الحملة الاعلامية العنيفة والواضحة والقاطعة، التي عارض فيها قادة السلطة الفلسطينية اقتراحات رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك، تذكر تماماً بالحملة العنيفة والواضحة والقاطعة التي عارضوا بها خطة نتانياهو حين اقترح اعادة انتشار في الضفة الغربية بنسبة لا تتجاوز 5 في المئة، بينما كانوا هم يطلبون نسبة تتجاوز 30 في المئة. وللتذكير فقط، اسفرت الحملة الفلسطينية ضد مشروع نتانياهو عن وساطة اميركية اقترحت اعادة انتشار بنسبة 1.13 في المئة، وهي وساطة رفضها نتانياهو بشدة، ووافق ارضاءً لاميركا ان يرفع النسبة الى 10 في المئة، وحين تواصل الضغط الاميركي عليه اخترع صيغة "المحمية الطبيعية"، وقال انه يوافق على النسبة الاميركية شرط ان يكون 1.3 في المئة منها محمية طبيعية لا يجوز فيها البناء او التعمير او السكن. واختار لهذه المحمية الطبيعية منطقة خالية من السكان في غور الاردن. يومها تراجع المفاوض الفلسطيني وقبل المبادرة الاميركية، وتمترس عندها ثم، وفي جلسة واحدة في البيت الابيض جمعت عرفات ونتانياهو، تراجعت القيادة الفلسطينية حتى عن المبادرة الاميركية، وقبلت صيغة نتانياهو، ولم تجد الادارة الاميركية مبرراً للدفاع عن مبادرتها، وسهل ذلك كله ولادة اتفاق "واي ريفر". اليوم… يتكرر الامر نفسه، فالحملة الفلسطينية ضد مشروع باراك، الذي يرفض تنفيذ اتفاق "واي ريفر"، كانت حملة قاسية بمواقفها وتعابيرها الصارمة، واستمرت الحملة شهراً كاملاً، الى ان تم الاعلان قبل ايام عن الموافقة على خطة باراك. اما لماذا كانت المعارضة، ولماذا جاءت الموافقة، فلا احد يدري. الشائع عن خطة باراك انه يريد، حسب قوله، تنفيذ "واي ريفر" حرفياً. ولكنه يطلب، اولاً، تأجيل التنفيذ لبضعة اسابيع، ودمج مرحلة الانسحاب الثالثة مع المفاوضات النهائية. وما يتم اخفاؤه وعدم التركيز عليه في الاعلام، ان باراك يريد ايضاً، وبشكل اساسي تغيير خرائط اعادة الانتشار التي اعدت ايام نتانياهو، فهو يريد مثلاً تغيير خارطة المحمية الطبيعية، لأن خارطة حكومة نتانياهو تجعل هذه المحمية متصلة مع الارض الاردنية، وباراك لا يريد لأرض السلطة الفلسطينية ان تكون على اي تماس مع اي ارض عربية مجاورة لها. وهذا اكله على اهميته يطرح سؤالاً من جانب آخر. لماذا ترفع السلطة الفلسطينية الصوت عالياً جداً، ضد اي تغيير اسرائيلي في الاتفاقات الموقعة، ثم تعود دائماً للموافقة عليها؟ لا يوجد تفسير لذلك سوى ان هذه التصريحات ذات الصوت المعارض العالي موجهة لنا نحن المواطنين الفلسطينيين والعرب العاديين وليست موجهة لاسرائيل. لا يوجد تفسير لذلك سوى ان المعارضة القطعية هي وسيلة لترويج السلعة المحرمة، بحيث يتم القول: لقد حاولنا جهدنا ولكن ما باليد حيلة، ولا بأس هنا حتى من وضع اللوم على "العرب المتخاذلين". لا يوجد تفسير لذلك سوى ان المعارضة الجازمة هي وسيلة تفاوضية لا غير، يتم فيها تنويم المواطنين المعنيين بالتصريحات والاقوال الجميلة، بينما يتم ارضاء المفاوض الاسرائيلي بقبول اقتراحاته وتنفيذها. وبعد ان تأخذ اللعبة مداها، يعود المسؤولون انفسهم ليشرحوا لنا اهمية الانجاز الوطني الكبير الذي تحقق، وكيف ان ذلك سيقود الى دولة مستقلة عاصمتها القدس الشريف. ايها السادة… ان انجازكم الوطني الكبير، سيقود الى حكم ذاتي تحت السيطرة الاسرائيلية، وانتم تعرفون ذلك، ولكنكم قررتم ان لا تروا وأن لا تسمعوا، والغريب انكم تقولون الكثير.