بعض من ينتقد العلاقة بين المعارضة العراقيةوالولاياتالمتحدة هرول الى واشنطن بأسرع ما يمكن. وجه الانتقاد كان استبعادهم او عدم التعامل معهم. فالاجتماع الذي انتج معارضين سعوا الى واشنطن تمت الدعوة اليه باعتباره ضد حلول واشنطن فتحول الى حل لأزمتها التي كانت تنتظر انضمام معارضين سُنّة الى المؤتمر الوطني. والعراقيون المعروفون بمساعدة غيرهم اكثر من مساعدة انفسهم ساعدوا ريتشاردوني في ان يكون امام رؤسائه موظفاً ناجحاً ادى مهمته على اكمل وجه. فقد حلّ مشكلة التمثيل السني في الوفد وقرب بين المؤتمر الوطني وعدد من مناوئيه. عدا ذلك فإن المعارضة التي توجهت الى واشنطن ليست هي المعارضة التي تأمل ببناء عراق ديموقراطي مستقل وحر الارادة. ان الوصاية الاميركية على العراق ليست خيالاً بل تجسدها الافعال والوسائل. اكثر من ذلك: ستكون اشد فعالية بعد اسقاط صدام حسين. والوفد الى واشنطن اقام اسبوعاً بعد انضمام آخرين اليه بدعوة من مراكز ابحاث للتخطيط لمستقبل العراق. والذين يقبلون بالوصاية هم عراقيون لا يستطيعون رفضها لانهم بدونها لن يكونوا قادة او زعماء او واجهة سياسية. وهم يغلقون الباب وراءهم مانعين اي امكان لمساعدتهم من جانب العراقيين على تشديد موقفهم وطرح ارادتهم امام الاميركيين. ان التصريحات الاميركية عن استمرار نظام الوصاية ليست للاستهلاك. على العكس من ذلك انها رسالة واضحة وصريحة: الشأن العراقي لم يعد شأن العراقيين. والبلد الذي استمر تحطيمه ثماني سنوات سيكون مؤهلاً لأخذ موقعه في المجتمع الدولي كبلد خاضع لوصاية الولاياتالمتحدة وبالتالي فلا خوف منه مستقبلاً. الوصاية تفرض صيغة لا يمكن الافلات منها: فالصيغة السياسية التي سادت حكم العراق ستتحول صيغة قومية ومذهبية. وحسب تخطيط واشنطن فإنها سترشد السنّة كيف يحمون انفسهم من الشيعة عبر اختيار ممثلين عنهم. وسترشد الشيعة كيف يحمون انفسهم من السنّة عبر اختيار ممثلين عنهم. وينطبق الامر على الاكراد والعرب. وبالتالي فإن نظام الامتيازات الصادر في العهد العثماني لحماية الطوائف المسيحية عن طريق القناصل الاوربية سيكون فاعلاً في العراق ولكن على مواطنين عرب ومسلمين واكراد تحميهم الوصاية الامريكية وهم في بلادهم باعتبارهم متخلفين وقاصرين. بهذه الصيغة المعتمدة على النسب والتمثيل تريد الولاياتالمتحدة اقامة نظام ديمقراطي في العراق تتحكم به وبمستقبله. غير ان هذه الصيغة ليست معنية بأمور اخرى مثل ازالة آثار الحروب والكوارث التي سببتها واعادة وحدة الشعب العراقي الذي ينقسم على نفسه وتوفير سبل الحياة الاخرى التي يفتقر اليها. فالديون حسب تصريحات اميركية لن تفقر الشعب العراقي الى الابد أي أنها ستفقره الى مئات السنين فحسب. وبدلاً عن هذا الفقر سينعم بالديموقراطية ويكدح لكي يستطيع البعض مضاعفة ثرواته كما كان الأمر في العهد الملكي. والعراقيون الموافقون على الوصاية الاميركية لن يفكروا في حل ازمة السكن او اعادة بناء النسيج الاجتماعي الممزق ولا بتوفير الخبز والتعليم والعمل لأنهم سيكونون مشغولين بتثبيت نظام الوصاية والفوائد المجنية منه. والاميركيون الذين يؤسسون معاهد ابحاث تربط الديموقراطية بالتحديث الاجتماعي والتكنولوجي ينسون هذا الربط في العراق اذ يقيمون ديموقراطية في بلد ضاعفوا خرابها وتهديمها وتخلفها. والديموقراطية الاميركية في العراق اذ تعتمد نظام الوصاية فإنها تضمن القضاء على آمال العراق بتحسن اجتماعي او تطور اقتصادي. تلغي الوصاية هذه اطروحة ان مهمة التغيير مهمة عراقية اذ تنوب عنها ان المهمة اصبحت اميركية، وأكثر من ذلك فإن ثمنها فرض نظام الوصاية والتدخل المباشر في العراق. ومن يدري ما اذا طالبت تركيا بالموصل وكركوك هل يستطيع وفد المعارضة في واشنطن منع الولاياتالمتحدة من تقديم مثل هذه الهدية الى تركيا مقابل شيء ما؟ فالتاريخ يكرر نفسه. وعودة الى التاريخ تذكرنا بما هو اسوأ حيث يروي توفيق السويدي احد رؤوساء الوزارات العراقية، ان مزاحم الباجة جي مثلاً الذي "دخل اول من دخل خدمة الاحتلال البريطاني بصفة ترجمان للكولونيل "نوكس"" كان "يسعى الى فصل منطقة البصرة عن العراق بكل الوسائل الممكنة لالحاقها بالهند كمستعمرة حتى ان المضبطة التي تقدمت وهي تحتوي الكثير من تواقيع البسطاء والغوغائيين من البصراويين كانت مكتوبة بخط يده". صحيح ان الدولة العثمانية ظلمت العراقيين لكن التخلص منها لايعني بالضرورة اعطاء البصرة التي اسسها المسلمون الى الهند. وصحيح ان صدام حسين دكتاتور أضر بمصالح الشعب والوطن ولكن التخلص منه لايعني بالضرورة التفريط بسيادة العراق واستقلاله ونهب ثرواته ووضعه تحت الوصاية. فالعراق ليس مجرم حرب والشعب العراقي ليس مجرم حرب. ومع هذا لم تطالب الولاياتالمتحدة بتقديم صدام حسين الى محاكمة او تطبيق القرار 688 لأنها معنية بالوصاية على العراق وشعبه واقتصاده. لايعني هذا ان نقطع الخيط مع واشنطن ونجند كل قوتنا لحربها وهي التي ستجبر حتى اولئك الذين يقفون في منتصف الطريق بين التفاهم معها والصدود عنها على التشدد تجاه سياستها هذه. غير ان البديل عن ذلك هو العمل على ان لا تكون مهمة التغيير اميركية وان لايكون ثمنها نظام انتداب او وصاية يفرط بما حققه العراق من سيادة واستقلال وتطور عبر عشرات السنين وبتضحية اجيال من ابنائه. صحيح ان المعارضة انتابتها الحيرة والارتباك منذ ثماني سنوات كما انتابت كل العراقيين عما يجري وجرى. لكن هذه المعارضة لم تستطع ان تعترف بانها اكثر من اتجاه واكثر من ميل، وان شعار اسقاط النظام لم يوحدها لأن هذا الشعار لا يفعل المستحيل. والولاياتالمتحدة التي تعتقد أنها وحدت المعارضة لم تفعل سوى انها جعلت المعارضة ومن وراءها الشعب العراقي قابلاً للقسمة على اثنين او اكثر. فضلا عن اضافة مشكلة اخرى تخص الشريف علي الذي تتحفظ عنه دولتان عربيتان اساسيتان في جوار العراق على الولاياتالمتحدة اجبارهما على التعامل معه. والمعارضة التي ذهبت الى واشنطن مطمئنة الى قبول الوصاية الامريكية سحبت الوسط معها ونجحت في ابقاء المعارضة الاخرى اذا كان تقسيم اليمين والوسط واليسار بعد الثورة الفرنسية قابلا لإعادة التوصيف الحيادي وليس الايديولوجي فلنستعمله اذن اي المعارضة اليسارية وبضمنها الشيوعيون والاسلاميون والقوميون والديموقراطيون المستقلون لم تستطع ان تمنع اليمين من التعاون مع اميركا كما لم تستطع ان تكون اداة ضغط على هذا اليمين لكي يقوى ضد الوصاية الاميركية على القرار العراقي ورسم معالم المستقبل وفق المشيئة الاميركية بتصورها انها الطرف الوحيد في اسقاط نظام الحكم في العراق. فالمعارضة ليست طرفاً في عملية اسقاط النظام ليس فقط حسب التصريحات الاميركية ومجالس ريتشاردوني في لندن انما حسب المعارضة ذاتها فهي لا تملك الوسائل اللازمة لذلك ولا تقوم باي فعل بهذا الاتجاه. والجنرال زيني نفسه يحشر انفه دائما في هذا الموضوع ويصرخ بأعلى صوته : لن نسلح المعارضة العراقية. وهو يعرف ان المعارضة لن تسلح، ولكن يبدو ان الولاياتالمتحدة تستعير معالم السياسة الاسرائيلية تجاه العرب والفلسطينيين، اي سياسة الحمائم والصقور. يشكو ريشاردوني من عدم قدرة المعارضة على التجمع او اسقاط النظام. وهو نفسه لا يكف عن التعريض بالمعارضة ودورها ومكانتها دون ان يجادله احد. وذهبت التصريحات الاميركية بعد لقاء اولبرايت للوفد الى حد نفي اية صلة للمعارضة ووفدها بعملية اسقاط النظام او اعطاء دور او موقع في مستقبل العراق ل "زعماء" المؤتمرالذين عرضهم ريتشاردوني على رئيسته. وهو بهذا يبرر للولايات المتحدة ان تنقل المهمة الى عهدتها بينما تجري المياه الاميركية تحت المنازعات لتحقيق عملية لاغتيال صدام حسين او قتله والمجئ بشخص قريب منه يبقي حزب البعث في الحكم او القيام بعملية انقلاب قصر محدودة تفتح الباب للاميركان لتلقي بالواجهة التي صنعتها في طريق آخر؟ هل كان الافضل للمعارضة العراقية ان تبقى بانتظار البرابرة، كما في قصيدة الشاعر كفافي، فيكون لديها شغل شاغل ؟ من سوء حظ الانطاكيين ان البرابرة لم يأتوا. ومن سوء حظ المعارضة العراقية ان البرابرة قد جاؤوا. * كاتب عراقي، لندن.