حللت مقالة الأمس اهمية كسب المفاوض العربي للرأي العام الاسرائيلي عبر مبادرة عربية رمزية تعيد الثقة المفقودة، بين الاسرائيليين والعرب على غرار زيارة الجنرال ديغول التي أعادت الثقة الى العلاقات الفرنسية - الألمانية ودشنت المصالحة الفرنسية - الألمانية. وهنا مقالة ثانية وأخيرة في الموضوع. لنفترض ان الفكر السياسي العربي احدث قطيعة تاريخية مع ماضيه التقليدي الذي يضحي بمصالحه الحقيقية على مذبح مبادئه التَّوهميَّة وأقدم على مقاربة جديدة للصراع العربي - الاسرائيلي بطريقة العلاج الرمزي المعروفة في علم نفس الاعماق عبر حدث رمزي تتخطَّفه وسائل الاعلام العالمية ويهز وجدان الرأي العام الاسرائيلي بحيث يفكُّ كوابحه النفسية التي تقطع شهيته لمقايضة الأرض مقابل السلام اي التطبيع الشامل: اقامة علاقات ديبلوماسية وتجارية، فلا بد من المضي أبعد الى الأمام لتتويج الحدث الرمزي بمشروع متكامل لدمج اسرائيل في العالم العربي والشرق الأوسط. وبصيغة اخرى كيف نجعل المجتمع المدني الاسرائيلي القطاع الخاص المتطور والمجتمعات المدنية العربية الناشئة تتشرَّب زخم وقيم السلام والتطبيع في السلوك اليومي؟ لا سبيل لذلك من دون تجسيد السلام العربي - الاسرائيلي في سياسات مشتركة عربية - اسرائيلية تغطي جميع القطاعات الحيوية. وهذا يتطلب دمج اسرائيل في نسيج الفضاء العربي اقتصادياً، سياسياً، سياحياً وثقافياً، أي استقبالها في المنظمات الاقليمية بما فيها الجامعة العربية. دمج اسرائيل هو الذي يجعلها دولة مأْمونة وآمنة - ولن تكون مأمونة الا اذا كانت آمنة - وهذا ما وعاه الفكر السياسي الفرنسي بصدد المانيا غداة الحرب العالمية الثانية وتحرير فرنسا من الاحتلال النازي. لقد ادرك الجنرال ديغول ان الحل الأمثل لوقف التوسع الألماني ولتفادي حروب جديدة تخوضها المانيا الباحثة دائماً عن "مكان تحت شمس المستعمرات" هو دمج المانيا في نسيج اوروبي غربي: السوق الاوروبية المشتركة التي غدت الآن السوق الأوروبية الموحدة والموعودة بضم كل اوروبا اليها. وقال كوف دومورفيل وزير خارجية ديغول: "السوق الأوروبية المشتركة هي القفص الذهبي للنسر الألماني" لكي لا يسقط في غواية التوسع خارج حدوده التي تعود عليها منذ حرب 1870 الألمانية - الفرنسية. هذه الاستراتيجية الدمجية صالحة ايضا لاحتواء التوسع الاسرائيلي بدمج اسرائيل في قفص المؤسسات الاقليمية العربية والشرق اوسطية القائمة والتي قد تقوم في اطار سوق مشتركة تتنافس فيها الشركات المشتركة ب"مدفعية" الأسعار الرخيصة بدلاً من تنافس الجيوش على احتلال الارض او تحريرها اللذين استنزفا موارد الشرق الأوسط منذ نصف قرن. دمج اسرائيل هو الذي ينزع عنها عدوانيتها التي ليست وراثة مَرضية - ATAVISIME - كما يدعي المعادون للسامية بل وليدة الملابسات التاريخية الفاجعة التي عاشها الشعب اليهودي طوال 20 قرناً ك"آخر"، اي كممثل في اللاشعور الجمعي ل"الفرقة الشرِّيرة" "GROUPE MOUVAIS OBJECT". وهكذا فالوسيلة العملية لتجاوز العداوات المزمنة في شرق اوسط ما زالت تَسْتَبِّد به ذهنية الثأر القبلي لدى العرب، الاتراك، الفرس واليهود هي جعل اقتصادياتهم متكاملة في شبكة محكمة من التبعية المتبادلة وتحويل الحدود الى مناطق استثمارات مشتركة. هل يعني ذلك ان العلاقات بين دول الشرق الأوسط ستصبح بين عشية وضحاها سمناً على عسل؟ كلا، فلا شيء بمضمون سلفاً، والتوتر والعنف لازما البشرية منذ سبعة آلاف عام ولا توجد وصفة سحرية للخلاص منهما. فلا مناص اذن من حصول احتكاكات وحتى نزاعات، لكن سيكون من السهل احتواؤها ومن الصعب اللجوء الى السلاح لفضَّها على غرار الاحتقانات بين اوروبا الشمالية وأوروبا الجنوبية، بين المانياوفرنسا وبين هذين البلدين وبريطانيا ضمن السوق الاوروبية الموحدة. اذا كانت دول هذه السوق قد دفنت فأس الحرب في المستقبل المنظور على الأقل فان شرقا أوسط متدامجاً اقتصادياً وثقافياً وربما سياسياً ضمن شبكة من الفيديراليات في امكانه تذويب الحدود الجغرافية والحواجز النفسية وتالياً وقف او تقليل احتمالات الحروب الكامنة الطائفية او الاقليمية على الدين والارض والماء. قد يقال هذا من السهل قوله على الورق ومن الصعب تحقيقه في الواقع البالغ التعقيد. وهو اعتراض وجيه، لكنه يتوجه الى كل مشروع نظري يسبق بالضرورة تحقيقه. ويبقى الحكم على تسداده رهناً بامكانية هذا التحقيق. شخصياً لم اكن أتوقع قبل عشر سنوات نجاح مشروع العملة الاوروبية الموحدة لأن العملة من صميم السيادة القومية والتخلي عنها يعني التخلي عن احد رموز السيادة. لكن خاب ظني والمشروع تحقق وقد يتجاوز اوروبا الغربية الى اوروبا القارية. مشروع السوق الشرق اوسطية المشتركة قد ينجح هو الآخر على رغم الصعاب الجمّة التي تقطع عليه الطريق وفي مقدمها ماضويّة نخبه. لكن لا يُعدم الحظوظ أيضاً وفي طليعتها تطابقه مع ديناميكية العولمة التي همّشت النزوع الى الحمائية والتقوقع القومي لحساب تبعية متبادلة وعميقة بين جميع الأمم. السوق الرأسمالية الدولية التي توحدت منذ القرن الثامن عشر غدت الآن متدامجة على نحو غير مسبوق. فالسيارة التي نركبها، مثلاً، صُنعت قطعها في عدة بلدان وثلاث قارات. "روح حقبتنا" هي اذن تجاوز السيادة القومية األمتقادمة في اتجاهين متكاملين في العمق. الاول فوق قومي نحو التكتلات الاقليمية الفيديرالية لخوض المنافسة الاقتصادية التي غدت صعبة في اطار الدولة القومية التي تفتقد شيئاً فشيئاً صلاحياتها وصلاحيتها ونحو تحويل اجزاء مهمة من السيادة القومية الى الهيئات الدولية الموعودة بالتحول من اقتصادية الى سياسية ايضا. والثاني تحت قومي نحو اللامركزية او الجهوية، اي تحويل اختصاصات الدولة القومية الاقتصادية والثقافية الى المحافظات او الأقليات لتمارس أوسع حكم ذاتي ممكن لادارة جميع شؤونها عدا الدفاع. لا يسع منطقة الشرق الاوسط ان تبقى في منأى عن هذين الاتجاهين الفاعلين في الحقبة الا اذا دفعتها هواجسها ومخاوفها اللاعقلانية الى الغوص في فوضى التفكك الدامية بدلاً من اختراع صيغة جديدة للعيش المشترك. وجود اسرائيل في منطقة الشرق الاوسط يمكن تحويله من خطر الى فُرصة. بما هي دولة غنية، حديثة وديموقراطية قد تكون قدوة حسنة لمحيطها الفقير، التقليدي واللاديموقراطي. باندماجها فيه يمكن ان تكون قاطرته نحو الحداثة. البرتغال واسبانيا واليونان ما كان بامكانها ان تصل الى الحداثة السياسية بجهودها الذاتية لولا اندماجها في السوق الاوروبية المشتركة. لا شيء يحول دون تكرار التجربة اي اقتباس الدول الشرق أوسطية والعربية للحداثة السياسية من اسرائيل. لا شيء سوى الخوف من الحداثة وكراهية اليهودي المتأصلة في النفوس التي تفضل التسّمر في ذكريات الماضي على الانفتاح على مشروع مستقبلي به نكون معاصرين لعصرنا أو لا نكون. عكساً للمخاوف التخييلية، فإن اندماج اسرائيل في سوق شرق اوسطية تكون هي قاطرته ليس مفيداً فقط للاسرائيليين بل أيضاً وخصوصاً لشركائهم. مثلاً، سياسة مشتركة ثقافية وعلمية اسرائيلية - عربية فرصة ثمينة لانقاذ البحث العلمي العربي في صناعة الحياة - لا الموت - من وضعه الجنيني الحالي والارتقاء به الى مرحلة أرقى. اسرائيل في هذا المجال تضاهي الغرب وفي الامكان التعلم منها والاستعانة بها فيه. كما في غيره كتحديث العربية على غرار العبرية التي تبنّت المعجم الاصطلاحي العلمي الدولي فيما ما زالت العربية عاجزة عن ترجمة كتاب علمي معاصر. كما في مجال الحداثة السياسية وحقوق الأقليات، ففي امكان عربي ان يترشح لرئاسة الحكومة في اسرائيل والحال انه يُحظر على السني ان يترشح لرئاسة الجمهورية في ايران وعلى الشيعي ان يتقلدها في العراق! سياسة زراعية مشتركة: تحديث الزراعة في اسرائيل لا يقل عن مثيله في الغرب. وتقدم اسرائيل مساعدات في هذا القطاع لكل من مصر وتركيا. الانتقال بهذا التعاون الثنائي الى سياسة زراعية مشتركة قد يكون كفيلاً بتحقيق ذلك الشعار الذي ما فتئنا نُغرغره منذ ربع قرن عن الأمن الغذائي الذي يبتعد تحقيقه، بمساعدة قنبلة الانفجار السكاني، كل عام اكثر. سياسة اقتصادية مشتركة: محرّك الثورة الصناعية الثالثة هو المعلوماتية التي بدأت تثوّر نمط الانتاج كما لم يحصل منذ الثورة الصناعية الاولى. وفي هذا الباب حقق الاقتصاد الاسرائيلي سَبقاً بالذهاب بعيداً في التجديد العلمي والتكنولوجي لجعل الذكاء البشري يغدو هو المورد الاول للنمو الاقتصادي قبل رأس المال، مما جعل السلع التي تحتوي على قدر اكبر من العمل الذهني اكثر مردوداً ورواجاً. وهكذا فالشراكة العربية - الاسرائيلية في قطاع التكنولوجيا الراقية فرصة من اللامسؤولية عدم اقتناصها اذا ما اتيحت. منذ نهاية المذبحة العالمية الثانية التي اشعل التوسع الألماني فتيلها سعت فرنسا لكبح جماح هذه الروح التوسعية للبورجوازية الألمانية، المسكونة بهوس البحث عن "مكان تحت الشمس"، شمس المستعمرات، بدمجها في سوق اوروبية غربية مشتركة تُنافس فيها شركاءها تجارياً لا حربياً. وفي امكان العالم العربي ايضاً اذا انتصرت فيه العقلانية السياسية على الغرائز البدائية ان يحول اسرائيل التوسعية والمحاربة الى دولة عادية تنافس جيرانها سلمياً. يدرك اليمين وأقصى اليمين الاسرائيلي خطر دمج اسر ائيل في محيطها العربي والشرق اوسطي على المشروع الصهيوني التوسعي. سأعطي الكلمة لمعلق يومية مالية فرنسية ليشرح ذلك: "التنمية القوية لقطاع التكنولوجيا الراقية في ظل حكم نتانياهو يعزز الرؤية القائلة بأن اسرائيل لا تحتاج الى اقتصاديات جيرانها العرب … لذلك احتلت الدولة العبرية مكانة متميزة في قطاع التكنولوجيا الراقية. وتسارع هذا التطور خلال سنوات حكم نتانياهو لنسف الفكرة الجاهزة القائلة بأن تجميد عملية السلام يضر بجميع قطاعات الاقتصاد. لقد تباطأ الاقتصاد الاسرائيلي، لكن الأرقام بليغة في قطاع التكنولوجيا الراقية. حطم تصدير الميكروسوفت برامج الكومبيوتر السنة الماضية جميع الأرقام القياسية: 1.5 بليون دولار، أي قفزة ب50 في المئة للاستثمارات في صناديق التجديد التكنولوجي. وهكذا فالتكنولوجيا الراقية موعودة بمستقبل مشرق. يقول دان غولد شتاين … ان هذا القطاع لم يتأثر عملياً بانهيار النمو الداخلي لأنه موجه بالكامل الى الخارج. وهذه الرؤية تُعزّز فكرة نتانياهو القائلة بأن اسرائيل ليست في حاجة الى جيرانها العرب في المجال الاقتصادي". La TRUBINE17.05.1999. اذن، لا ضرورة للسلام والتطبيع مع العرب لأن ذلك يضع العصا في عجلة الصهيونية الارثوذكسية التي لا تكتفي باسرائيل في حدود ما قبل 5 حزيران يونيو 1967 كما تفعل الصهيونية العلمانية، بل تريد "ارض اسرائيل" في حدودها التوراتية امتثالاً لوعد يهوه لابراهيم. * كاتب تونسي.