أخطاء حلف شمال الاطلسي الاستراتيجية والعسكرية والسياسية في البلقان مدهشة ومحرجة وقد تكون معيبة، الا ان استغلالها بما يقوّي تعنت بلغراد ويرسخ نتائج التطهير العرقي بتشريد حوالى المليون من كوسوفو فانه إثم وجريمة اخلاقية. الصين محقة في غضبها من حادثة ضرب حلف "الناتو" لسفارتها في بلغراد، وقد يكون من حقها ان توظف الحادثة لفرز اكثر من مسألة في العلاقة الثنائية الاميركية - الصينية ان كان تجاذباً او تفاوضاً، انتقاماً او تحسباً. اما وان تجعل من الحادثة اداة لاجهاض اسس ومبادئ التسوية السياسية التي اتفقت عليها روسيا والدول الصناعية السبع الكبرى، فان في ذلك مغالاة جامحة وانتهازية خطيرة. فإذا اصرّ قادة الصين على "استحالة" السماح ببحث مجلس الأمن ناحية التسوية السياسية طالما لا يوافق حلف شمال الاطلسي على وقف القصف مسبقاً بلا شروط، فيجب على حلف شمال الاطلسي ان يكثف القصف على صربيا الى حين اعادة بكين النظر في حساباتها. ولربما يكون "جر" الحل الديبلوماسي بمثابة "رب ضارة نافعة". فالقصف مستمر والحرب لم تنته طالما ان بلغراد تتلاعب على ظروف وشروط احتمالات موافقتها النسبية على مبادئ التسوية السياسية. وعليه، ان الدمار دمار صربيا، ومعادلة "انتصار" الصرب بالاحتفاظ باقليم كوسوفو مفرّغاً من السكان غير الصرب ليست نتيجة حاسمة، طالما القصف مستمر والحرب لم تنته. قد يبدو ظاهرياً ان اطالة البحث عن حل سياسي هي لصالح بلغراد والرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش لأن الفسحة الزمنية تمكنه من استكمال "تنظيف" الاقليم من سكانه وثانياً، تجعل عودة المشردين مستبعدة اكثر، وثالثاً، تمتص من اي استعداد لدى حلف شمال الاطلسي لحسم الحرب عسكرياً وتجعله اكثر استعداداً للتنازل والمساومة، ورابعاً، تفسح مجالاً للمزيد من الاخطاء التي تعرّي هذا الحلف وتجعل عظمته هزيلة. كل هذا وارد بالتأكيد. الا ان الفسحة الزمنية ليست عبارة عن فاصلة في جملة العمليات العسكرية الجوية، وحلف شمال الاطلسي يرفض التوقف الموقت عن القصف فيما تُبذل الجهود الديبلوماسية. فلو فعل ذلك لتورط في معمعة المفاوضات السياسية المطوّلة ولكرّس رسمياً "انتصار" ميلوشيفيتش "وانهزام" حلف شمال الاطلسي في حرب البلقان. وفي تلك الظروف تصبح الفسحة الزمنية قطعاً لصالح بلغراد. اما وإذا تمسك حلف شمال الاطلسي، كما يجب، برفض وقف القصف كشرط مسبق للتسوية السياسية، فالعبء يبقى عبء بلغراد، لتقرر اما الموافقة على شروط التسوية او استمرار حرب الاطلسي عليها. منطق الصين المصرّ على "الوقف الفوري للقصف العسكري الذي يقوم به الناتو ضد سيادة دولة يوغوسلافيا من اجل ايجاد الاجواء المواتية لحل سياسي"، حسب تعبير السفير لدى الأممالمتحدة، كين هاوصن، منطق خلاصته بأن الصين تريد مساعدة ميلوشيفيتش على تحقيق غاياته. اما الاصرار، حسب تعبير هاوصن، على "اي شيء اقل من ذلك يجعل من المستحيل لمجلس الأمن ان يناقش اية خطة لحل المشكلة"، فانه عملية تعطيل قد لا تلاقي ترحيب روسيا. فروسيا قررت الانخراط في البحث عن تسوية سياسية توقف الحرب وضمنت موافقة حلف شمال الاطلسي على اعادة موضوع كوسوفو والبلقان الى الأممالمتحدة واعتبرت هذه الموافقة انجازاً. وقد بدأت الأسبوع الماضي الاستعدادات للتوجه الى مجلس الأمن بخطة متكاملة لمعالجة الازمة سياسياً بعناصر تتضمن انشاء قوة دولية تضمن حماية عودة المشردين الى كوسوفو. ثم جاءت حادثة قصف السفارة الصينية وجاء معها الموقف الصيني الرافض السماح لمجلس الأمن بحث خطة التسوية قبل التوقف التام والفوري لعمليات القصف. الفارق بين موقفي موسكووبكين ليس في شأن وقف الناتو للقصف ذلك ان موسكو ايضاً طالبت بوقف القصف كخطوة اولى في عملية التسوية. الفارق ان الصين تضع البحث في خطة التسوية رهينة وقف القصف فيما روسيا تولي أهمية بالغة لناحية استعادة مجلس الأمن دوره في صياغة خطة تسوية وتعتبر وقف القصف جزءاً منها. الملفت ان حجة روسيا وراء المطالبة بوقف القصف ارتكزت الى منطق عدم التمكن من انسحاب القوات الصربية من كوسوفو فيما القصف مستمر. ثم جاء اعلان بلغراد بأنها نفذت انسحاباً جزئياً لم تعلن عن حجمه ليطال من صلب المنطق الذي تبنته روسيا. فأما ذريعة ضرورة وقف القصف غير ضرورية اذا نفذ الصرب فعلاً الانسحاب الجزئي، او ان مزاعم الانسحاب كانت باطلة. وعلى اي حال ان الانسحاب الجزئي التجميلي ليس سوى مناورة للقفز على المطلوب واهدافه. فتفاصيل الانسحاب فائقة الأهمية ليس فقط لجهة النسبة وانما ايضاً لجهة ترابط الوقف الموقت للقصف باستكمال النسبة المتفق عليها. عناصر خطة التسوية لا تتحدث عن انسحاب كامل القوات الصربية من كوسوفو انطلاقاً من ان الاقليم تابع ليوغوسلافيا وان الهدف المنشود هو حكم ذاتي موسع وليس الاستقلال. بلغراد تريد بقاء اكبر حجم ممكن من القوات الصربية في كوسوفو، وعددها اليوم يفوق 40 الفاً، بهدف استمرار السيطرة على المعادلات الاثنية الجديدة ومنع عودة المشردين الى مناطق معينة في الاقليم. وللسبب ذاته ان بلغراد ترفض قوة دولية فاعلة تفرض اعادة المشردين تتمتع بصلاحية مدعومة عسكرياً لتنفيذ الولاية المنوطة بها. وهي تريد وقف القصف ثم التمهل في التفاوض والمماطلة للاستفادة من الفسحة الزمنية الديبلوماسية. حلف شمال الاطلسي يريد ان يعرف تفاصيل الانسحاب وتفاصيل القوة الدولية قبل التوقف عن العمليات العسكرية استدراكاً لغايات استغلال الفسحة الزمنية الديبلوماسية. فكيف يتم الانسحاب، وضمن اية فترة زمنية، وبأي حجم؟ كل هذه الامور تفاصيل لها علاقة وطيدة بقرار وقف القصف وتوقيته، وإن كان بصورة دائمة او موقتة. فللزعيم الصربي سيرة معروفة في مجال التلاعب والمماطلة والتملص من الالتزامات. وأسوأ ما يمكن ان يحدث هو الركون الى حسن نواياه بلا تأهب او مراقبة ومتابعة. لكل هذه الاسباب ان موقف الصين، على رغم انه ينطلق اساساً من مبادئ ثابتة ضد التدخل في شؤون دولة اخرى وضد استخدام القوة العسكرية بلا صلاحية دولية وضد "اقحام" الشؤون الانسانية في "قدسية السيادة"، يبقى موقفاً متعصباً في غض نظره عن مقومات معالجة ازمة البلقان وخلفية اندلاعها. فالصين لم تتقدم، ولو مرة، بأفكار تنطوي على أية حساسية نحو مأساة الذين وقعوا ضحية الممارسات الصربية التطهيرية وتمسكت بما تسميه "المبادئ" التي تتحكم بعلاقات الدول وتجاهلت تماماً كل القيم وكل المعاناة وكأن مليون مشرد في تعدادها مجرد مليون نملة. روسيا على الأقل تسعى، اما الصين فانها تتربع على عرش جبروتها ترفض "الانحدار" الى قاع الأخذ في الاعتبار "عنصر" الناس. انها دولة تحيك العظمة كأمة، تدرك ان مصلحتها الوطنية تتطلب منها الترفع على نسبة مئوية ضئيلة من القطيع الذي باسمه تتحدث عن "الشعوب" وطموحاتها. ثم ان امثولة كوسوفو، اذا لم تتخذ بكين موقفاً صارماً منها، قد تفجّر وتعرّي ممارساتها المماثلة في شأن "اقاليم" مشابهة اكثرها شهرة مسألة التيبت. قراءة ما في ذهن الصين، حكومة وشعباً، مهمة شبه مستحيلة. ومسيرة الصين، على الصعيد العالمي وفي اطار العلاقات الثنائية مع الولاياتالمتحدة، تثير الاعجاب. فللصين وزنها ومقامها في الاعتبارات الاميركية، وقد افلحت في فرض اولوياتها وكلمتها على الساحة الاميركية التي توليها بكين اهمية بالغة. في الوقت ذاته، تعتبر الصين ان في يدها خيار "الكتلة البشرية" ليس فقط بسبب تعداد سكانها وانما ايضاً في ضوء احتمالات تفاهمها مع الهندوروسيا. فتلك "كتلة بشرية" رهيبة ذات حضارات عميقة وقديمة وما تحتاجه هو التكنولوجيا المتفوقة التي تمتلكها الدولة العظمى الراهنة والتي في نظرها لا تستحق منصب الدولة العظمى الوحيدة في العالم لأنها جديدة بلا حضارة عريقة وبدون تاريخ في تجارب "قيادة" الشعوب. مزيج الحسد والتحقير قد يكون وراء فورة الصين احتجاجاً على حادثة قصف سفارتها في بلغراد. فلو ارتكبت دولة غير الولاياتالمتحدة الخطأ لكانت بكين قبلت اعتذارها لكن تكرار بيل كلينتون "اعتذر وآسف" ليس كافياً لبكين لأن في ذهنها سلسلة واضحة لها، حلقاتها مفقودة في منطق الآخرين. ان تطالب الصين بعملية تحقيق يُعاقب على اثرها من ارتكب خطأ قصف السفارة امر معقول وفي محله. ان تغضب، حكومة وشعباً، وتطالب حلف شمال الاطلسي بتفسير مزاعمه بالتفوق الاستخباراتي وارتكابه حماقة على نسق قصف السفارة الصينية، طلب واقعي. اما ان تسمح الحكومة الصينية للمتظاهرين بمحاصرة السفارة الاميركية، وان تنقل المحتجين في باصات لرمي الحجارة على السفارة، فان وراء ذلك اكثر من معادلة في الحساب. والغضب المتبادل بين اميركا والصين مادة حية هذه الأيام. فالغضب المبرمج في الصين يعني خروج مئات الآلاف الى الشوارع بل الملايين. اما الغضب الاميركي فانه يتمثل بصك قوانين او معارضة تشريعات. فالاجواء الاميركية مفعمة بالغضب نتيجة التهم بالرشوة والتجسس التي توجه الى الصين بسبب ما كشفت عنه الانباء في الفترة الاخيرة. فهناك ادعاء بأن الصين قامت بسرقة التكنولوجيا النووية وتكنولوجيا الاقمار الصناعية وبأنها وظفت جواسيس وسعت وراء "شراء" تعاطف الحزب الديموقراطي مع مطالبها عبر الرشوة والفساد. وفي الآونة الاخيرة، يوجد انزعاج من محاولات الصين استغلال خطأ قصف سفارتها لغايات لا علاقة لها بالبلقان تصب في خانة العلاقات الاميركية - الصينية الثنائية وفي خانة "حلب" واشنطن بقدر الامكان لأهداف تمتد من العضوية في منظمة التجارة الدولية الى المواقف من تايوان. يوجد ايضاً نوع من الترقب، وربما التمني، بأن تكون وصفة القيادة الصينية سمّاً لها، فالمظاهرات التي خرجت لتحتج على حلف شمال الاطلسي وتعبر عن الكراهية لأميركا، تبدو منظمة وتحت السيطرة الحكومية. لكن لذّة التعبير عن الرأي قد لا تبقى موقتة، وقد تواجه القيادة الصينية عملاقاً اطلقته من قمقمه، اذا طال أمد المظاهرات. لذلك، يرجّح ألا تدوم فترة "التعبير" عن المشاعر الشعبية الصينية، ليس لأن الكراهية انحسرت وانما لأن اعتبارات "السيادة" تقتضي ضبط الحسابات السياسية و... المشاعر ايضاً. كل هذا لا علاقة له بقضية كوسوفو سوى لدرجة توظيف القيادة الصينية مسألة البلقان لغايات ثنائية او لمبادئ ذات علاقة بالسيادة والقوانين الدولية بمعزل عن "حشرة" تسمّى الناس ومعاناتهم. امام مثل هذه المعادلات، ان حلف شمال الاطلسي مطالب اليوم كما أمس كما غداً بأن يصرّ على ربح حرب البلقان لأنه دخلها، رغم القوانين الدولية، لأهداف تتحدى تقاليد وضع سيادة الدول والحكام فوق سيادة حقوق الافراد والشعوب. فالحلف يبحر في مياه جديدة، وإذا خرج من هذه الحرب منسحباً مهزوماً لسحق أية ثقة بعزمه وبنواياه.