ذكرياتي عن حرب الجزائر قليلة، فأنا ولدت (1955) معها تقريباً. لكنني أذكر أنني ضُربت بعقب بندقية جندي فرنسي. لم يقصد الجندي جمجمتي التي كسرها. فالجنود الفرنسيون كانوا يطاردون والدي، الضابط في جيش التحرير الوطني، في 1958. دخلوا حجرة في بيتنا كنا ننام فيها، ومشوا على أخي النائم والملتحف بالسجادة، وهجمت أمي على الجندي الذي داس أخي، وأراد دفعها واتقاءها فأصاب عقب بندقيته رأسي. وأراد مراضاتي، فأرسل لي دمية ميكي ماوس. كان هذا أول عقب بندقية يصيبني وأول هدية تهدى لي. والأمر مع فرنسا على هذا المنوال: ما تعطيه بيد تأخذه بالأخرى! وكنت في المغرب حين أعلن الاستقلال، وسبقه جرح أبي في 1959، بالصحراء، وأجلي إلى بلغاريا قبل أن ينقل إلى أوجدة، وهي من الخطوط الخلفية لجيش التحرير. ولحقت به أمي في 1960. وحين يُفترض اليوم، على ما يفعل جان دانيال (رئيس تحرير «لونوفيل أوبسرفاتور» في مقال نشر في عدد الدورية الأسبوعية ذاته)، أن تفادي الحرب كان ممكناً «لو» حصل هذا أو «لو» حصل ذاك، ينسى المناخ الغالب يومذاك. فالشرط لم يكن قائماً. فمن جهة، كان الفرنسيون يعوّلون على تفوقهم الكاسح، وعلى انتصارهم الوشيك. والمفاوضات كانت، في نظرهم، حطاً من قدرهم، وطرفها الآخر هو الجبال التي لجأ إليها مقاتلو جبهة التحرير الوطني، فما على القوات الفرنسية بهذه الحال إلا القضاء على الفئران المتحصنة فيها. وسبق حرب الاستقلال قرن كامل لم يكن للجزائري في أثنائه، رأي في مصيره. فالذهنيات كانت قصيرة النظر، والجزائري يراه المعمِّر كادحاً. وينبغي قراءة رحلة غي دي موباسان (القصاص الفرنسي «الواقعي») أواخر القرن التاسع عشر إلى الجزائر، ووصفه الهاوية التي تفصل المعمِّر من المستعمَر. بلغ استعلاء الأوروبيين على الجزائريين مستوى أقنع الأوروبيين بأن الجزائريين لا يحتاجون إلى المواطنة وحقوقها، وبأن حال الشيء التي قُصروا عليها تناسبهم وتواتيهم. فلم يلحظوا الغليان الذي غذى الثوران الوشيك، وأشعلته شرارة ظرفية. وعلى هذا، فالحرب كانت محتومة. ومع مطلع ثلاثينات القرن العشرين، اتسعت مناقشات المسلمين الجزائريين وجناحيهم: الجناح الإصلاحي والاستقلالي، ولم تكن على هامش النظام الاستعماري (الكولونيالي)، على خلاف قول بانجمان ستورا، بل في صلبه ومتنه. وعباس فرحات والدكتور بن جلول، قطبا المناقشة، حظيا بمساندة الزوايا الصوفية، ومن طريق الزوايا بلغت المناقشة الجمهور العريض. فإذا أيدت الزاوية موقفاً أو رأياً تابعها المريدون على تأييدها. لكن ما يستوقف في مساجلات ذلك الوقت هو أن الجزائريين لم يستبعدوا فرنسيي الجزائر من الاستقلال، على أي وجه من الوجوه. وما أرادوه وطلبوه هو طي صفحة الاستعمار الفظ والعنصري، واستعادة الحرية والاستقلال من غير تضحية بالمسيحيين أو اليهود أو المسلمين. وهؤلاء كلهم أجزاء من شعب الجزائر، وأنا على يقين من أن مغادرة فرنسيي الجزائر الأرض والبلد غداة استقلالها لم تكن حتماً لا مهرب منه. فلو أن الحرب لم تدم هذا الوقت الطويل، لكان في مستطاع الجزائر الحصول على الاستقلال وعلى أبنائها كلهم من غير استثناء. والجزائريون مشوا معاً، وتظاهروا معاً، يداً بيد، في 1956، لكن دوام الحرب ترتبت عليه نتائج فظيعة بلغت الجبال حيث اقتتل المجاهدون، وحارب بعضهم بعضاً، واغتيل قادة كبار مثل أبان رمضان، وخان آخرون مثل الكولونيل لطفي. والحق أن ما حتّم النفي الجماعي ل «الأقدام السود» (أوروبيي الجزائر)، هو، في المرتبة الأولى، جنون «منظمة الجيش السري» (أو. آ. أس) الفرنسية المحلية، وعملياتها الإجرامية الفادحة. وأظن أن جزائر مؤتلفة من جماعات متفرقة كانت محتملة، لكن الإيمان بهذا الاحتمال كان ضعيفاً. والقول أن جواب محمد بن يحي، أحد قادة جبهة التحرير وأحد مفاوضي اتفاقات الاستقلال في إيفيان، سؤالَ جان دانيال عن حظوظ الأوروبيين في العيش الآمن بالجزائر، بضعف هذه الحظوظ، لا يعوَّل عليه. فأنا قضيت عمراً في الجيش الجزائري، ورؤسائي كانوا من مقاتلي الجبال، وسألتهم أسئلة كثيرة عن المسألة، وأجابوني كلهم أنهم لم يرغبوا أبداً في رحيل الفرنسيين، ولم يطلبوا غير الاستقلال. وهم لم يكونوا قلة، وربما كانوا معزولين. والأمر الثاني أن استبعاد «الأقدام السود» لم يكن احتمالاً عملانياً، ولا مسألة عملية. ولا شك في أن عمليات «الجيش السري» واغتيالاته، وردود جبهة التحرير الرادعة، هذه كلها أوهنت الثقة في تقاسم العيش والأمل به. فالجزائر كانت مضرجة بالدماء، وبناة الحلم المشترك وقفوا عاجزين عن إخماد الغضب المستعر وإطفاء الضغائن العاصفة. فرحل الناس يأساً من طلوع احتمالات مقنعة. وبُلغ الحد الفاصل الذي لا رجعة منه مع «الجيش السري» الذي أعمل القتل من غير تمييز في المسلمين وفي الأوروبيين الذين اختاروا الرحيل. وهؤلاء دعاهم جيرانهم المسلمون إلى البقاء، بيد أن تهديد «الجيش السري» كان الأقوى. وربما كان في مستطاع فرحات عباس أن يكون نلسون مانديلا الجزائر، فهو كان يتمتع بثقافة رجل دولة فعلي وبدالته وتجربته، ولا أشك في أنه كان قادراً على توجيه الجزائر صوب وجهة أخرى. ومن ناحية أخرى، لا أحسب أن ديغول كان يخطط لنهاية الجزائر الفرنسية وحلمها. الأرجح أنه كان يظن في نفسه القوة على إعادة الجزائر الضالة إلى أسرتها. وهو غفل عن واقع الجزائر، وعن امتلاك الخصم الجزائري الحكمة والإصرار. فأبطالنا يومها، كانوا من معدن رباني وعُلوي، والعالم كله كان مفتتناً ب «مقدار الإصبع» الجزائري وليس ب «الغول» الفرنسي. وأنزلت جبهة التحرير ديغول من قاعدة نصبه مقاوماً ومدافعاً عن الحرية. * لقب الروائي الجزائري محمد موليسهول الرائد السابق في الجيش الجزائري، مدير المركز الثقافي الجزائري بباريس، عن «لونوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية، 1/3/2012، إعداد منال نحاس