على مثال يعرفه أهل المدن التي عاشت زمناً طويلاً في الحرب والحصار، ولا يعرفه غيرهم ربما، كان الدخول في الحرب فعلاً، والإقرار بها وبحلولها محل الواقع الذي سبقها وكانت الحياة تجري عليه، من أصعب الأمور على أهل بلغراد. والمقارنة بين بلغراد اليوم وبين بيروت في ربيع عام 1975، في الأسابيع الأولى من حربين مختلفتين، تكاد تكون أمراً لا مهرب منه ولا مفر. فالمشاعر الأولى التي تستولي على أهل المدن الداخلة في الحرب - دخول النائم الحالم في حلمه - تنزع إلى إنكار وقوع الحرب، والى الاستمرار على المسلك اليومي العادي والمألوف في الوقت الذي سبق الحرب ووقوعها. فلم تكد الأيام الثلاثة الأولى، غداة الرابع والعشرين من آذار مارس وابتداء الطيران الأطلسي القصف، تنقضي، وينقضي معها الذهول الذي أصاب أهل العاصمة الصربية وأخلى ساحاتها وطرقاتها من المشاة والسيارات والأضواء، حتى "احتفل" أهل بلغراد، على قول صحافي إسباني بقي في المدينة، جموعاً حاشدة ومتدافعة، بنزولهم إلى الطرقات والساحات، واستعادتها من الخوف وانتزاعها من العزلة والوحدة. فكانوا ألوفاً كثيرة في ختام الأسبوع الذي شهد أعمال القصف الأولى وكان ابتداء القصف يوم خميس، ملأوا ساحة الجمهورية والطرق المؤدية اليها والمتفرعة عنها، وتحلقوا حول فريق موسيقي عزف للجميع تلبية لدعوة وجهتها بلدية بلغراد. وعزف الفريق في الهواء الطلق موسيقى البوب والروك والفولك. ورقص الجمهور، فتياناً وفتيات وشباناً وكهولاً ومسنين، على أنغام العزف، واستجاب شعارَ البلدية: "الموسيقى تشدنا منتصبين". وأوَّل الراقصون رقصهم تحدياً للقصف، وانتصاراً على الخوف، وشجاعةً وقوةً. ولم يلبث الراقصون أن تحولوا، وهم يرقصون، إلى متظاهرين، فأخذوا يشتمون، على أنغام الموسيقى، كلينتون، الرئيس الأميركي، وخافيير سولانا، الأمين العام لحلف الأطلسي، ويكيلون لهما السباب المقذع. وتحسر بعضهم على ضعف ميلهم إلى اللواط، ونسبوا إلى أنفة الصرب من هذا الضَّرب من "الجنس" سلامة السيدة أولبرايت، وزير خارجية الولاياتالمتحدة الأميركية، ونجاتها بنفسها. وتركت جماعة من الراقصين المتظاهرين الساحة الكبيرة إلى طريق قريبة تقع فيها مراكز ثقافية أوروبية وأطلسية. فدخلوها، بعد أن حطموا أبوابها وزجاجها، وأخرجوا الكتب والملصقات والنشرات منها، وجعلوا من الكتب والنشرات والورق والخشب ركاماً أشعلوا فيه النار. وبينما كانت النار تأكل ما أطعمها إياه المتظاهرون، ويهمس بعض المتظاهرين على حدة أسفهم على الكتب والدوريات "الجيدة" التي كانت المراكز الثقافية تحوي بعضها، كتب آخرون على جدران المباني الشتائم الصريحة والنابية. وما يصنعه الجمع وهو يداري خوفه وهلعه، ويستعيد شجاعته، يصنع بعض الأفراد مثله. فيروي الكسندر بوغوييفيتش، الأستاذ في معهد الفيزيك ببلغراد وخريج جامعة كولومبيا، بواسطة شاشة الأنترنت وموقعه على الشبكة، ما تصنعه بنتاه حين تتردد في سماء بلغراد أصداء الطيران، فيقول مفاخراً ان "استراتيجيتهما" في أثناء التحليق ثابتة، وهي إخراجهما لسانيهما وتصويبهما نحو مصدر الدوي. ويقول أستاذ الفيزياء الأميركي واليوغوسلافي أن كثيرين من أهل بلغراد يرفضون الاحتماء بالملاجىء تحت المباني، ويصرون على البقاء في منازلهم وشققهم حين تدوي صفارات الإنذار ويلاحظ سينمائي شاب، يسمي نفسه أ.ج. على الشبكة، أن صوت الإنفجار يسبق دائماً صفير الإنذار. وهو يعزو الأمر إلى رفض مواطنيه الرضوخ للأطلسيين الذين يريدون، على قوله، تحويل الصرب إلى "فئران". أما بيليانا صربيا نوفيتش، الكاتبة المسرحية الشابة 28 عاماً وصاحبة العمل المسرحي الأوسع ذيوعاً وانتشاراً في صربيا، "ثلاثية بلغراد"، فتأنف من النزول إلى ملجأ مبناها لأن الفئران تزدحم فيه وتنازع الناس اللاجئين عليه. وقد تتكافأ الحجتان ويتكافأ التعليلان. ويبقى عسيراً على أهالي مدينة تقصف قصفاً عنيفاً، ولم تعتد الحرب بعد ولم تعقلها، ولا عقلت ما يترتب عليها من نتائج تتطاول إلى الحياة اليومية وبالأحرى النتائج السياسية العامة، يبقى عسيراً عليهم الرضوخ لمترتبات الحرب الفردية والعائلية، والإقرار بالوقائع التي توجبها الحرب. ويعزو مراسل "إلْ باييس"، الإسبانية، خروج أهل بلغراد ليلاً إلى جسر برانكوف، على نهر السافي، بين الشطر القديم والشطر الجديد من المدينة الصربية الأولى، لحماية الجسر من قصف الطائرات الحربية، إلى نازع انتحاري جمعي هو ثمرة مريرة من ثمار التعصب والتضامن القوميين. وهذا النازع الانتحاري عينه حدا بالصربيين عموماً، وبأهل بلغراد خصوصاً، على اتخاذ رسم الدوائر المتسعة حول نقطة التصويب في تمارين إطلاق النار شعاراً. فإعلان النفس مرمى، وإشهار الصدور، والسيارات والفنادق والمطاعم والحافلات والمباني، أهدافاً للتصويب، يشبه الشعار الخميني والحزب: "اقتلونا فشعبنا سيعي أكثر"، والشعار الآخر: "اقتلونا فالموت لنا عادة". ويؤدي الدخول في الحرب، أو دخول الحرب وتناولها على شاكلة النائم الحالم أو "الشهيد الحي" الخميني إلى تبديد علاقات الحياة اليومية والعادية، والى نفي قسرها وجزئياتها. فتنشأ عن النوام الجمعي والعصبي علاقات تشبه الإلفة التامة بين أهل العصب. فتتشابك أيدي الناس الراكضين إلى جسر برانكوف، والمغالبين النعاس، وهم لا يعرف بعضهم بعضاً، ويرقصون معاً، ويضحكون، ويفترشون الأرصفة والإسفلت. وترتفع الحواجز التي تحجز بينهم وهم يلابسون حياتهم العادية. فلا يرى متظاهرو عام 1996، الديموقراطيون والمطالبون بانتخابات بلدية نزيهة كان ميلوسيفيتش يتولى تزويرها المنظم، لا يرى هؤلاء غضاضة في مخالطة أمثال تزيليكو راجنا توفيتش، مجرم الحرب المعروف ب"أركان"، والإستماع إلى الموسيقى، ظهر كل يوم، في معيته. فكأن اجتماع العداء كله على عدو ظاهر وملموس، هو الطيران الحربي الأطلسي، يوهم بارتفاع البعد والمسافة والجفاء من بين أهل العصب الواحد الذين يقتصر تعريفهم على عصبهم. فيروي شهود عيان أن من نتائج الحرب في بلغراد تدني الجريمة العادية تدنياً يسوغ الكلام على اختفائها. ومنذ اندلاع الحرب أقلع سائقو سيارات النقل الفردية التاكسي عن تقاضي بدل اعتباطي، على ما كانوا يفعلون، والتزموا التعرفة الرسمية المعتدلة. وفتحت المسارح أبوابها، مجاناً، للرواد، وقدمت مواعيد عروضها إلى أوقات نهارية أو مسائية قريبة من وقت العصر. وحذت صالات السينما حذو المسارح، وقصرت أشرطتها على روايات البطولات والتحرر من النازية. وكانت الفرق الموسيقية سبقت هذه وتلك إلى العروض العامة من غير لقاء ولا ثمن. وتحول التلفزيون الرسمي إلى أداة دعاوة وتحريض، وانفرد، بعد إغلاق القناة المعارضة، ببث الأخبار المركبة، وأوقف حلقات المسلسلات الأميركية اللاتينية، مثل المسلسل الفنزويلي "انقلاب الصورة"،. وكانت قناة "بينك" ما زالت تبث المسلسل المكسيكي "إسمرالدا" إلى أواخر نيسان أبريل المنصرم. وينبغي أن يكون أصاب وسائل الإعلام ما أصاب الأجهزة الكهربائية كافة غداة استعمال الحلفاء غبار الغرانيت. ولا يستغرق الغناء والرقص وشبك الأيدي وارتياد المسارح وصالات السينما ومشاهدة التلفزيون، أوقات الحياة كلها. فمع اتساع القصف وتطاوله إلى أهداف متكاثرة، ومع قرار حظر النفط وتشديد الحصار على صربيا، لم ينفع تخزين المحروقات في الملاجئ، ولا تخزين الماء في الأواني البيتية القليلة السعة. ولم يبق في وسع المعيدة في جامعة نوفي ساد، ومدرسة الآداب الانكليزية والأميركية فيها، ومراسلة الشبكة، الإدلال بعودتها، شأن جاراتها ومثيلاتها، إلى مساحيق الزينة والتبرج، وإلى طلاء الأظافر، بعد أيام قليلة على ابتداء القصف. فاضطرت حكومة ميلوشيفيتش، على رغم هتاف وزير الإعلام الصربي مترجم "خريف البطريرك" لماركيز إلى الصربية "ىحيا الموت"، إلى تقنين توزيع المحروقات. وهذا يجر عجز الأفران عن تلبية طلب الخبز، والتقليل من استعمال الكهرباء ومن الانتقال... وحمل اشتعال الجبهات، واضطرار الحكم إلى القيام بأعمال الإغاثة في مواضع متباعدة، إلى تعبئة الإحتياط والدعوة إلى الخدمة العسكرية. فوجد الشبان أنفسهم متنازعين بين القتال دفاعاً عن "مهد صربيا"، على ما يصفون إقليم كوسوفو، وبين النجاة بأنفسهم هرباً من حرب مجنونة، أخذوا يدركون يوماً بعد يوم تبعة سياسة ميلوشيفيتش، ومماشاتهم هذه السياسة وسكوتهم، عنها. فهرب من استطاع منهم من الإلتحاق. وظهرت فئة من الشبان جديدة همُّها البحث عن شقق خالية، والمبيت فيها، ومقايضتها الواحدة بالأخرى، اتقاء تقصي الشرطة العسكرية وتعقبها الفارين من الخدمة. وبعض هؤلاء يحاول ترك الإتحاد اليوغوسلافي كله، ويقلِّب النظر في الطرق المتاحة - وهو يسهر مع الأصدقاء المنتشين في حانات عمد أصحابها إلى ستر صور الكوكا كولا الأميركية بأوراق لاصقة حمراء -: فإما التخفي في مقطورات السكك الحديدية الرائحة إلى رومانيا قبل الحظر، أو نزول الدانوب سباحة قبل تدمير الجسور عليه... فالخروج من صربيا هو طريق الخروج، الوحيدة ربما، من حال النوام التي يدخلها المقبلون على الحرب إقبالهم على الأعياد. وقد يريد البقاء ويختاره من يحاول ألا يقضي، ويحفظ عقله سليماً ويحميه من هجوم الجنون العصبي السائد، ويرى أن التحدي الفعلي هو هذا، أي مدافعة الجنون والنوام.