ثمة صنفان من الكتب: كتب تكتسب أهميتها من طبيعة موضوعها، وكتب تتوقف أهميتها على مؤلفها وطبيعة نظرته الفريدة إلى الموضوع الذي يتناوله. وقد تكون للكتب الأولى أهمية ضخمة حتى إن كان مؤلفوها أناسا عاديين أو سطحيين خالين من الموهبة، كالكتب التي تتحدث عن رحلات الى مناطق نائية غير معروفة، أو ظواهر طبيعية غير مألوفة، أو أحداث خطيرة شهدها المؤلف وساهم فيها، أو شخصية مرموقة كان الكاتب صديقاً حميماً لها، أو وقائع تاريخية قضى الباحث زمناً طويلاً وبذل جهداً ضخماً في سبيل دراسة الوثائق الأصلية الخاصة بها. أما الصنف الثاني فالغالب فيه أن يكون الموضوع عادياً أو مألوفاً، وإنما تعود قيمته الفذة الى عبقرية الكاتب الذي يضفي رونقاً وجدّة على كل ما يتحدث عنه، ويلقي ضوءاً ساطعاً على جوانب خفية من عواطف نخبرها جميعاًَ، أو أحداث عاصرناها وألممنا بتفاصيلها، أو قصص طالما سمعناها من قبل. وهل فعل اسخيلوس أو سوفوكليس أو يوريبيديس أو شكسبير مثلاً، غير أن تناول في مسرحياته مواضيع كان مشاهدوها على علم سابق بها؟ والكتاب الذي نعرض له هنا سبق ان أصدرته دار كوريس في لندن باللغة الإنكليزية سنة 1991، وهو من الصنف الأول من الكتب، قد يكون مؤلفه معروفاً أو مجهولاً لدى هذا القارئ أو ذاك، وقد يتفق القراء بعد قراءة الكتاب على أن صاحبه خال من الموهبة الأدبية، أو حتى من الحنكة السياسية، وعلى أنه لا يتمتع بأية صفة من صفات الشخصية النبيلة أو السوية. غير أن كل هذا لم يحل دون أن أعتبر الكتاب من أمتع ما قرأت من كتب خلال السنوات القليلة الماضية. هو وثيقة شائقة مذهلة من وثائق التاريخ السياسي والاجتماعي المعاصر. فهو لا يقتصر في عرضه للأحداث في السنوات ما بين 1969 و1977 على كشف مجريات الأمور في إيران وفي القصر الامبراطوري، وإماطة اللثام عن الأسباب الحقيقية التي أدت الى اندلاع الثورة الإيرانية وإطاحة حكم الشاه العام 1979، وإنما يكشف أيضاً عن خفايا السياسة الدولية، ولعبة الأمم، والضغوط التي تمارسها الدول العظمى على دول العالم الثالث، وعن حقيقة أنظمة سقطت، وأنظمة لا تزال قائمة، وشخصيات عالمية وملوك وحكام، وعن دور إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة الى مئات من المواضيع التي تتراوح بين ما له أهمية دولية قصوى، كارتفاع سعر النفط في اوائل السبعينات وآثاره البعيدة المدى، واتفاقية الجزائر العام 1975 بين إيران والعراق حول شط العرب، وبين الحديث عن شخصية الشاه ومسلكه وغرامياته وعلاقته المتوترة مع زوجته فرح ديبا وابنته شاهناز وإخوته من ذكور وإناث وفضائح البلاط. غير أن أهم ما سيعني القراء العرب في رأيي والحكام العرب إن قرأوه هو ما سيخرجون به من دروس بالغة الأهمية تخص عواقب ما تنتهجه حكوماتهم من سياسات خرقاء، والتشبث الأحمق من جانب عدد من الحكام بسلطته الاستبدادية، وعواقب التغاضي والتساهل في شأن مظاهر الفساد المستشري في أرجاء الدولة وانتهاكات حقوق الإنسان. المؤلف الأمير أسد الله علم 1919 - 1978 ارستوقراطي نبيل ينتمي الى عائلة من أعرق العائلات الإيرانية. وظل لأكثر من عشرين عاماً أقرب المقربين إلى الشاه محمد رضا بهلوي، يجتمع به كل يوم تقريباً، وكثيراً ما يتناولان وجبتي الغداء والعشاء، وأحياناً الإفطار أيضاً. وهو محط ثقة الشاه المطلقة، سواء في الأمور السياسية أو العائلية، أو في ما يتصل بالمغامرات النسائية. وهما في سن واحدة، وهواياتهما واحدة التنس وركوب الخيل، والاثنان يتمتعان بقدرة فائقة على العمل لساعات طويلة كل يوم. وإذ عيّنه الشاه رئيساً للوزراء العام 1962، كان لأسد الله فضل إنقاذ نظام الشاه من أول محاولة يقوم بها آية الله الخميني لتأسيس دولة إسلامية في إيران، وذلك حين أمر أسد الله الجيش بإطلاق النار على جموع الثائرين وقمع حركتهم بكل وسائل العنف، ثم قضى بعد ذلك بنفي الخميني من البلاد. وعُين بعد هذا وزيراً للبلاط، وهو منصب أكثر أهمية ونفوذاً من منصب رئيس الوزراء، وأضحى من وقتها المسؤول الأول عن اتصالات الشاه بالدول الاجنبية، وبالملوك والرؤساء، وإبلاغ الوزراء وقادة الجيش بتعليمات سيده، وترتيب لقاءات الشاه بعشيقاته خفية عن زوجته الثالثة فرح ديبا، الى أن اضطر الى الاستقالة العام 1977 أي قبل وفاته بسنة لإصابته بالسرطان. كان أسد الله علم طوال توليه لوزارة البلاط يسجل كل ليلة تقريباً قبل أن يأوي الى فراشه يوميات سرية بكل ما حدث خلال اليوم، وما دار بينه وبين الشاه أو السفراء الأجانب أو الملوك والرؤساء الزائرين لإيران من أحاديث، وهو، على رغم حبه وولائه الصادقين للشاه، كان كثيراً ما ينتقد مسلك سيده في يومياته، ويعبر عن خشيته وقلقه من أن تؤدي أوتوقراطية الشاه، ورفضه إتاحة الفرصة للشعب الإيراني للمشاركة في اتخاذ القرار، وفساد الوزراء ورجال الحاشية وأفراد الأسرة المالكة، ووحشية معاملة السافاك للمعتقلين السياسيين، الى نشوب ثورة تودي بنظام الحكم. غير أن أسد الله كان يخشى أن يطلع على يومياته مَنْ ينقل الخبر بمحتوياتها الى الشاه، فكان يحرص على أن يودع أجزاءها بين الفينة والأخرى في خزانة في أحد البنوك السويسرية. وظل أمر هذه اليوميات سراً، الى أن أفشاه أسد الله الى زوجته حين أحس باقتراب أجله، طالباً منها أن تؤجل نشرها الى ما بعد انقضاء أمد حكم أسرة بهلوي لإيران. وفي شهر حزيران يونيو 1987 رأت أرملة علم أن الوقت ربما حان لنشر يوميات زوجها، فدفعت بها الى علي غني علي خاني، المدير السابق لجامعة طهران ووزير الاقتصاد لمدة ست سنوات في حكومة أسد الله علم، طالبة منه الاشراف على ترجمتها الى الانكليزية ونشرها في لندن، مع اختصار الأصل الفارسي المكوّن من ألف وخمسمئة صفحة الى نحو الثلث. وكان أن نهض علي خاني بهذه المهمة، حاذفاً من الأصل كل الإشارات الى أفراد لا يزالون مقيمين في إيران خشية تعرضهم لما يكرهون من السلطات الجديدة فيها، والإشارات التي تسيء الى سمعة أصدقاء تحرص العائلة على تجنب اغضابهم والسرد الطويل لأحداث دولية يعرفها الكافة، والمواضيع التي قد لا تهم غير الإيرانيين ولا تعني القراء الأجانب في كثير أو قليل. الصراحة التامة إذن هي السمة الغالبة على هذه اليوميات، وعلى رغم ما ذكرناه عن صدق ولاء علم للشاه وحبه له، فإن الصورة التي يرسمها لسيده وصديقه هي صورة رجل كريه سطحي صلف، شديد الإيمان بحكمة قراراته وبأنه لا يمكن أن يخطئ، عظيم الاحتقار لوزرائه وكبار القادة في جيشه، بل وللزوّار الأجانب من ملوك وأمراء ورؤساء ووزراء، يفتقر الى كل الشروط التي تتطلبها إقامة علاقات أسرية دفيئة أو صداقة حميمة، وإلى المبادئ الأخلاقية والعواطف الإنسانية، ضعيف الثقة بقدرة شعبه "المتخلف" على أن يجاريه في أحلامه وتطلعاته الى أن يجعل من إيران "يابان الشرق الأوسط"، وأن يبني فيها "حضارة عظيمة" بوسعها أن تلحق بالغرب في ظرف عشر سنوات، دائم التعبير عن استيائه من جحود شعبه وضعف امتنانه لكل ما يبذله من أجل رفع مستوى معيشته، والإعلاء من شأن دولته. غير أن الواضح أيضاً من خلال هذه اليوميات هو أن الشاه كان يخفي وراء عجرفته وغطرسته وصلفه، شعوراً عميقاً بالضعف والإحساس بالقلق إزاء المستقبل. ولم تكن نيات الاتحاد السوفياتي تجاه إيران هي مبعث هذا القلق كما ظن الكثيرون. فالشاه كان مطمئناً تماماً الى أن الغرب لن يسمح. أبداً بسقوط إيران في براثن الشيوعية. وإنما كان مبعث قلقه الأكبر هو خشيته من أن يفكر حلفاؤه الاميركيون والبريطانيون في يوم ما في إطاحة نظامه متى رأوا أنه لم يعد يحقق لهم مصالحهم في المنطقة، أو أنه بات يهدد هذه المصالح، بالضبط كما أطاحوا بوالده رضا بهلوي العام 1941، لاتهامهم إياه بالميل الى النازية ودول المحور. وظل الشاه الى وقت نشوب الثورة الإسلامية مؤمناً بأنه لم يرتكب خلال سنوات حكمه الطويلة خطأ يذكر، وبأن فضله على إيران لا يدانيه فضل أي حاكم لها على مدى ألفين وخمسمئة سنة، وبأنه يحكم شعباً قوامه فلاحون سعداء بوضعهم، وعمال راضون بحالهم، يتمتعون بثمار ما وفره لهم من تعليم مجاني، ورعاية صحية مجانية، ورخاء مادي ناجم عن تمكنه بسياسته الحكيمة من رفع سعر النفط في السوق العالمية. وكان الشاه يحيط نفسه دائماً بمن يحرص الحرص كله على إخفاء حقيقة الأوضاع عنه، وغضب الشارع الإيراني على استبداده وفساد وزرائه، وما يعانيه الشعب على رغم عائدات النفط الكبيرة من ضائقة اقتصادية شديدة. وكثيراً ما تعرض أسد الله علم نفسه لغضب الشاه وإهاناته حين حاول أن ينبّهه الى واقع الأمور والى ضرورة السماح بقدر أكبر من الديموقراطية وحرية التعبير. فالشاه لا يستمع إلا الى ما يريد سماعه: المديح لإنجازاته، والاشادة، بخدماته للأمة، وتقارير حكومته واستخباراته عن حال الرخاء والرضا التي يعيش شعبه فيها. وهو يصر على نسبة كل انجاز إيجابي الى نفسه، فإن حقق وزير له قدراً معيناً من النجاح فإنما حقق بفضل إرشادات الشاه وتوجيهاته له، وإن أساء أحد المسؤولين التصرف فبرغم أوامر الشاه ونصحه، وإن اكتسب أحد كبار رجال الدولة شعبية كبيرة، كتلك التي اكتسبها الوزير المسؤول عن الإصلاح الزراعي، بادر الشاه بتنحيته من منصبه ونسبة الاصلاحات الى نفسه. فعلى أفراد تلك الحاشية إذن وغيرهم من المنافقين المتملقين داخل إيران يقع جانب من المسؤولية عن سقوط نظام حكم الشاه، غير أنه كان ثمة الى جانبهم من الأجانب من طمأنوه بمديحهم، على حكمة إدارته، وروعة سياسته وحنكته. فهناك الرئيس الاميركي السابق ريتشارد نيكسون الذي نسمعه يقول للشاه خلال حفلة استقبال في واشنطن: "إن كل ما أنجزتموه يا جلالة الامبراطور وكل ما تنجزونه يحمل سمة الجلالة". وهناك وزير الخارجية الاميركي السابق هنري كيسينجر الذي صرح بأنه ليس هناك في زمننا هذا من هو أعظم من الشاه، وهناك نيلسون روكفلر الذي نقرأ عنه في يوميات أسد الله ما يلي: "الجمعة 16 آذار مارس 1976: غادر صباح اليوم نيلسون روكفلر طهران في طريقه الى الشرق الأقصى واستراليا. وقد حادثته في طريقنا الى المطار في مواضيع شتى، وكان من بين ما قاله إنه ساخط على بطء عملية اتخاذ القرارات في الولاياتالمتحدة، عكس الوضع في إيران، وأنه يتمنى لو أن إيران أعارت جلالة الشاه لمدة عامين أو ثلاثة الى الولاياتالمتحدة ليعلمنا كيفية حكم البلاد"!. كذلك يتضح لنا من قراءة هذه اليوميات كذب إدعاء البعض أن الشاه كان عقد العزم قبيل نشوب الثورة على إدخال قدر أكبر من الديموقراطية في نظام الحكم. فالمؤكد أنه كان دائما شديد الاحتقار للمبدأ الديموقراطي، قوي الإيمان بأنه لم يجلب الى الدول الغربية غير الفوضى، وأنه لا يتفق مع التقاليد الإيرانية. وربما خرج البعض من قراءة الكتاب بالإحساس بأنه لولا إغفال الشاه للأخذ بنصائح أسد الله علم ونصائح زوجته فرح ديبا، وإيصائهما المتكرر له بتطبيق الديموقراطية، لما فقد عرشه، والغريب في الأمر أنه رغم ما سطره علم مراراً في يومياته عن كراهية فرح ديبا له لعلمها بأمر ترتيبه لمغامرات زوجها النسائية واشتراكه معه فيها، فإن الصورة التي تبدو عليها الامبراطورة السابقة في هذه اليوميات صورة مشرقة حقاً. يكتب أسد الله علم فيقول: "إن لدى جلالتها موهبة وضع إصبعها على أخطر أوجه القصور والضعف في النظام القائم، غير أنها للأسف - وكما أخبرتني هي نفسها - لا تنظر هي والشاه الى الأمور بعين واحدة، ولا يكادان أن يتفقا على شيء أبداً". وفي موضع آخر: "جلالتها هي خير ضمان ضد إساءة استخدام السلطة، فهي وحدها التي تملك القدرة على فتح عيني الشاه على الحقيقة. صحيح أني أحياناً أحذو حذوها، غير أنه شتان ما بيني وبينها. وعلى أي حال، ما من أحد غيرنا في البلاط يجرؤ على أن يفعل ما نفعله" 28 أيلول / سبتمبر 1970. غير أن الفرصة ولّت حين أقرّ الشاه في النهاية بالحاجة الى إجراء "بعض الاصلاحات الصغيرة"، ففي كانون الثاني يناير 1977 نسمعه يعترف لأسد الله علم قائلاً: "لقد افلسنا، وغدا كل شيء مهدداً بالتوقف". كما نقرأ في يوميات علم: "ثمة نذر رهيبة تنذر بكارثة محققة، خصوصاً مع تدهور عائدات النفط، والضغط المتزايد علينا من جانب الرئيس كارتر من أجل احترام حقوق الإنسان، الأرض تعيدنا، وكل شيء ينذر بالانهيار من حولنا". وكان أن انهار كل شيء من حولهم مع بداية العام 1979، غير أن أسد الله علم كان قد توفي قبل ذلك بتسعة أشهر، وكان الشاه أضحى عاجزاً تماماً عن أن يوقف المد الثوري في بلاده. * كاتب مصري