غداة اغتيال قاتلين، هما سيد أحمد 16 عاماً ومحمد سان بيار 24 عاماً من "الجماعات الإسلامية المسلحة"، رجل المسرح الجزائريوالوهراني عبدالقادر علولة 55 عاماً، في اليوم العاشر من آذار مارس 1994، برصاصتين من رشيش "عوزي" الإسرائيلي - وهذا الطرز من آلات القتل انتهى الى "المجاهدين" من طريق إيران الخمينية - قرّ عزم "كَكَر"، على ما يسمي الصحافي الفرنسي، باتريك فوريستييه، بطله و"مجاهده" و"أميره" الجماعي التائب، على ترك وهران، وحي "ليه بلانتور" أهل المزارع، الى جبال بني شقران وغاباتها وكهوفها القريبة، الى الجنوب الشرقي من عاصمة الغرب. اعتراف أمير من الج.إ.م.، بالفرنسية، دارغراسيه، باريس، 1999، مع أحمد سلام واستقر كَكَر المولود في 1962 في كهف مع أحد عشر "مجاهداً" آخرين، غير بعيد من وادي فرقوق أو فرغوغ؟، على المنحدر الشرقي الشمالي من جبال بني شقران، في وسط ثلاث مدن قريبة. ويسع الجماعيين، إذا خرجوا من مخابئهم، جباية المدن الثلاث وقطع طرقها، واغتيال موظفيها ومجنديها. فما عليهم الا الإنحدار من غاباتهم في الهزيع الأخير من الليل، والمشي نحو عشرين كيلومتراً، شمالاً، حتى يبلغوا محمدية، أو المسير غرباً ليبلغوا سيق، وجنوباً ليبلغوا مسقارة، و"يطلعوا عليها والردى" هم و"الفجر" أبو فراس الحمداني. وتجتاز الجبال المكسوة بالغابات والوديان العميقة طرقات تؤدي الى مدن الداخل هذه. ولا مناص للأهالي المسافرين بين الداخل وبين شريط الساحل، من مستغانم شرقاً الى المرسى الكبير غرباً وفي الوسط حقول أرزو النفطية، لا مناص لهم من السفر عليها، والوقوع تالياً فريسة الحواجز الجماعية المموهة والمميتة. ويروي كَكَر أخباراً عن بضع عشرة حادثة مسرحها هذه الطرق، وجوارها، تنتهي كلها إلى نهاية واحدة هي قتل الضابط، أو المجند، أو الموظف المدني، أو المسؤول الحزبي السابق، أو صاحب الدكان المنقول عنه تنديداً بالقَتَلَة، أو شيخ المسجد المشكك في إسلام هؤلاء المعتصمين بغابات الجبال الوعرة وكهوفها. ففي الأثناء، أي غداة عام 1994، تركت السلطات الداخل، وأهله وموارده وطرقه، الى تسلط الجماعيين وعصبهم و"أمرائهم"، وحصرت حربها إياهم في الطوافات والميغ -21 والقصف المدفعي البعيد وبعض الحملات المتباعدة، وحامت عن البلاد والجهات النافعة أي التي تعود بالنفع والريع على الدولة وأجهزتها. وكان هذا قبل لجوء الدولة الجزائرية، أو قيادة البلاد العسكرية المتخفية وراء محمد بوضياف ورضا مالك ثم اليمين زروال، إلى تسليح "الوطنيين"، من الأهالي، وإنشاء فرق الدفاع الذاتي والمحلي، وقبل ظهور انشقاق "جبهة الانقاذ" وغلبة "الجماعة المسلحة" وهي "جماعات"، على ما لا يشك كَكَر منذ البداية، أي منذ شباط / فبراير 1992 عليها. ونجم عن ظهور انشقاق "الجبهة"، على ما هو مشهور، شن "الجماعات" حملات استئصال وإبادة على إخوانهم الإنقاذيين أفضت الحملات الي إضعافهم وإضعاف "جيشهم" وحصره في بعض ضواحي مدن الشرق. واقتصر الجهاد الجماعي، أو كاد، على الحرب الأهلية "الإسلامية"، أي على الحرب الأهلية في الحرب الأهلية، على ما كان قال السيد ريجيس دوبريه. وحل كَكَر ضيفاً، متوجساً على زعمه، على المجاهدين من أمثاله، والمهاجرين من بلاد الكفر والكفرة إلى أرض الإسلام والمسلمين الموعودة. وأقام، "مجاهداً" وغازياً على حين غرة وقاتلاً وغانماً وشاهداً، بين أصحابه، إلى حين إيقانه بأن المجاهدين المزعومين أجهل خلق الله بالدين والكتاب والشريعة، وليسوا إلا "نفاية المجتمع وقمامته"، على قوله. وهو يتخفى على تاريخ تركه أصحابه والتجائه "تائباً" الى النائب العام بوهران، من طريق محاميه، والى الأمن العسكري. ولكن توبته، وعودته الى وهران وبيت أمه وإلى إخوته وأسرته "المتماسكة"، وقعا غداة "قانون الرحمة"، في 25 شباط 1995، أي بعد نحو السنة من اغتيال عبدالقادر علولة. وحملت القاتل السابق على الردة على أصحابه، والقبول بعفو قيادات الحزب الواحد الأمنية والعسكرية، حادثتان يرويهما كَكَر رواية مفصلة. الأولى هي مهاجمة القوى العسكرية والأمنية الجزائرية معقل الجماعة التي كان الراوي ينتسب إليها، وتنتسب بدورها من طريق "أميرها"، المدعو أبو بكر، إلى علي الشريف، ومن طريق هذا إلى المدعو بن شيخة أحد قادة "كتيبة الأهوال" وإلى الأخوين مخلوفي، والثلاثة، هؤلاء، أو الأربعة، من "أمراء الغرب"، أو المنطقة الخامسة، وهي تحوي وهران وسيدي بن العباس وتلمسان. ورجحت الحملة ظنون الهارب من وهران إلى غابات الجبال وكهوفها في اختراق أجهزة السلطات الجزائرية صفوف المقاتلين وعصاباتهم، وفي بثها الأرصاد في معاقلهم النائية. وهو يخلص إلى هذا من استحالة وقوع القوات العسكرية على المعاقل النائية والمستترة بالغابات الواسعة، مصادفةً واتفاقاً. ولاحظ، من وجه ثانٍ، أن جهاز الانذار الداخلي، وقوامه حبل طويل يتوسط ما يشبه الصناجات، لم يعمل، على رغم كفاية الجهاز المادية والعملية، واختبار الرصد من بعد بواسطة منظار تكبير وتقريب، غير مرة. فلا بد أن ثمة بين "المجاهدين" من تعمد تعطيل الانذار. ودعا كَكَر الى ترجيح هذه النتيجة كل ما سبق ولاحظه على الجماعات الملتجئة إلى منحدر وادي الفرقوق على الوجه الشرقي الشمالي من جبال بني شقران، وأولها جماعته هو. فالجماعة المؤلفة من اثني عشر مقاتلاً، على عدد الحواريين، تلم خليطاً من الناس غريباً. فنواة الجماعة خمسة "أفغانيين"، قاتلوا بأفغانستان بين السبع سنوات والخمس سنوات. وعاد بعضهم الى الجزائر من طريق السودان في أوقات متفرقة. وسبق لبعضهم ان قاتل في صفوف حركة "بو يعلي"، رائد أول حركة إسلامية مسلحة في الجزائر وداعية "الدولة الإسلامية" الأول فيها. وهؤلاء يؤلفون كتلة على حدة. وهي على حدة على كل وجوه المعنى: فهم يتحادثون فيما بينهم بالبشتونية، لغة الكثرة القومية بأفغانستان" وينامون ضاوين بعضهم الى بعضهم" ويؤاكل بعضهم بعضاً" ويتقاسمون تاريخاً لا يشاركهم أحد فيه" ويبعثهم فهمهم الإسلام والجهاد على التجرد من كل نسبة أو رابطة قد تشدهم الى بلاد أو موضع أو أهل، أو تقيدهم بقيد. أما السبعة الآخرون فجمع متنافر من المهن السابقة، فيهم بياع الخردة، والسمَّان، والحلونجي، والحارس، والتلميذ، و"التاجر" المهرِّب مثل كَكَر نفسه في طور حياته المهنية الأخير، والبطَّال. وفيهم كل الأعمار: فمنهم في الثالثة عشرة من العمر، وأسنهم يبلغ الستين، ومعظمهم في العقد الثالث. ويبطل فرق السن، إلى الفرق بين السِّير والتواريخ والمواضي، معظم ما يتشارك فيه المهاجرون إلى "أرض الإسلام"، وهو كثير. فهم يتشاركون في منابت اجتماعية متقاربة، يغلب عليها التهميش والتقطع والتبطل والفقر" ويتشاركون في دراسة تجعلهم أقرب الى الأمية منهم الى "العلم" أو التعلم. وتديُّنهم، ويفترض فيه أنه جامعهم الأول، يحار كَكَر في تعريفه. فهو يزعم أن عدد نسخ الكتاب الكريم بأيدي "المجاهدين" لا يتجاوز النسخة الواحدة لأربعين رجلاً. ومعظمهم لا يقرأ العربية، ولا يفقه كلامها العادي والسائر. وبعضهم، على زعم الراوي، لا يحسن الصلاة، ولم يحفظ سورة واحدة من قصار السُّور. وعلى هذا يبدو إسلام القوم، أو مادته ولحمته وسداه، اجتماعياً وسياسياً، وضعيف التعلق بالإيمان. فهم ينسبون إلى الإعتقاد ضغينتهم الحادة على الطاقم الذي استبد بحكم الجزائر، منذ استقلالها في عام 1962، باسم حزب جبهة التحرير، والقوات المسلحة، والبيروقراطية المولودة من الحزب الواحد والجيش. والحق انه لا يجمعهم شيء على قدر هذه الضغينة على "الطاغوت". وهم يتدينون أولاً وآخراً بهذه الضغينة، ويسمون "إسلاماً" كراهتهم العميقة من يجمعونهم تحت اسم "الطاغوت" ويوحدونهم فيه. ولما اختار هؤلاء "الطواغيت" الدولة "العلمانية" مذهباً ولواءً، وهم لم يختاروا إلا تسلطهم على الدولة وعلى موارد الجزائر، سمَّى المنبوذون من الحياة الإجتماعية السويَّة واللائقة ما يختلفون به عن أهل الدولة والحكم "إسلاماً". فيروي كَكَر أن ما يشفع للهارب من وهران، أو مستغانم أو سيدي بن العباس، إلى الجماعات المسلحة في الجبال، ولا شفيع مرضياً غيره، هو إثبات الهارب إرداءه شرطياً، أو عسكرياً، أو حزبياً، قتيلاً. فجواز الدخول الأول في الجماعة ليس غير قتل "طاغوت" من "الطواغيت"، مهما كان القتيل متواضعاً. وإذا كان القاتل إنما قتل ثأراً لقريب أو نسيب أو صهر أو صديق قتلته الشرطة، عرضاً أو عمداً، علت مكانة القاتل ثأراً، وأيقنت الجماعة بأن "المجاهد" الملتجىء إلى كنفها يشده إليها رباط وثيق ومتين. وليس هذا كل ما يورده كَكَر في روايته وفي وصفه أحوال الجماعة التي كان أحد وجوهها المتواضعة. ولكن هذا الجزء من الوصف هو الجزء الذي يرد إليه حين يسوغ تركه أصحابه. فهو يطعن عليهم جهلهم بدينهم، وقصرهم الدين على مثالب الحزب الواحد ودولته المستأثرة بالمنافع والموارد والامتيازات، ويُنكر منهم، جراء هذا الجهل، استرسالهم مع مشاعر الكراهية والضغينة والثأر، وعماهم عن كل ما يمت بصلة الى "دولة الإسلام" المزمعة والمأمولة. وهم، لما كان هذا شأنهم، لا يأمن بعضهم بعضاً، ويشك بعضهم في بعض، ولا يرى واحدهم غيره أحق منه ب"الإمارة" أو ب "الإمامة". ويقرِّب القريب قريبه، ولا يتستر على حظوته ولا على إيثاره، والكل شهود على هذا. فلما وقعت الواقعة الأولى، وأراد كَكَر التحقيق في السبب فيها وإدانة المسؤول عن التقصير والإدانة لا تعني غير الموت في عالم الجماعيين، تعمد "أمير" الجماعة، "أبو بكر"، التسويف والتأخير، ثم تذرع بالورطة التي أصابت الجماعة إلى تعليق البت في الأمر قبل تركه. ويزعم الراوي أن "أبو بكر" هذا كان يبيت معظم لياليه في بيوت قرية قريبة من الكهف، وفي أسرَّة وثيرة بينها سرير امرأة هي والدة أحد الفارين الفتيان الى الجبل، والمنضوين الى الجماعة. ويروي كذلك أن الفتى الذي وهب "الأمير" أمَّه، بعد مقتل والده، رآه ككر يعانق "مجاهداً" آخر في مثل سنه. ويصف الراوي محظي "أبو بكر" ورخاوة جسمه، وعرض وركيه، وصفاً يحتكم الى مثال ذكري ورجولي ليس بينه وبين العنصرية البدنية، المنسوبة الى "الجهاد"، فرق. وأعقبت الحادثة الأولى هذه حادثة ثانية نزلت بالجماعات اللاجئة إلى جبال بني شقران، وأدت الى قتل بضع عشرات من مقاتليها، وإلى هرب صاحب الرواية وتوبته، على ما مرَّ. فبعد أسابيع قليلة على الحملة العسكرية التي خلفت في صفوف جماعات وهران الخوف والشك والارتياب، خطط "الأمير" علي الشريف، وربما من هو أعلى كعباً، لمهاجمة ثكنة عسكرية بضاحية مسقارة، على بعد مئة كلم من وهران، إلى الجنوب الشرقي، ومسقط رأس الأمير عبدالقادر الجزائري. فاجتمع سبعون مهاجماً، في أوائل عام 1995، في البساتين القريبة من عاصمة الولاية، جاؤوا من جماعات مختلفة، ولم يسبق لمقاتليها معرفة بعضهم ببعض. وكان المعوَّل الأول عليه في العملية، والتخطيط لها، تواطؤ صف ضابط داخل الثكنة مع المهاجمين. فلما دخل المهاجمون فناء الثكنة أغلق صف الضابط المتواطىء البوابة التي فتحها لتوه، فعلق المهاجمون "مثل الفئران"، على قول الراوي الكثير الكنايات الحيوانية ازدراءً أو مديحاً، وسقط منهم بضع عشرات من قتلى. وانقلب "العرس" وبعضهم يسمي فرص القتل الكثير "أعراساً"، الى مأتم وخيبة. ويعزو القاتل السابق، صاحب الرواية، خروجه من الثكنة، وعرسها الموعود، إلى بيت أمه بوهران، في حي "ليه بلانتور"، إلى الإخفاق الثاني الذريع هذا. فهو أدرك بعد الإخفاقين الذريعين اللذين ذهبا بكثير من إخوانه، بعد أقل من عام على مقتل مرشده و"إمامه" و"والده الروحي"، عبدالقادر مكي، ووشاية عمر ابو جيادة بمكي في التعذيب، أدرك أن صفوف الجماعات المسلحة، على خلاف مزاعمها، واهية البنيان وغير مرصوصة. فعلى قدر ما بدا يسيراً على كثير من الشبان والفتيان البطّالين، أو المتعيشين من عمل تافه الأجر والمكانة، قتل شرطي، أو رجل أمن، أو موظف، يخرج من بيته في وقت معلوم، ويرجع في وقت معلوم، وكان يسيراً ابتزاز تاجر أو صاحب معمل من غير حماية - بدا عسيراً جداً إنشاء مجتمع متماسك، ولو مصغراً أو تجريبياً، يتطلع أصحابه إلى التربع في ولاية دولة معقدة، شأن كل الدول اليوم. وثبت ان مقتضيات السياسة المفضية الى الاستيلاء على الحكم، والإستتباب فيه وتدبيره، هي غير مقتضيات الدعوة، ولا تدخل تحتها دخولاً تاماً ومستوفى. وتعويل الجماعات المسلحة الجزائرية على لفظ عامة الجزائريين دولة الحزب والجيش، و"طبقتهما" المشتركة الحاكمة، لم يلبث ان استنفد أغراضه مع اختبار الجزائريين، في الأرياف خصوصاً، نمط الإدارة التي يعد لها الجماعيون العدَّة في اثناء "هجرتهم" أو "مفاصلتهم". فالقضاء بالكفر والشرك في "كل الجزائريين" والإستدلال على كفرهم وشركهم، وعلى ردتهم، بقبولهم حكم "الطاغوت" ورضوخهم له، وصم جمهور الجزائريين بالكفر والارتداد والجاهلية، وأحل فيهم حكم المرتدين، وهو القتل والسبي. وسوَّغ هذا الحال الفتاوى "العامة"، وهي الفتاوى التي تعم فئة اجتماعية أو وظيفية برمتها، مثل العسكريين والشرطة والحزبيين والمدرسين والصحافيين وعمال المرافق العامة والنساء الحاسرات والمستمعين الى غناء "الراي" وموسيقاه ومرتادي مرابعه... وتعم الفتاوى "العامة" الذراري. ف"المجاهد" لا يشك في ولادته "مجاهدين"، على نحو ما لا يشك في ولادة "الطاغوت" أمثاله. وتجويز قتل الأولاد أحد مصادره هذا الرأي. وهذا كثير، إذا جمع بعضه الى بعضه الآخر. وهو لا ينتهي الى غاية. واقتصار "الدعوة" على الإرهاب والتخويف والتمثيل، وإيكالها الى ذباحين، أو أصحاب الذبح. ويصف كَكَر من هؤلاء اثنين يسميهما العم سليمان والعم داود هما مثالان ناطقان على دوام البهيمة في البشر قد يؤدي، في بعض الظروف، الى تخبط السلطة القائمة، وتداعيها، وربما الى انهيارها، جراء شلل أجهزتها، وتواطؤ بعضها مع العدو الأهلي وحؤوله دون تماسك الرد على العدو هذا. ولكن اقتصار "الدعوة" على هذا، وانقطاعها من السياسة، ومن احتمالات بناء حكم يرعى كثرة الجزائريين ويجمعهم على بعض القواسم المشتركة، صرفا جزائريي الأرياف، فكيف بجزائريي المدن، عن مساندة الإسلاميين الجزائريين، وحملاهم، بعد وقت تردد وعزوف، على الميل من جديد الى دولة سامتهم أجهزتها ألوان الإذلال والإمتهان والإفقار. ولم يكن دور غلبة "الجماعات" المسلحة على "الإنقاذ" في التحوّل عن الإسلاميين طفيفاً ولا قليلاً. فاليسر الذي تغلبت فيه "جبهة الإنقاذ" على الحزب الحاكم وأجهزته، وإيهامها شطراً كبيراً من الجزائريين بتصدرها حركة سياسية إصلاحية ومعارضة، انقلبا عسراً حين خرجت طوية "الإنقاذ" الى العلانية. ويصف كَكَر على نحو محكم الدقة قيام "الإنقاذ" على التباس عميق. فالجبهة لم تحتج لتتربع في صدارة حركة جماهيرية عريضة ومختلطة، إلا لجهر حقدها على الحكم الحزبي وتسلطه وتعسفه. وأفلح جهر الحقد والضغينة هذا في جمع الجموع وحشدها ورصها. ولكن "الإنقاذ" خليط لا تتخلص خيوطه وأجزاؤه من تيارات وجماعات وكتل هلامية القوام، وضعيفة العبارة عن قوامها وعن علاقاتها. ولعل نواتها الصلبة هي العصب التي تتحدر من البويعليين، نسبة الى بويعلي، ثم من "الأفغان". ولم تتكتم هذه العصب، من خريف 1988 تاريخ "انتفاضة" مدينة الجزائر على الحكم الى شتاء 1992 تاريخ الغاء الانتخابات النيابية، على رأيها في "السياسة" و"الحزب" والإنتخاب. فبدَّعتها كلها، وحكمت فيها كلها بالكفر والمروق، ودعت الى حربها واستئصالها بالقوة. وتوجه حقد البويعليين و"الأفغان" أولاً على قيادة "الإنقاذ" السياسية. فلم تكد هذه تهمّ بمفاوضة الشاذلي بن جديد، وربما بمناقشة بعض الجماعات السياسية المعارضة، والإيذان بما يشبه الإصطفاف في جبهة رخوة، حتى شملها، من غير تردد ولا تحفظ، التبديع والتكفير. فخرجت على القيادة الجماعاتُ الناشطة والفاعلة، وهي أقل الإنقاذيين سياسة وأضعفهم أوداً وإعداداً ولكنها أقدرهم على الانتصاب مثالاً بسيطاً ومفهوماً أمام أنظار الأنصار والمريدين. فلم يسع القيادة السياسية لا لجم الجماعات الناشطة هذه، وهي تدين لها بشطر غير قليل من دالتها وإقناعها، ولا استبقاء الجماهير "العائمة" والناخبة التي أملت في بلورة "الإنقاذ" قوة سياسية تقيد تسلط الحكم واستئثاره وتقسره على سياسة توزيع أكثر عدلاً وقسطاً. وهذه الجماهير هي سُلَّم "الإنقاذ" الى التأثير في الحياة العامة. فانضم الى الجماعات المسلحة كل الذين أوهمهم "الإنقاذ"، وسوَّل لهم يسر فوزه الإنتخابي، بأن السلطة تخرج من فوهة رشيش الاغتيال، ومن غير واسطة. ولما حاولت "جبهة الإنقاذ" انتهاج الحرب الأهلية، اللحاق بهذا الشطر من جمهورها، كان هذا الشطر أفلت من كل عقال، واسترسل مع ثاراته وضغائنه وبدائهه الثقافية والسياسية. فلم يكن في مستطاعها إدراك هذا الشطر ولجمه. وارتد هذا الشطر على القيادة السياسية "الإنقاذية"، وأثخن في جمهورها، وجمع بينها وبين طاقم السلطة المكروه في عداء واحد. وسوَّغ إرهابُ الجماعيين إرهابَ أجهزة السلطة الأمنية، وانتهاكها حقوق المواطنين. فالحرب التي شاءها الجماعيون كلّية، وشاؤوها حرباً تستأصل الكفر ولا تبقي إلا على الإيمان والمؤمنين، القلة القليلة، هي الحرب ربما الوحيدة التي "يعرف" الجهاز العسكري والأمني الحاكم الخوض فيها وتدبيرها، وهي الحرب التي يعوِّل على الإنتصار فيها. ففي مثل هذه الحرب، وهي تستبعد السياسة على معاني التأليف "تأليف القلوب" والمعاهدة "مخافة الأعرابية" والعصبية والتدبير على خلاف "الوحي"، يسع الحكم الظهور بمظهر القطب الجامع بإزاء خطر التصديع والموت الداهمين. وعلى خلاف الحكم، ودوره الجديد المختلف عن دوره المدمر والمنكفىء السابق، ظهرت الجماعات مظهراً بعيداً من القطبية الجامعة والمشتركة، ومن السياسة. وآذن ذلك بتمكين الحكم، ولو عسكرياً وأمنياً، من معالجة الإرهاب الجماعي ولو معالجة بوليسية وأمنية، ولكن باسم حماية الجزائر، الدولة والشعب، من الإنهيار والتفكك اللذين نهضت الجماعات المسلحة علماً عليهما واية. ولم تعدم المعالجة، على فظاعتها، ثمراتها. ورواية كَكَر قرينة على نجاعتها وناقلها، صحافي "باري - ماتش" باتريك فوريستييه، لا يستبعد ان يمت راويه، على وجه من الوجوه، الى سياسة "أمنية" جزائرية ما.... فلا يشك القارىء في اضطلاع هزائم الجماعات المسلحة بدور فاعل وقريب في انقلاب خير أفراد الجماعات عليها، ويأسهم منها. وهو لا يشك كذلك في استحالة إحراز مثل هؤلاء الناس، وهم على ما هم عليه من الهشاشة والضحالة والهمجية، نصراً في مقدورهم تثميره في سياسة متماسكة، أو في هيئات ثابتة، وفي "مثال" يصدِّرونه الى المجتمع كله. والحق ان تدبر الحوادث الجزائرية، خارج الجزائر والجزائريين ولا سيما في المشرق، لم يبدأ بعد. فإلى يوم قريب كان أعيان "حزب الله" اللبناني لا يتورعون عن إعلان تضامنهم مع "إخوانهم" هناك. فهم كذلك كانوا، وما زالوا على انحاء أكثر خفاءً، يعولون على قوة السلب، أو القوة السالبة والمدمرة، التي تختزنها الأوبة إلى "هوية حضارية" مناهضة "للغرب". ولعل فضيلة رواية كَكَر الأولى هي التنبيه الفاجع على مآل مبدأ الهوية المدمر حين يتقدم علل الاجتماع المشتركة والمتغيرة. * كاتب لبناني.