إن الحلم الصهيوني الذي تطرح أجندته هذه الأيام وبصلف ليس جديد من حيث الفكرة ذلك أن هرتزل ابا الصهيونية قد أعلن في مؤتمر باز ل الصهيوني عام 1897م ان اقامة الوطن القومي اليهودي يحتاج الى اعداد جيد وهذا يحتاج إلى خمسين عاماً وقد تحقق ذلك حيث قامت دولة إسرائيل عام 1948م. وقد قال إنه بعد قيام الدولة اليهودية سوف يتم الدخول في صراعات عنيفة ودموية مع جيرانها ولكن بعد مضي خمسين سنة على قيام إسرائيل سوف أبدأ مرحلة التطبيع وإقامة العلاقات الجيدة مع العرب وعلى الرغم من أن التوقع الثاني لم يتحقق بصورة كاملة حتى اليوم إلا أن الظواهر تدل على أنه في طريقه إلى التطبيق فهذا شمعون بيريز رئيس وزراء إسرائيل الأسبق يقول بأن الشرق الأوسط القادم يحتاج إلى «هندسة معمارية ضخمة» هندسة تاريخية لبناء شرق أوسط جديد متحرر من صراعات الماضي لتحقيق السلام حسب قوله وذلك حتى تأخذ المنطقة مكانها في العصر الجديد. وأضاف أن ذلك يحتم انشاء سوق شرق أوسطية مشتركة تقوم على أساس المياه والسياحة وهو يقصد طبعاً على أساس الأرض والاقتصاد والنفط والأسواق وغيرها مما لم يضمنه خطابه أمام البرلمان الأوروبي في عام 1993م. وكان مصطلح الشرق الأوسط في الأساس مفهوما بريطانيا ذا بعد استراتيجي عسكري فقط ولكن بعد الحرب العالمية الثانية كيّفت الولاياتالمتحدة هذا المفهوم وكان ذلك يهدف إلى عدة أمور منها: 1- إحلال مفهوم الشرق الأوسط محل مصطلح العالم العربي. 2- دمج إسرائيل في إطار المنطقة من خلال سوق مشتركة وادخال إيران وتركيا وربما أرتيريا وأثيوبيا وربط كل ذلك بالولاياتالمتحدة. وهذا يعني أن الشرق الأوسط الكبير ليست فكرة جديدة بل هي نسخة مطورة من حلم هرتزل الذي تخيل فيه قيام كومنولث شرق أوسطي تكون فيه إسرائيل المركز الأساسي للتحديث التقني والبحث العلمي والخبرة التقنية وعلى تلك الأسس بدأ الحديث عن «النظام الاقتصادي الشرق أوسطي الجديد» منذ بداية التسعينات من القرن المنصرم وذلك في دهاليز مراكز الدراسات الاستراتيجية والبحوث المتخصصة وكذلك مراكز اتخاذ القرار في الولاياتالمتحدة وإسرائيل وأوروبا. وقد بدأ تسويق ذلك من خلال الإعلام والصعد الفكرية والسياسية والاقتصادية وما نسمعه ونشاهده من أحداث سواء في العراق أو فلسطين أو التطبيع الاقتصادي مع بعض الدول العربية إلا جزء لا يتجزأ من ذلك المشروع الذي يعتبر نقلة نوعية في مد النفوذ الإسرائيلي الذي له ما بعده. وعلى العموم فقد ظهر في الآونة الأخيرة عدد من الدراسات تتعلق بالوضع الاقتصادي في المنطقة وفي إسرائيل وكان من تلك الدراسات ما قدمه الأستاذ نبيل السهلي عن تطور الاقتصاد الإسرائيلي والذين صدر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية وقد أشار في تلك الدراسة الى بعض معالم النظام الشرق أوسطي الجديد ومن تلك المعالم تصورات كل من الولاياتالمتحدةالأمريكية والأمانة العامة للمفوضية الأوروبية والبنك الدولي وكل تلك التصورات تكاد تتفق على أن النظام الاقتصادي في الشرق الأوسط الجديد سوف يتحدد عبر ثلاثة مستويات رئيسية هي: 1) إقامة تجمع اقتصادي ثلاثي يجمع الأردن والكيان الفلسطيني الوليد وإسرائيل وذلك على غرار الاتحاد الاقتصادي القائم بين دول البينيلوكس الأوروبية الثلاث وهي بلجيكا وهولندا ولوكسمبورج. 2) إقامة منطقة التبادل التجاري الحر وتضم كلاً من مصر وإسرائيل والكيان الفلسطيني والأردن وسوريا ولبنان على أن تنتهي الترتيبات الخاصة بذلك في حدوده عام 2010م. 3) إقامة منطقة موسعة للتعاون الاقتصادي تشمل بالاضافة إلى منطقة التبادل التجاري الحر دول الخليج العربي وهذا يضمن حرية انتقال رؤوس الأموال وقد روعي جعل تلك المستويات تتداخل وذلك حتى يفضي كل واحد منها إلى الاخر.. ولكي تخرج تلك التصورات إلى أرض الواقع سوف يتم العمل على خلق مشروعات ربط تعاون اقليمي من أجل ضمان السيطرة الإسرائيلية ومن أهم تلك المشاريع التي بدأت الأخبار تتناقل بعض من مقدماتها: إقامة مشاريع صناعية وسياحية وتعليمية مشتركة مع إسرائيل والعمل على انشاء خط البحر الميت إيلات على خليج العقبة وانشاء مجموعة من الطرق المعبدة تربط كلا من الأردن والضفة الغربية بالبحر المتوسط عبر إسرائيل وكذلك إنشاء سكة حديد تربط لبنان بمصر عبر إسرائيل أيضاً ناهيك عن العمل على ضخ (800) مليون متر مكعب من مياه النيل إلى إسرائيل ومد أنابيب لتصدير النفط العربي عبر البحر المتوسط مروراً بإسرائيل وربط الشبكات الكهربائية الاقليمية وغيرها من الفعاليات التي تجعل إسرائيل المحور والمركز الذي تستند عليه تلك المشاريع مما يضمن لها الأسواق والعمالة ورؤوس الأموال ناهيك عن التحكم بمداخل تلك السوق ومخرجاتها وما يترتب على ذلك من أمور مثل خفض تكلفة الانتاج والمنافسة في إسرائيل واذا تحقق هذا فإن ذلك سوف يضمن لإسرائيل تصدير سلع وخدمات تفوق قيمتها خمسة عشر مليار دولار ليس هذا فحسب بل ان الانفاق الإسرائيلي سوف ينخفض من خلال خفض خدمة الاحتياط والانفاق العسكري وابعد من ذلك فسوف تسعى إسرائيل إلى السيطرة على عدد من المجالات في العالم العربي تحت شعار «التعاون الإقليمي» ومن أهم تلك المجالات الأسواق، النفط، المياه، التحويل، والعمالة العربية الرخيصة. وعلى العموم فإن هذا المشروع يتم العمل على إعداده والتبشير به بصورة دقيقة وتنبئ إلى تلك الحقائق المؤتمرات التي تعقد في دول مختلفة من المنطقة تحت شعارات متعددة مثل التنمية في الشرق الأوسط والمؤتمرات الاقتصادية والسياسية والثقافية الأخرى مثل تلك التي عقدت أو سوف تعقد في المستقبل المنظور وكلها تهدف إلى إقامة نظام جديد مبني على أسس اقتصادية تكون بديلاً عن النظام القائم على أسس الثقافة والحضارة العربية وقد أكد على ذلك عدد من المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين والذين بشروا بمشروع دمج الشرق الأوسط وإقامة عدد من الهيئات الإقليمية التي تمهد لسوق مشتركة ومن أهم تلك الهيئات إنشاء مصرف للتنمية وتمويل المشاريع ومكتب للتنشيط السياحي وكذلك إنشاء غرفة تجارية لتشكل حلقة وصل بين القطاعات ذات العلاقة ناهيك عن مشاريع البنى التحتية التي يسعون من خلالها إلى تعميق الاعتماد المتبادل بين دول المنطقة وربطها بنظام إقليمي يصعب الانفكاك عنه وهذا يعني ان السوق الشرق أوسطية ما هي إلا أحد عناصر النظام الشرق أوسطي المقترح وهذا يعني ان انشاء تلك السوق ليس الهدف الأساسي بل هي خطوة من الخطوات التي تقربهم إلى مبتغاهم البعيد المدى ذلك ان النظام الاقتصادي المزمع إقامته يعتبر خطوة على الطريق لما هو أكبر من ذلك ألا وهو السعي إلى تغيير هوية المنطقة أي إلغاء هويتها العربية الإسلامية وتعميق تجزئتها وذلك لضمان استمرار تبعيتها للمصالح السياسية والاقتصادية للولايات المتحدةالأمريكية وضمان تحكم إسرائيل بمصير المنطقة. وعلى أية حال فقد أشرنا إلى بعض المزايا الآنية التي سوف تستفيدها إسرائيل من إقامة تلك السوق والتي سوف تؤدي بمجملها إلى رفع مستوى المعيشة في إسرائيل وكذلك خلق فرص عمل أكثر مما يشكل عامل جذب للمهاجرين اليهود. وإذا عدنا إلى المقومات الموجودة في العالم العربي والتي تغري أمريكا في وضع ثقلها خلفه وبث سيطرتها عليه نجد ان العالم العربي يمتلك حوالي 62٪ من احتياطي النفط المؤكد عالمياً و22٪ من إجمالي احتياطي الغاز الطبيعي في العالم فضلاً عن استحواذه على 28٪ من اجمالي انتاج النفط الخام في العالم و92٪ من اجمالي انتاج الغاز الطبيعي في العالم خلال عام 1995م، ناهيك عن وجود عدد سكاني كبير يصل إلى أكثر من 260 مليون نسمة مما يجعله يشكل سوقاً استهلاكية كبيرة، أما المشاكل التي تواجه العالم العربي وتساعد على جعله نهباً سهلاً فهو الفرقة بين الدول العربية وعدم الوعي الكافي بما هو يحدق بهم من مخاطر ناهيك عن المديونية التي تصل إلى أكثر من 250 مليار دولار وهجرة رأس المال العربي الذي يقدر بأكثر من 850 مليار دولار والذي يعزز اقتصاديات الدول الأخرى بالإضافة إلى هجرة الأدمغة العربية وتخلف مستوى التعليم وعدم الاهتمام الكافي بمراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية وتوطين التقنية ووضع خطط مستقبلية واضحة المعالم ذلك أن إدارتهم للأمور تتم على أساس يوم بيوم وكأنهم يطبقون قول الشاعر «غداً يظهر الغيب واليوم لي». إن الفردية في العالم العربي وعدم التعاون الفعال يجعل تلك الدول صيداً سهلاً من حيث امكانية ممارسة الضغوط على كل دولة على حدة والأدهى والأمر هي امكانية جعل بعض الأطراف العربية تساعد الطامعين ضد أطراف عربية أخرى اما طمعاً بوعود كاذبة أو انتقاماً من الطرف الآخر اوحسدا له.. ولذلك فإن القبول بالنظام الشرق أوسطي الجديد من قبل الأنظمة العربية سوف يتم بالضغط مرة وبالاكراه مرة أخرى والتفرد بكل دولة على حدة وما نسمعه هذه الأيام من قيام بعض الأطراف العربية باتخاذ خطوات جوهرية بهذا الاتجاه إلا دليل على ما نقول. وعلى العموم فإن العالم العربي لو وعى الإيجابيات الهائلة التي يتمتع بها سواء فيما يتعلق بالموقع أو الامكانيات المادية والبشرية ولو استطاعت دوله تغليب الجماعية على الفردية وعززوا منظماتهم وسرعوا إنشاء السوق العربية المشتركة الفعالة وتكاملوا فيما بينهم وأكثر من ذلك وثقوا ببعضهم وبشعوبهم لاستطاعوا أن يردوا الهجمة الصهيونية التي تسير حسب مخطط محكم تديره عقول تسلحت بالعلم والمعرفة ووضعت نصب أعينها هدفا واضحا ومحددا هو الاستيلاء على تلك المنطقة والتحكم بمقدراتها وشعوبها ان هي ظلت كما هي في سبات عميق والله المستعان. [email protected]