تبدو الحرب التجارية التي تشنها الولاياتالمتحدة ضد اوروبا في منظار المتفائلين بأنها مجرد انصياع من الادارة الاميركية لضغوط "ملوك الموز" وعلى رأسهم كارل لندنر حليف الآلة السياسية في واشنطن، وبمجرد حل هذه الازمة تعود المياه الى مجاريها الطبيعية بين طرفي الاطلسي. ولكن خلفيات الازمة تظهر انها قديمة كامنة في صميم صراع المصالح بين الطرفين، تطفو الى السطح في فترات وفق توقيت مرتبط بمقدار تخلص الادارة الاميركية من ازماتها المحلية والثنائية وفقاً لمؤشرات نجاح الاتحاد الأوروبي وتأثيره على الاقتصاد الاميركي. لكن الذين ما يزالون يعيشون عقلية مشروع "مارشال" لانتشال اوروبا من انقاض الحرب العالمية الثانية ينسون دور "الحرب الباردة" في التحالف الاطلسي، ومصلحة الولاياتالمتحدة في نهوض اوروبا اقتصادياً وعسكرياً في الخط الأول امام "الستار الحديد". ولهذا ينكرون اليوم اتساع الهوة بين طرفي الاطلسي، بمقدار نجاح الاتحاد الأوروبي في تكوين كتلة اقتصادية قوية قادرة على رسم استراتيجية دولية مستقلة ومتحررة من الهيمنة الاميركية. وتشير بدايات الحرب التجارية المتمثلة في "حرب الموز" الى انه حتى بريطانيا الحليف التقليدي لأميركا وغير المنضمة للاتحاد النقدي الأوروبي، تبدو في نظر واشنطن اقرب الى المعسكر الأوروبي في حساب المصالح التجارية. وهذا وحده ما يبرر فرض القيود التجارية على بعض البضائع البريطانية، وأبرزها صناعة الكشمير الاسكوتلندي، وهو تكتيك يرمي الى تخويف حزب العمال الجديد من فقد دعامته الاسكوتلندية في الانتخابات المقبلة. لهذا اندفع المعلقون البريطانيون لاظهار خيبتهم من التصرف الاميركي والقول انه "كان يوماً مراً لبلير، اذ تحول دعمه للولايات المتحدة في السراء والضراء الى امر مؤذ". انه درس قاس، بأن ليس للولايات المتحدة اصدقاء، وانما مجرد مصالح. وهناك التباس اساسي منذ زمن طويل في علاقة بريطانيا بأميركا، وهو ان بلير يريد علاقات جيدة معها ومع أوروبا في الوقت نفسه. والمشكلة ان الولاياتالمتحدة هي قوة مسيطرة قليلة الصبر والانضباط تجاه تحقيق ما تريد. وفي الواقع تستعرض واشنطن عضلاتها في موضوع عادي الاهمية، وتجعله عقاباً لأوروبا لأنها ترى ان الاتحاد الأوروبي لا يتحمل مسؤولياته تجاه الصادرات الآسيوية، ولا يقوم بما فيه الكفاية لتنشيط اقتصاده، ويهمل مصالح الولاياتالمتحدة. وترى ان مساعدة المستعمرات القديمة تتجلى في دعمها مباشرة عوضاً عن نظام الافضلية التجارية، ولا يخفى ما في هذه المجادلة من مراوغة، ومحاولة للتغطية على تأثير اباطرة الموز في الادارة الاميركية المستمر منذ زمن طويل. ويكاد الانقلاب الذي حدث في غواتيمالا سنة 1954 لصالح شركة "يونايتد فود كومبني" يختفي من الذاكرة لولا تسليط الاضواء على شركة "كتشوكيوتا" العملاقة التي ورثتها، وكانت وراء شن الولاياتالمتحدة الحرب التجارية على الاتحاد الأوروبي بالمشاركة مع شركة "ديل مونتي" و"دول" التي تسيطر معاً على ثلث سوق الموز العالمية. وتعتبر شركة "كتشوكيوتا" ورئيسها كارل لندنر من اكثر القوى تأثيراً على الادارة الاميركية بسبب دعم كل من الحزبين الديموقراطي والجمهوري. والغرابة ان لندنر الجمهوري تبرع للحزب الديموقراطي بمليون جنيه، وتلقى اول عربون دعوة من الرئيس كلينتون للمبيت في غرفة لنكولن في البيت الأبيض. لكنه اعار في الوقت نفسه طائرات الشركة لبوب دول المرشح الجمهوري في حملة 1996 الانتخابية ثم دفع مئة الف دولار دعماً للجنة البرلمانية الجمهورية. ولهذا يرجح انه ضغط لافتعال الازمة قبل توصل "منظمة التجارة العالمية" الى حل تفاوضي قد يكون في غير صالحه. وهي جهود بدأت حين انعقد "المجلس الاقتصادي العالمي" قبل شهر في دافوس، وأعلن المندوب الاميركي فيه ان "حكومته ستقاوم نظام الحماية الاقليمي، وتعارض الاجراءات التجارية الأوروبية". وينعقد اليوم مؤتمر طارئ لمنظمة التجارة العالمية في جنيف، لسماع شكاوى الاتحاد الأوروبي من الاجراء الاحادي الذي اتخذته الولاياتالمتحدة بالمقاطعة التجارية لپ15 صنفاً من الانتاج الأوروبي ومن ابرزه الكشمير الاسكوتلندي. وفي الواقع تضاعف استهلاك الموز في بريطانيا خلال عقد ونصف وأصبح يعادل التفاح وهو اكبر استهلاك في بريطانيا. ويستورد الاتحاد الأوروبي الموز من المستعمرات السابقة لأنه ساعد في انشاء المزارع. وبسبب الضغط من شركات الموز العالمية يستورد الاتحاد 9 في المئة فقط من الكاريبي مقارنة مع 40 في المئة من شركات الموز الاميركية الثلاث. وتنبع مخاطر "حرب الموز" من احتمالات انتشارها وتحولها الى حرب تجارية عامة. وعلى اللجنة التي تبحث الشكوى اعداد تقريرها قبل نهاية آذار مارس الجاري. وتملك أوروبا مبررات اخلاقية معترفاً بها تجاه المستعمرات التي انشأت المزارع فيها مثل جزر وند وارد وسانت لوشيا وسانت فنسنت والدومينيك، وتعتمد جميعها على زراعة الموز لأكثر من نصف صادراتها، ومن المهم اعادة توجيه اقتصادها، ويحتاج ذلك الى وقت. بدأت الانذارات المبكرة للحرب التجارية بين الولاياتالمتحدة وأوروبا في مطلع السنة الجارية اثر اطلاق العملة الأوروبية المتحدة "اليورو"، ولم تترافق مع اجراءات عملية لأن واشنطن كانت امام جبهتين مفتوحتين في آن. الأولى مع اليابان بسبب صادرات الحديد، والثانية مع أوروبا بسبب استيرادها الموز من مستعمراتها القديمة. على الجبهة الأولى انذرت مفوضة التجارة الاميركية شارلين براشفنسكي اليابان طالبة تخفيض صادرات الحديد الياباني الرخيص الى الولاياتالمتحدة والحد من تذبذب سعر "الين"، فسارع مصرف اليابان المركزي لشراء الدولار حفاظاً على سعر الين. وعلى الجبهة الثانية هددت واشنطن أوروبا بفرض قيود تجارية تكلفها 568 مليون دولار اذا لم تعدل سياسة استيراد الموز من اميركا اللاتينية. وفي الوقت الذي ما تزال علاقات واشنطن متأزمة مع اميركا اللاتينية وشرق آسيا، تبدأ حربها التجارية لمناوشة الاتحاد الأوروبي اقتصادياً قبل ان يصلب عوده، ولهذا عدّ التهديد في مطلع هذه السنة عملية اختبار لقدرة أوروبا على الحركة والتأثير في "منظمة التجارة العالمية"، التي حددت 13 أيار مايو المقبل موعداً للوصول الى صيغة توفيقية. ولهذا اعتبر الأوروبيون الاجراءات المتخذة في مطلع الشهر الجاري محاولة لقطع الطريق على اي اتفاق ودي، والتشويش على الجهود الأوروبية لبلورة سياساتها الاقتصادية وحل الازمات مع الكتل الدولية بما فيها ازمة الحديد الياباني والصادرات الغذائية الآسيوية. وسيكون الحل الودي الذي يتوقع ان تتوصل اليه منظمة التجارة العالمية في الاسابيع القليلة المقبلة معياراً للحكم على قضية الموز، هل هي مجرد ازمة عابرة، ام معركة في نطاق حرب تجارية اميركية - أوروبية مستمرة؟ لم يطل التساؤل عن ابعاد "حرب الموز" بين طرفي الاطلسي اكثر من اسبوعين، اذ فاجأت واشنطن الاتحاد الأوروبي في 22 الجاري، عشية انعقاد مؤتمره في برلين الجمعة 26/3 بقيود جديدة على الصادرات الأوروبية الى الولاياتالمتحدة تصل الى مبلغ 900 مليون دولار اضافة الى 800 مليون المفروضة بسبب تجارة الموز. وحددت 13 أيار المقبل نهاية مدة الانذار، وهو موعد انعقاد مؤتمر "منظمة التجارة العالمية"، التي ترى في الحظر الأوروبي لاستيراد لحم البقر الاميركي المعالج بالهرمون يخالف انظمتها. ويذكر ان حظر الاتحاد الأوروبي للحم الاميركي ليس جديداً فهو يعود لسنة 1989 كمشكلة تجارة الموز القديمة. وهذا يعني ان الولاياتالمتحدة تفتح الملفات التجارية القديمة المتأزمة بين طرفي الاطلسي في فترات متقاربة لأسباب تتجاوز بعدها الظاهري، لتطال الاتحاد الأوروبي كله، اثناء معالجة ازمة تغيير المفوضية، وتعيين مفوض جديد. ولأن العقوبات التجارية الجديدة تؤثر على المصدرين البريطانيين بما لا يقل عن زملائهم في القارة، فان تصعيد الحرب التجارية يعني الضغط على لندن ورئيس الوزراء توني بلير لتخفيف حماسته للانضمام للاتحاد النقدي الأوروبي، وإبطاء خطوات التقارب جملة. وهذا ما توضحه نوعية البضائع التي يشملها الاجراء، مثل لحم البقر والخنازير والخضار والشوكولا والدراجات الهوائية وحتى الزهور. وتظهر سياسة التعجيز الاميركية بجعل موعد الانذار في ايار المقبل شاملاً اثبات الاتحاد الأوروبي ضرر اللحم الاميركي المعالج بالهرمون، في الوقت الذي اعلن فيه العلماء انهم لن يستطيعوا انهاء تجاربهم قبل نهاية السنة الجارية. ويفيد الموقف الاميركي برمته ان لواشنطن استراتيجية جديدة قد لا تكون القيود الجديدة على اهميتها سوى بداية لحرب تجارية طويلة الأمد. * كاتب وصحافي سوري مقيم في بريطانيا.