المتتبع لمسلسل اغتيال الاجهزة الامنية الايرانية لسياسيين ومثقفين ايرانيين يستغرب الاهتمام الضئيل للمثقفين العرب كمّياً ونوعيّاً بهذه الجريمة المستمرة منذ قيام الجمهورية الاسلامية سنة 1979، قياساً على اهتمام المثقفين لا في ايران وحسب بل وايضاً في وسائل الاعلام الديموقراطية في العالم. والحال ان المثقفين في الفضاء العربي الاسلامي معنيون بمصير اخوانهم مثقفي ايران لا لاسباب انسانية وحسب بل ايضاً وخصوصاً لأنهم كانوا وما زالوا هم ايضاً في متناول ايدي القتلة المتعصبين منذ شنق حسن الترابي الفيلسوف محمود طه في الثمانينات مدشّناً بذلك سلسلة المجازر التي نظّمها الاصوليون الجزائريون للمثقفين في التسعينات، فضلاً عن اغتيال فرج فودة بتزكية من الشيخ محمد الغزالي ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ بفتوى من عمر عبدالرحمن. أضف الى ذلك الحكم التفتيشي ضد حامد نصر ابوزيد ومحاكمة الموسيقار محمد عبدالوهاب بسبب اغنية "من غير ليه" وادانة الفنانة يسرى على صورة لها في فيلم وفتاوى "جبهة علماء الازهر" التي تسللت اليها جماعة الاخوان المسلمين، بتكفير التفكير تحريضاً على اغتيال المثقفين وآخرهم حسن حنفي. لذلك حلّها مشكوراً شيخ الازهر فأزاح بذلك كابوساً كان جاثماً على صدور المثقفين. اللامبالاة التي واجه بها سواد المثقفين العرب ممثلين في اتحاداتهم الوطنية او اتحاد الكتّاب العرب، قتل السياسيين والمثقفين الايرانيين يقابلها اهتمام المثقفين الفرنسيين بمصائر المثقفين الايرانيين الذي تجلى في ما نشرته لهم وسائل الاعلام حتى ان احدهم، فيليب سولرز وصف حكم "اللجنة السرية" الايرانية على 180 مثقفاً ايرانياً بالاعدام بأنه "ابادة فئوية" لا تقل عن الابادة العرقية. احدث شواهد هذا الاهتمام المتواصل على مدى خمسة شهور، التحقيق الذي نشرته منذ ايام اليومية الفرنسية "لوموند" بعنوان "القائمة السوداء المفزعة" بقلم مبعوثتها الخاصة الى طهران منى نعيم عن مأساة المثقفين الايرانيين التي بدأت مع نظام الشاه وازدادت مأسوية ودموية مع نظام الوليّ الفقيه او "الشاه المعمّم" كما سمّاه شاعر ايراني. يقول تحقيق الصحيفة الفرنسية ان "القائمة السوداء" لا تشمل رجال القلم وحسب بل وايضاً سياسيين اصلاحيين او حديثين. عُثر على هذه القائمة السوداء لدى فريق القتلة الذين اغتالوا في تشرين الثاني نوفمبر الماضي داريوش فروهار، رئيس حزب الأمة الايرانية الممنوع، وزوجته بارفانه. يقول الروائي والمدافع عن حرية التعبير في ايران أمير حسن شاهلتان لمبعوثة "لوموند": "طبعاً اشعر بأنني مهدّد. فأنا على القائمة السوداء الشهيرة، لا أخرج ابداً وحيداً، ولا اعود الى بيتي متأخراً في المساء حتى ولو كنت مرفوقاً. وما اكثرنا نحن الذين نعيش على هذا النحو المرهق نفسياً والمدمر للاعصاب". يعترف أمير حسن شاهلتان بأنه لا يفهم لماذا جعل الاصوليون الايرانيون "جمعية الكتّاب الايرانيين" هدفاً لهم لتقتيل اعضائها. لكن ما يعرفه حق المعرفة وجود هذه القائمة المشؤومة التي تضم اسماء 180 كاتباً ادانتهم "اللجنة السرية" بالموت لأنهم "لا يتطابقون" مع الارثوذكسية الرسمية، التي تكفّر وتنفّذ حكم الموت في كل من لا يشاطرونها رؤياها المتعصّبة لشؤون الدين والدنيا. يعترف أمير حسن شاهلتان بأن الفضل في كشف هذه القائمة السوداء يعود الى الرئيس المصلح والمثقف محمد خاتمي الذي تحدى اقطاب النظام الاصولي الحاكم عندما أرادوا الصاق الجريمة ب "اميركا واسرائيل" حتى تواصل "اللجنة السرية" مسلسل جرائمها في امان، فكشف هوية القتلة وأرغم وزير الاستخبارات على الاستقالة والاعتراف بمسؤولية جهازه عن عرس الدم الايراني. بدهشة الفنان الطفولية يقف أمير حسن شاهلتان حائراً امام لغز خوف نظام الشاه بالامس ونظام الولي الفقيه اليوم من "جمعية المثقفين الايرانيين" التي لا تضم اكثر من 80 كاتباً!: "انني مندهش ولا اعتقد ان سلطة المثقفين في ايران كبيرة الى هذا الحد" الذي دفع نظام الشاه الى سجنهم ونظام "الشاه المعمّم" الى قتلهم. لكن أمير حسن شاهلتان سرعان ما يفارق دهشته ليقدم بداية اجابة عن لغز كراهية نظام الشاه وجمهورية الملالي للمثقفين: "فما زال البعض يذكر اليوم ان السهرات الشعرية التي نظّمتها "جمعية المثقفين" في بداية تشرين الثاني نوفمبر 1977 في المركز الثقافي الالماني في طهران قد حفزت الثورة على الشاه" مضيفاً: "ففي غياب الاحزاب السياسية والصحافة الحرة ينتظر المجتمع الايراني الكثير من المثقفين" الذين هم صوت من لا صوت لهم ولسان من قصّت التوتاليتارية ألسنتهم، مما يجعلهم الهدف الاول لكراهيتها وقمعها كما يرفع الستار عن سبب آخر اساسي لاضطهاد العرش البهلوي والجمهورية الاسلامية للمثقفين: "ربما اعتُبر المثقفون المستقلون خطرين في بلد مثل ايران من حكومات تنتظر من المثقفين ان يكونوا ادوات لدعايتها" ذلك ان الانظمة التوتاليتارية من الفاشية الى الاصولية تنتمي بمشروعها الاجتماعي وبنيتها الذهنية الى ما قبل الحداثة: الى ما قبل ظهور الفرد الحرّ المالك لرأسه وفرجه الذي لا تعترف به الانظمة والايديولوجيات التقليدية وتمارس عليه قهراً معنوياً ومادياً لاعادته الى شرط العضو الذائب في قطيع الامة "يفكّر" برأسها الجمعي الذي ينقصه التفكير النقدي بما هو تساؤل وشك لا يعترف بأية ارثوذكسية ولا يسلّم باليقينيات والبديهيات الزائفة. عبثاً - تقول "لوموند" - تبحث عن تفسير لخوف حكّام ايران من عهد الشاه الى عهد الجمهورية الاسلامية من الكتّاب بسبب اقبال القراء عليهم: "فالايرانيون، يقول شاهلتان، ليسوا قراء كباراً كما لم يكونوا كذلك في عهد الشاه. جمهور الأدب الجدي محدود جداً. في افضل الحالات نطبع عشرة آلاف نسخة في بلد تعداده اكثر من ستين مليوناً. عادة لا يتجاوز عدد النسخ الثلاثة آلاف"، أو الألفين كما يؤكد الناشر مرجان جيلالي. وكما في كل نظام ممقوت شعبياً غدت عداوة الاصولية الاسلامية الحاكمة لأيّ مثقف معياراً لجودته وتهافت القراء عليه. وهذا ما يؤكده أمير حسن شاهلتان: "ما ان يعرف الايرانيون ان فلاناً ليس شاعراً رسمياً ولا يرونه على شاشة التلفزيون ولا في الندوات التي تنظمها الحكومة ولا محل استشهاد الصحافة الرسمية حتى يقولون عنه: هذا جيد لذلك ربما كانت سلطتنا في التصور الذي يكوّنه الناس عنا. ربما كانت سلطتنا كبيرة" في المخيلة الشعبية الخلاقة التي تتمثل ذهنياً ما لا وجود له في الواقع. ترتفع هذه المخيلة بالمثقف المستقل الى مرتبة المثال والبطولة كرد تخييلي على تذرير الشمولية الاصولية للشعب، بحرمانه من كل اشكال التنظيم المستقل عنها خوفاً من ظهور المجتمع المدني الذي لا يتعايش سلمياً مع التوتاليتارية. عندما تسأل مبعوثة "لوموند" امير حسن شاهلتان عن سبب اختيار الاجهزة الامنية للكاتبين محمد بويانده وعلي مختاري فريسة لها؟ يجيب بأنه لا يدري لان القتلة يختارون ضحاياهم خبط عشواء كما لو كان كل كاتب استعصى على الاصولية تطويعه لترويج هذيانها الذي يختلط فيه جنون الاضطهاد بجنون العظمة يعتبر مستوجباً للقتل! "لا يوجد اي منطق، يقول أمير حسن، في اختيار رجال الاجهزة الامنية لضحاياهم فهم يختارونهم صدفة. يقولون في ما بينهم: لا بد من معاقبة الكتّاب ، فلنختر منهم فلاناً. لماذا؟ لا احد يدري. ربما كان بعضنا أسهل منالاً للقتلة من الباقين" ما دام التفكير باستقلال عن النظام جريمة، فكل مفكّر حرّ مطلوب للقتل! استمرارية ديكتاتورية نظام الشاه في ديكتاتورية نظام الولي الفقيه يشهد عليها رفض النظامين كليهما الاعتراف ب "جمعية الكتّاب الايرانيين". لم تنس الذاكرة القمعية دور محطة الانذار المبكر الذي لعبته هذه الجمعية في اسقاط نظام الشاه. وهو دور أشبه ما يكون بالدور الذي تلعبه خفقة جناح الفراشة في تغيير مجرى الاعصار في نظرية الكاووس الفيزيائية: "قبل سنتين من انهيار نظام الشاه وجّه الكتّاب الايرانيون لرئيس وزرائه أمير عباس هويدا عريضة تطالب بالغاء الرقابة ونظّموا في "معهد غوته" في طهران السهرات الشعرية الشهيرة التي أقبل عليها الجمهور بحماس فأمر الشاه بمنعها. تسامح نظام الولي الفقيه مع "جمعية الكتّاب" مدة عامين. لكن، ذات يوم من سنة 1981 ومن دون سبب ظاهر احتل "حزب الله" مقرها وصادر وثائقها وحرّم نشاطها. وعلى رغم نجاح الجمهورية الاسلامية الباهر في تبديد شمل الكتّاب فقد واصلت ملاحقة المثقفين كأفراد مذرّرين بتهم ملفّقة استوردت بعضها من ارشيفات النازية والستالينية التي تراكم عليها الغبار: في آذار مارس 1994 اعتقلت الشاعر سعيد سرجاني بتهم تستوجب كل واحدة منها في قانون الاصولية الجلد أو الاعدام: "تهريب العملة، حب الغلمان، الاتصال بأعداء الثورة، تعاطي المخدرات والمشروبات الكحولية" حرفياً كما يلاحظ أمير حسن شاهلتان. تتميز التوتاليتارية عن اشكال الحكم الديكتاتورية الاخرى بأمرين: اعتمادها على الحزب الواحد لكبت المجتمع المدني التعددي تعريفاً وتفتيشها في حياة الفرد الشخصية لاسترقاقه بالتحكم في أخصّ خصوصياته الحميمة. احتجاجاً على هذه الممارسات المترسبة من عصور خلت وقّع 134 كاتباً ايرانياً اثر اعتقال زميلهم سعيد سرجاني بتلك التهم القراقوشية بياناً في منتهى الحذر والاعتدال طالبوا فيه نظام الملالي باحترام استقلالهم الفردي وعدم "التفتيش في حياة الكاتب الشخصية بذريعة النقد الادبي لأن في ذلك انتهاك لحرمة لا تُنتهك. ان ادانة كاتب بمزاعم اخلاقية او سياسية مناقض للديموقراطية وكرامة مهنة الكاتب" اللتين ديستا في ايران بالنعال. كان هذا البيان، كما تقول "لوموند" القشّة التي قصمت ظهر البعير، فقال وزير الاستخبارات للكتّاب: "كفى. عليكم منذ اليوم ان توقفوا كل نشاط وان لا تجتمعوا او تلتقوا او يتصل بعضكم ببعض" ولا عجب فدستور الجمهورية الاسلامية يحظر اجتماع اكثر من شخصين اثنين! جمّد القمع اوصال الكتّاب الايرانيين وكمَّ افواههم الى ان جاءت فلتة انتخاب الرئيس المصلح محمد خاتمي التي اخذت المحافظين على حين غرة. رفع المرشح محمد خاتمي اربعة شعارات اساسية تعبّر عن اعمق صبوات الايرانيين جمهوراً ونخبة: "ايقاف التنكيل بالمرأة" التي تُداس في اليوم بألف قدم وتُجلد بألف سوط وتُرجم حتى الموت. "احترام حرية الشباب" الذي حُكم عليه بلعنة الشيخوخة في ربيع العمر. "احترام الحريات الديموقراطية والحق في الاختلاف" التي انتهكتها الاصولية المسكونة في بنيتها النفسية العميقة بالتعصّب وكراهية الآخر المخالف والمختلف. واخيراً "اقامة دولة القانون" على انقاض دولة الارهاب في الداخل والخارج. في "عهد" الرئيس محمد خاتمي الذي يملك ولا يحكم حاول 80 كاتباً احياء جمعيتهم وعندئذ بدأت المشاكل، كما يقول أمير حسن شاهلتان. فطلبت الاجهزة الامنية الاخطبوطية من لجنة تحضير مؤتمر "جمعية الكتّاب" ايقاف كل نشاط في الحال. وجّه الكتّاب شكوى للرئيس خاتمي لكنه لم يحرّك ساكناً لان الاصرار الاصولي على رفض التداول السلمي للسلطة حتى داخل الدائرة الاصولية نفسها حوّله من رئيس منتخب بأغلبية ساحقة الى مجرد معارض محتشم للاقلية الاصولية الحاكمة على رغم ارادة 21 مليون ناخب! في ايران "الاقلية في الحكم والاغلبية في المعارضة" كما كتب اخيراً حيدر! اضطهاد المثقفين، المتواصل في الواقع منذ 1997 بما أثار من تعاطف عارم معهم ونقمة متفجرة على جلاديهم مكّن الرئيس محمد خاتمي من تنشيط معارضته للأقلية الاصولية الحاكمة ومطالبتها بإيقاف الاغتيالات وكفّ وسائل اعلامها عن تمزيق اعراض المثقفين مهدداً اياها باستخدام سلاحه الضارب، الاستقالة، الكفيلة بوضع هذه الاقلية الرافضة للتداول السلمي على السلطة وجهاً لوجه مع الشعب الايراني الذي يغلي كالمرجل. من جديد داعب "جمعية الكتّاب" بصيص أمل في الاعتراف القانوني بها. وهذا ما يعبّر عنه أمير حسن شاهلتان لمبعوثة "لوموند": "من المحزن ان نقول ذلك، لكن موت زميليْنا وصديقيْنا ربما سهّل لنا الامور. على ايران ان تواجه اليوم اكداساً من المشاكل، احداها وربما أهونها شأناً مشكلتنا. اننا موزّعون بين الخوف والامل"… ونحن ايضاً في حقبة ارهابية يسودها في الفضاء العربي والاسلامي الانغلاق والتعصّب والخوف من الحرية وحبّ الموت أخذاً وعطاءً واحتقار الانسان وكراهية الآخر وتكفير العقل! * كاتب تونسي.