تعاقبت أجيال عديدة من المهتمين الغربيين بقضايا العالم العربي. تأثر كل جيل بالسياق التاريخي والسياسي الذي حدد فيه موضوعاته ومناهجه وصاغ ملاحظاته وأحكامه. وتعرضت هذه الحركة الثقافية، في أبعادها الإيديولوجية والعلمية، لأنماط متنوعة من النقد. لكنها تبقى، على رغم كل الملابسات المحيطة بها، تجربة خلخلت كثيراً من الرؤى العربية الإسلامية الى الذات والى الآخر. تندرج كتابات المستعرب الفرنسي "آلان روسيون" ضمن المجهودات الفرنسية الجديدة لإعادة قراءة وفهم الأنظمة العربية المختلفة لإنتاج المعنى. وهو يلح، في كتاباته عن التاريخ السياسي ولا سيما المصري، على الكشف عن الآليات العامة المولدة لعناصر الهوية. فاهتمامه بفكرة الإصلاح - وهذه تشكل انشغالاً محورياً في عمله - أو بأدب الرحلة، يكيفه في إطار ثقافي وتاريخي أشمل يتعلق بالتمظهرات المختلفة التي عملت الثقافة العربية الحديثة على انتاجها لتسمية التراث والواقع والغرب. و"آلان روسيون" حين يقوم بذلك فمن منطلق المتمكن من اللغة العربية، الملتزم بالمناهج الحية للعلوم الاجتماعية، المواكب لحركة الفكر بين ضفتي المتوسط. هنا لقاء معه. كيف تحدد أبحاثك ومجالات تفكيرك قياساً الى ما يقدمه الباحثون الفرنسيون الجدد عن العالم العربي؟ - لا يملك المرء اختيار سلالته العلمية الخاصة بالضرورة عندما ينخرط في مجال بحثي ومهني محدد، هناك تراث استشراقي يصعب تفاديه، لأنه وضع، بشكل كبير، نمطاً علائقياً تداخل فيه ما هو سياسي وثقافي وروحي بين "العالم العربي الإسلامي" - وهذه تسمية في حد ذاتها تدعو الى المساءلة والحذر - وبين فئة من المختصين تتفاوت كفاءاتهم وسمعتهم وارتباطاتهم بموضوعات بحوثهم. لا يمكن التنكر للذين سبقونا أو القفز على مكتسباتهم. نحن نتاج تراث محدد. وحينما أستعمل صيغة "نحن" أقصد أبناء جيلي الذين تتراوح أعمارهم بين الأربعين والخمسين سنة. وأعتقد أن من بين الموضوعات التي تشغلنا تتمثل في تحليل الطرق التي أقامها "آباؤنا الروحيون" أي المستشرقون والجامعيون، مع العلم ان جل هذه الطرائق تكونت، في الغالب الأعم، في السياق الاستعماري. لا شك أن الأمر يعود الى ما قبل هذه المرحلة، لكن ما يهمنا هو أن هذه الطرائق تم انتاجها ضمن نظام علائقي يطغى عليه منطق المواجهة، حتى وان تم ادخال تنويعات اغرابية ورومانسية فإن الفترة الاستعمارية تمثل قطيعة كبرى في هذه العلاقة. لقد تم تشكيل الصور المتبادلة بين العالمين العربي والإسلامي والأوروبي في ظل هذا النظام العلائقي، بما افترضه من أحكام ومواقف من الحداثة والأصالة، الأمر الذي خلق مجموعة من "البؤر" المنتجة للعناصر الهويتية للطرفين. كيف تحدد موقعك قياساً الى الجيل الحالي الذي يتخذ من "العالم العربي الإسلامي" موضوعاً للبحث والتفكير، أمثال، "جيل كيبيل"، أوليفيي روا"، "أوليفيي كاري"، "برونو ايتيان".... إلخ. - أنا أحاول التموقع في سياق القطع مع مرحلة ما بعد الاستشراق. انني أحدد الاستشراق أو النزعة الإصلاحية - التي سنرجع اليها فيما بعد - باعتبارهما نظامين منتجين للمعنى. ويظهر لي ان ما هو مستعجل يتمثل في التفكير في أنظمة التمثل المتبادل، على أن لا تبقى، أو على الأقل أن لا تبقى بشكل استثنائي مبنية على هويات انعكاسية. لأن هناك، في الجهتين، هويات متعددة، تخضع تراتبيتها لاعادة تركيب مستمر. ان يوجد مسلمون أو عرب أو أمازيغ أو مصريون أو مغاربة إلخ...، ومن الجهة الأخرى الغربيون، المسيحيون، الفرنسيون أو الأميركيون... إلخ، والمشكلة تتمثل في كون المعنى الذي ننتج ضمن أنظمتنا الرمزية يتمفصل بشكل عضوي مع هذه التنويعات. ويبدو لي من الخطورة السياسية بمكان اختزال فاعل معين في الهوية الخاصة التي يطالب بها، أو أن نعرّف أنفسنا استناداً الى الهوية التي ندعي تمثيلها. يفضي ذلك الى انتاج حالات مختلفة للإلغاء والإقصاء، وهذه الحالات بقدر ما تأتي من التاريخ الذاتي الخاص تتولد أيضاً من التفاعلات مع الآخر. وهذا ما يزج بالمرء في حمى البحث عن الصور النمطية والأحكام المسبقة، وعما كان ولم يعد كأن نقول مثلاً، انظروا كيف كانت الحضارة الإسلامية في السابق، وكيف هي عليه اليوم، انظروا ما جرى لحلم الوحدة العربية من انكسارات وتمزقات، وكيف هو الواقع العربي الآن. إذا ما تمكنا من الخروج من الثنائيات المتحكمة في حقول البحث عن العالم العربي سنخطو خطوات لا بأس بها الى الأمام، خصوصاً وأن حقول بحثنا في العلوم الاجتماعية، على الصعيد المهني الخالص، تتقدم بتحليل شروط انتاجها الخاصة سواء كان علم الاجتماع والأنتروبولوجيا أو العلوم السياسية، سيما على مستوى البحث الفرنسي في هذه الفترة، أي تحليل شروط انبثاق وانتاج خطابات متخصصة في العمارة والتفكير في الصحة والسياسات الاجتماعية. ولذلك يصعب تجنب القيام بنقد للإستشراق يتجاوز ما قام به ادوارد سعيد، الذي ترك أبواباً مفتوحة كثيرة ما زالت في حاجة الى استقصاء، وأن نعترف بأن الفكر الاستعماري كان استعمارياً، وان الفكر الاستشراقي يخلق موضوعاته. لقد أنتجنا شرقاً سيء السمعة يصعب على المشارقة إيجاد أنفسهم فيه، لكن ادوارد سعيد أعفى بعض "المستشرقين" من مسؤولياتهم الذين حملوا، هم كذلك، فكراً استشراقياً، كان يقول بأن "لويس ماسينيون" كان شيخاً مثيراً للإعجاب، نعم. لكن ماسينيون نفسه كان وكيلاً استعمارياً، أو أن يقال بأن جاك بيرك كان صديقاً كبيراً للعرب. صحيح، لكن لبيرك عربه الخاصين، وحتى ولو قام بخلخلة تمثل اجتماعي وإيديولوجي للعرب لم يكن لائقاً. هل هذا التباعد الذي تقيمه قياساً الى الاستشراق أو ما بعد الاستشراق يتم على المستوى المفهومي أو المنهجي للموضوع، أم أنك ترى بأن هؤلاء الباحثين لم يتمكنوا، موضوعياً ووجودياً، من الوصول الى التحكم، فعلياً في موضوعاتهم؟ - هناك خطيئة كبرى يسقط فيها الكثير في مجالات العلوم الاجتماعية تعود، بالضبط، الى مسألة الموضوع، وأن يتم التعامل معه كأنه قضية بديهية. انني أؤاخذ مجموعة من بعض زملائي، من دون أن أذكر أسماء، وذلك حين يتقدمون باعتبارهم الناطقين الرسميين للعالم العربي بخطابات غير مسموعة أو مرئية لفئات واسعة من الناس. ليس من الصدفة أن يحصل هذا الأمر، لأن ذلك يرجع بنا الى نمط بناء هذه القرية "العلمية" الواسعة من البحث التي نتحرك داخلها. ذلك أن السلطة في "القرية المستعربة" في فرنسا، غيّرت رجالاتها، تقريباً، في نهاية السبعينات. لقد كان الجامعيون والباحثون المسيطرون، قبل ذلك، مؤرخين، لسانيين، علماء إسلاميات، وحل محلهم علماء سياسة تكونوا في سياق منطق ما بعد استعماري، حيث فقدوا، في وقت من الأوقات، اهتمامهم بالمغرب العربي، الذي تركوه يواجه مصيره لوحده على الصعيد البحثي والعلمي، لكي يركزوا فضولهم، على المشرق العربي. لماذا؟ لأسباب عديدة منها: الثورة الإيرانية، اغتيال الرئيس السادات، صعود الحركات الإسلامية... إلخ، غير أن مشكلة هؤلاء الباحثين الكبرى، تتمثل في كونهم ليسوا مستعربين، وغير متمكنين من اللغة العربية، وسعادة المجموعة التي أنتمي اليها تكمن، بالضبط، في كوننا لم نواجه هذه المشكلة اللغوية لأننا نتقن اللغة العربية، واستطعنا، بسرعة، الدخول في مؤسسات بحث سمحت لنا بالاحتكاك بالعالم العربي، في ظرفية بدأت صور نمطية عدة تتزحزح أمامنا، من قبيل الحداثة، الدولة / الأمة... إلخ. هناك مشكلة تموقع قياساً الى المرجعية الأكاديمية، والى الرأي العام والى اعادة ترتيب موازين القوى لمرحلة ما بعد الأزمة النفطية، الأمر الذي جعل الطلب الاجتماعي على معرفة ما يجري حقيقة أكثر الحاحاً. أنتمي الى العلوم الاجتماعية، وأتعامل بصرامة مع موضوعاتي وممارستي، ولهذا السبب أتحفظ على التسميات التي تطلق على بعض العلوم مثل "علم الاجتماع العربي" أو "علم النفس الإسلامي"... إلخ، هل يعني ذلك أن علماء الاجتماع يجب أن يكونوا عرباً بالضرورة حتى يحللوا الظواهر الاجتماعية العربية؟ وفي هذا الصدد كنت قد قدمت طلباً سنة 1985 للانخراط في الجمعية العربية لعلم الاجتماع، ورفض طلبي، وقد بررت ذلك بكوني أشتغل بمصر وأعرف العربية حق المعرفة ولا أرى مبرراً، من الوجهة العلمية البحتة، لرفض الطلب، فقيل لي أنني لا أحمل جنسية عربية، وأعترف لك بأنه يمكن فهم هذا النوع من المواقف، لكنني أتساءل: هل الأمر يتعلق باختلاف أنطولوجي؟ وهل لتحرك المجتمعات العربية آليات خصوصية لا تتشابه مع ما يجري في باقي بلدان العالم؟ لكن ما يثير استغرابي أكثر هو أنه بالإضافة الى الندوات والمنشورات التي تتخذ من "علم الاجتماع العربي"، و"علم النفس العربي"... إلخ، موضوعات لها، نجد عدداً لا بأس به من المثقفين العرب يصرون على استعمال لفظة "العقل" العربي بطريقة جوهرانية. لا شك أن هناك نمط وجود عربي خصوصي في العالم، لكن هل يمكن القول بأن هناك طريقة عربية خالصة في التفكير؟ هذا ما لا يمكن أن أتفق معه، ولهذا السبب أناضل من أجل ما يمكن تسميته ب"نزع الطابع الهويتي" المسيطر على النظر الى موضوعات البحث. الأمر ليس هيناً، لأنه يتناقض مع ميزات القوى المهيمن، والمصالح المختلفة. باعتبارك فرنسياً وتنتمي، بطريقة أو بأخرى، الى العالم العربي وتنتسب لضفتي المتوسط، ما هي الأسئلة الكبرى التي تشغلك؟ كيف تنظر الى المجتمع العربي؟ - من خلال سلسلة التساؤلات حول أدب الرحلة والتطورات السياسية إلخ ما يحركني، بالأساس، هو التفكير في الإنتاج الهويتي للمعنى. وهذا ما أحاول تحليله مركزاً على مسألة الإصلاح. ويبدو لي أن النزعة الإصلاحية العربية، كما هو الشأن بالنسبة للإصلاحية الهندية، وهي تتقارب معها بشكل كبير، حين نشأت في بداية المرحلة الاستعمارية وكرد فعل ضدها، تثير اهتمامي بالدرجة الأولى. أن تكون إصلاحياً على الصعد الفكرية والاجتماعية والسياسية، وليس دينياً فقط، معناه أن تقترح أسساً ل"براديغم" مضاد للإصلاح الذي يريد الآخر فرضه عليك. حصل ذلك في تركيا زمن التنظيمات، ومع تجربة محمد علي، وخير الدين التونسي، مولاي الحسن الأول في المغرب. حين يبلغ اختلال التوازن مرحلة متقدمة يجد الإصلاحي نفسه مضطراً لإيجاد وسائل للنهوض. ما قام به محمد علي. جعل منه مصلحاً وليس إصلاحياً، وأدرك أنه يتعين الإتيان بخبراء ومهندسين وبناء مدارس للتكوين، وإرسال الطلبة الى الخارج لاكتساب قواعد العلوم الحديثة واستنباتها بالبلاد. وهكذا تصير مصلحاً في الوقت الذي تدرك فيه أن هناك ثمناً يجب تقديمه، وهذا الثمن من طبيعة هويته، أي أنك حين تبعث بطلبة الى فرنسا فإنك تتوقع مسبقاً أنهم سيرجعون في هيئات مختلفة. نصبح مصلحين حين نفكر في الطريقة التي تسعفنا على تدبير هذا الثمن الذي نقدم، أي بعبارة أخرى، كيف يمكن انتاج فاعل قادر على إطلاق إصلاح مضاد لما هو مفروض عليه من الخارج؟ ماذا يتوجب عليه القيام به؟ ما هي علاقته مع ثقافته الأصلية؟ ما هي المؤسسات الملائمة التي يجب أن تحتضن تدخلاته؟ ما هي علاقات هذه المؤسسات الجديدة بالمؤسسات القديمة؟ يلخص هذا النوع من الأسئلة، بالضبط، اشكالية العلاقة التي نشأت بين الأزهر والجامعة في مصر، ومع دار العلوم بينهما. هذه مرحلة إصلاحية تأسيسية أقامت نوعاً من ميثاق للعمل الفكري، كما كان الشأن مع طه حسين مثلاً أو مع سار على منواله من الذين عملوا على إعادة تنظيم نسق المعرفة، وإعادة ترتيب نمط تقسيم العلوم الموروثة. لقد لاحظ الطهطاوي بحق أن مشكلة اللغة العربية تتمثل في الطريقة التي تنظمت بها كنظام معرفي وليس في اللغة ذاتها. فالفرنسية لغة شفافة وتتغير قواعدها باستمرار. حين تتحدث بها لست في حاجة الى تقديم تفاسير للكلمات التي تستعمل، أما بالنسبة للعربية فاستعمال لفظة يدخلنا في متاهات التفاسير والحواشي وحواشي الحواشي وما الى ذلك. المسألة الثالثة التي على الاصلاحي القيام بها تتمثل في اعادة اكتشاف التراث، سيما وأن هذه المسألة جديدة تماماً، فليس هناك تراث خالد ثابت، لأنه تكوّن في أواخر القرن التاسع عشر على الأكثر، وقد تكون في تفاعل مع الظاهرة الاستشراقية. فمثال ابن خلدون بليغ على هذا الصعيد، لذلك فاكتشاف التراث كان من اللازم أن يحصل بطريقة إشكالية، لأن ما تم التركيز عليه في عملية الاكتشاف لم يكن سهلاً تماماً، مثل الجاحظ، أبو نواس، ألف ليلة وليلة... إلخ، وهذه مرجعيات تراثية لم تكن تتوافق، غالباً، مع اتجاهات المؤسسات التقليدية. وبعد الاستقلالات طرح سؤال من نمط آخر يمكن صياغته كالتالي: ما هو المجتمع الذي نرغب في بنائه؟ وهذا السؤال يفترض النظر في الأمور التي يتعين التضحية بها مما ورثناه من الماضي لبناء المستقبل المنشود؟ عاشت مصر هذه الأسئلة من خلال عملية انتقال من نزعة مصرية ما بين 1952 و1958 الى نزعة عروبية واسعة... وقد سبق لي أن اشتغلت على مقررات في الجامعة المصرية ضمن فرع مشترك يدرسون فيه مادة كانت تعرف ب"مدخل الى المجتمع المصري"... كيف تقوّم، انطلاقاً من هذه الاهتمامات، طبيعة الإصلاحية الناصرية؟ - يمكن القول بأن هذه المرحلة تميزت بجاذبية يصعب تجاوزها، منها أن أصحاب القرار فيها لم يفرضوا أورثوذوكسية صارمة. كان هناك خط رسمي، وأهداف... إلخ، لكن لم تكن هناك مدرسة رسمية تفرض مبادئها على الجميع. على الصعيد الأدبي مثلاً، حين ترجع الى المجلات المصرية في الستينات، هناك تنوع لا يصدق في المدارس، الكل كان يتحدث عن الكل، تجد، في المجال الفني سورياليين وانطباعيين الى جانب من يدعو الى الأخذ بالاتجاه الواقعي...، كان المجال مفتوحاً، وكانت المرحلة تجريبية تسمح بكل الأفكار والنزعات، على أساس يقينيات كبرى، وهذه الأمور تمت ترجمتها في الإنتاج الهويتي للمجتمع المصري آنئذ. ولكن برزت مظاهر جديدة، ومظاهر أخرى اختفت، من قبيل حجاب المرأة، وبدأت العلاقات بين الرجل والمرأة تأخذ مضامين جديدة... من هذا المنظور كانت أمور في منتهى الإيجابية... ... لكن كانت هناك حرباً شرسة، بموازاة ذلك، ضد الإسلاميين والشيوعيين... - ... صحيح أن هذه الحرب كانت قائمة، لكن لأسباب مختلفة. كثير من الناس يقدمون العلاقة بين عبدالناصر والإخوان المسلمين كأنها صراع قيمي أساسي وجذري، لكن لم تكن هذه الصورة هي ما يعكس واقع العلاقات بينهم. لا شك أن مواجهات دموية حصلت بين سنة 1954 و1965، لكن ماذا حصل في هذه الفترة؟ لقد عملت الأجهزة الناصرية على إدماج العناصر الإسلامية والشيوعية في دواليبها، قبل الشيوعيون بذلك، ورفض الإخوان، ولكن ليس كلهم، إذ بين 1954 و1965 نملك مؤشرات عديدة بديهية تفيد حصول تنازلات متبادلة بين الإخوان ونظام عبدالناصر، منها أن أغلب منظري النظام الناصري تم استقطابهم من التيار الإسلامي، الشيخ الباقوري مثلاً، الشيخ السباعي، سوري لكنه كتب عن "اشتراكية الإسلام"، من الذي حوّل الأزهر الى أداة للسياسة الخارجية للنظام؟ انه... جمال عبدالناصر، من أطلق مشروع "موسوعة جمال عبدالناصر للفقه الإسلامي"؟، ألم يكن وراء ذلك إعادة كتابة الفقه والتوفيق بين المذاهب الأربعة، وبين السنّة والشيعة... إلخ؟ كما تم فتح "دار التضامن" في أواخر الخمسينات، وهي دار نشر أصدرت كتابات لعبدالقادر عودة، كما احتل سيد قطب مكتباً بقيادة الثورة بين 1952 و1954، قبل تدهور العلاقات بين عبدالناصر والإخوان... إلخ. ما كان موضوع صراع بينهما لا يعود الى مشكلة الهوية الاجتماعية للطرفين أو الى المشروع المجتمعي، إذ حمل الإخوان تمثلات متقاربة عن الدولة القوية التي تتدخل في الاقتصاد، وفي غيره، إلا أن إرادة الاستقلال الذاتي لدى الإخوان لم يكن نظام عبدالناصر يتحملها، إذ تصرف مع هذه النزعة باعتبارها سلطة مضادة... كانت هناك معالم لمشروع مجتمعي يبحث عن ذاته؟ - نعم كان هناك مشروع غير تناقضي، لكن نمط تدبيره السياسي خلق مواجهات شرسة بين الإخوان والنظام الناصري. أما المرحلة الثالثة من التجربة الإصلاحية، فتبدأ تقريباً في السبعينات، بعد هزيمة 67، ووفاة عبدالناصر، بل حتى وبعد 1973. مؤدى هذه النزعة الإصلاحية يتلخص في القول بأن تكوين فاعل داخلي أمر ضروري، لكنه غير كاف. وحيازة فكرة واضحة حول الموضوع الداخلي هي نفسها غير كافية. تتمثل مشكلتنا في الاستمرار في التفكير اعتماداً على مناهج مستوردة، لذلك فالسبيل الوحيد لإنتاج ما ينفلت منا منذ المرحلة الاستعمارية يبدأ في إضفاء الطابع الهويتي على أنماط تفكيرنا. وهنا برزت دعوات من قبيل إقامة "علم اجتماع عربي"، "إسلامي"، "اقتصاد عربي"، أو "إسلامي"... وهذا ما ساهم في ازدهار الحركة الإسلامية، إذ يتعين اعادة بناء الهوية على أسس إسلامية، ما أدى الى نوع من الإنسدادات السياسية، العلمية والفلسفية التي هي نتاج هذا النزوع الجامح نحو اضفاء هوية مطلقة على كل شيء. الآن، هل لك أن تحدثنا عن أبحاثك الأخيرة عن الرحلة وضمن أي أفق تتناول هذا الموضوع؟ - أنني أريد فهم الكيفية التي تحصل بها التفاعلات المختلفة التي تحدد العلاقة بين "الشرق" و"الغرب" في المدى الطويل. ويبدو لي أن للسفر وظيفة أساسية في الاتصال الذي حصل في ظروف الانفتاح. فالطهطاوي في "تخليص الابريز" يعبر عن اقتدار لافت في فهم الفروق، وحين تفكر في الطريقة التي ينتج بها معنى وضع المرأة في فرنسا مثلاً لا يمكن إلا أن يثير إعجابك. ليس من زاوية القول بالتشبه بالمرأة الفرنسية، وإنما من منظور عرض وفهم الواقع والعلاقة بين المرأة والرجل، التي تجعل من مسألة الثقة شرطاً أساسياً. أما متابعته لثورة 1830 فإنها مدهشة. كيف لشيخ معمم، ورجل بلاط، وموظف سام منشغل بموقعه الاجتماعي... إلخ، كيف لهذا الرجل أن يحكي طرد ملك عن عرشه من طرف الرعية معتقداً أنه برصده لهذا الحدث سيضاعف من أفضال الولي تجاهه، وأن يكون محقاً في ذلك؟ انني أرى اننا لم نتمكن من قراءة الطهطاوي بشكل جيد. من جهة ثانية تركز اهتمام الباحثين على الرحلات العربية الى أوروبا، سواء رحلات المصريين الشاميين والمغاربة، لكننا لم ننتبه لرحلات عربية نحو الشرق، وقد انشغلت بالرحالة المصريين الى اليابان في بداية القرن...