهمية التي قد تنطوي عليها، ان تقود الى وحدة كيانات مستقلة او مجتمعات مجزأة، ان لم تتوافر لها تلك القوانين الأساسية». * كاتب من المغرب