سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الأزمة في سنتها العاشرة: "الحياة" تتجول على مدار 31 يوماً في الجزائر 9 : أحد عشر مثقفاً جزائرياً في ندوة "الحياة" في العاصمة : من الذي يقتل في الجزائر ؟
هذه الندوة، وهي الأولى من نوعها التي تجريها صحيفة عربية ميدانياً في الجزائر، في سياق الملف الكبير الذي أعدته "الحياة" حول جملة من الموضوعات والقضايا التي هزت الحياة الجزائرية على مدار السنوات العشر الدامية. لا بد من القول أن هذه الموضوعات الحساسة لم يسبق لصحيفة عربية أن تناولتها بالطريقة التي لجأت إليها "الحياة"، أي بعيداً عن الإستهلاك الصحافي والخبري السريع، وقريباً من التعقيد الكبير للحدث وتداعيات السؤال والحيرة حوله. لذلك لجأت "الحياة" إلى الذهاب إلى مواقع الفكر والتساؤل، ذهبت إلى المثقفين الذين شكلوا وقوداً للأزمة، ثم جرى تهميشهم من قبل كل من السلطة و"المعارضات" المختلفة على حد سواء. فنظمت "الحياة" بعون من مثقفين أحرار، ندوات عدة مقفلة وبعيدة عن عين السلطة أو المثقفين الموالين لها، لتضمن للأصوات المستقلة الغائبة فضاء حراً للقول والتعبير عن وجهة نظرها في ما جرى ويجري. وشارك في هذه الندوات العديد من المثقفين الجزائريين، بينهم بعض من استهدفوا بمحاولات الإغتيال والقمع معاً، وبالتالي تركنا لهؤلاء أن يقدموا للمرة الأولى على الأرجح، آراءهم وتصوراتهم حول الأزمة الجزائرية. هذه الندوة عقدتها "الحياة" على مدار حوالى عشر ساعات متواصلة في شقة الكاتب واسيني الأعرج المطلة على البحر في مجمع موريتي الذي يقع على أحد أجمل شواطئ العاصمة الجزائرية في منطقة سيدي فرج. ومعروف أن هذا المجمع المغلق والمحروس بالدبابات هو مأوى العديد من نخبة المثقفين والضباط ورجالات الدولة الذين جرى تهديدهم من قبل الجماعات الإسلامية، أو ممن جرت فعلاً محاولات لاغتيالهم. وتستهدف الندوة تقديم أول محاولة إعلامية عربية جزائرية لتفكيك سؤال القتل الذي شغل الجزائريين والعالم بفجائعيته، لا سيما في السنتين الأخيرتين، بعدما نشطت ورشات القتل الجماعي في القرى والبلدات المجاورة للعاصمة في الوسط الجزائري. وسوف يجد القارئ أن الجزائريين يأخذون على المثقفين العرب جزعهم من الأزمة الجزائرية، أو عدم اكتراثهم بها. وعندما تحول القتل إلى ظاهرة غريبة ومرعبة في دمويتها لم تتمكن الانتلجنسيا العربية من التعبير عن موقف، بينما وصل إلى الجزائر مثقفون يهود فرنسيون وبعضهم متعاطف بصورة غير مشروطة مع اسرائيل، هو تحديداً برنار هنري ليفي، وراح هؤلاء يضعون صياغة تفكك السؤال الذي أرق العالم :"من يقتل من في الجزائر؟". إن سؤال: من الذي يقتل في الجزائر؟ هو من أعقد الأسئلة، وأكثرها غموضاً. فعلى رغم أن بعض الجماعات الإسلامية يعترف بعمليات قتل نفذها، إلا أن الكثير من العمليات التي كان يمكن أن تقيد ضد مجهول نسبت إلى "الجماعات الإسلامية". وفي الوقت الذي يتهم بعض المثقفين الصحافة بأنها متواطئة وتعرف من يقتل، يتهم البعض الآخر الدولة باستعمال الإسلاميين لتنفيذ القتل. وهناك من يرى أن في الجزائر مرتزقة داخليين وخارجيين ينفذون القتل الجماعي لأهداف إقتصادية وأخرى ثأرية وثالثة أيديولوجية... ولعل الصعوبة الكبرى التي يمكن أن يواجهها الباحث عن جواب السؤال: من الذي يقتل؟ هي في التنقل بحثاً عن جواب... فهو مثلاً لن يمكنه أن يزور مواقع المذابح ك "بن طلحة" و"الرايس"، إلا بواسطة تصريح رسمي لأن هذه المواقع تعتبر عملياً تحت الحماية الأمنية والعسكرية... ولاعتبارات تتعلق بأمني الشخصي، وبصدقية واستقلالية العمل الصحافي، لم أتقدم بمثل هذا الطلب من السلطات الجزائرية التي أرسلت من يعرض علي زيارة "بن طلحة" في محاولة لمعرفة ما إذا كنت سأحاول ذلك بمفردي وبعيداً عن عينها. والحقيقة أن مثل هذه الزيارة تكاد تكون مستحيلة بصورة مستقلة عن السلطة، وبالتالي فإن عدم الذهاب الى هناك أفضل كثيراً من زيارة ينظمها لأسباب دعائية الجيش نفسه الذي لم يتمكن من منع وقوع المذبحة! هوية القاتل "الحياة": إذا كانت هوية القتلى في الجزائر معروفة، فإن هوية القاتل ظلت حتى الآن مجهولة. العالم كله مشغول بالسؤال حول من الذي يقتل في الجزائر؟ بدوركم، كيف ترون إلى المسألة، وهل لديكم معطيات تجعل الصورة أوضح في ذهن القارئ العربي؟ واسيني الأعرج: لا أظن بأن هوية القاتل مجهولة، فهناك من يصدر بيانات حول القتل، ويتبنى هذا القتل! آسيا موساي: تلك بيانات مجهولة المصدر، وهي غير مؤكدة. واسيني الأعرج: لا... نحن نستطيع ان نطرح الأسئلة، لكن لا ينبغي علينا ان نتوارى وراءها بحجة انها أسئلة تطرح نفسها، وانني لا أملك ان اتخذ موقفاً إزاءها. انا شخصياً ليس لدي استعداد لفعل ذلك. انما يجب ان نطرح السؤال، ويمكننا ان نحرفه قليلاً ، ونقول ان الوجه الأول للقتل هو فلان، لأنه أعلن، ولأنه المستفيد، ولأنه يشكل حركة سياسية لديها امتدادات جغرافية عربية وتاريخية. يمكننا أن نطرح السؤال حولها، وماذا يفعل بعض اعضائها في لندن؟ انا شخصياً كنت في لندن وامستردام، ورأيتهم، وهذه الحركات معروفة في توجهاتها وارتباطاتها ونعرف مع من تتعامل. هذا امر واضح وموجود ولا نستطيع إخفاءه. الآن، يمكن ان تقولي لي احفر في السؤال حول القتل، أقول لك حسناً، لم لا... هذا ممكن. لكن هل يمكن ان تقولي لي: من وراء هؤلاء الذين يقتلون؟ من الذي يمولهم؟ آسيا موساي: هل تريد ان تقول ان الذي يقتل في الجزائر هم الإسلاميون فقط، وليس هناك أحد آخر غيرهم، هل هذا أمر معقول؟ واسيني الأعرج: ممكن، ومعقول، فهم يعلنون. حرز الله بو زيد: كلامك صحيح يا واسيني لكن هناك جهة أخرى غير الاسلاميين تقتل. انا على تماس يومي مع الوقائع الجزائرية وقد اعطيت نفسي مساحة حرة للتجول ليلاً. لدي حياة ليلية. صحيح ان ما يحدث في الجزائر من أعمال عنف اعلنت عنه، في وقت ما، جهة معينة هي الاسلاميون. لكن الآن اختلف الأمر، هناك جهة او جهات اخرى تستفيد من تلك الفضيحة، وتمارس القتل باسمهم. آسيا موساي: تماماً... هو ذا ما ينبغي ان ننتبه إليه، وأن نفكر فيه. حرز الله بو زيد: من هي هذه الجهات؟ هذا السؤال يجب ان يتفحص، ان يتقصى بهدف الاجابة عنه. هل هذا ممكن؟ هذا امر آخر. انا شخصياً اتجول في اماكن عدة، أذهب في المدن، والمناطق المجاورة لها، نحو البحر، وكذلك في اتجاه الجبال، حيث اسطورة الموت والقتل والجماعات الاسلامية. واتجول في اوقات متأخرة. لقد انتابتني، منذ ان بدأت أعمال العنف، رغبة مضادة في السفر الليلي، في البحث عن المجهول، عما لا أضع له تصوراً مسبقاً من المفاجآت. ولنأت الآن إلى سؤال جدي، وليكن حول الانفجارات التي كانت تحدث في العاصمة الجزائر. فأن تقع هذه الانفجارات ثم تختفي هكذا فجأة، في وقت لا بد للمتتبع لتطور الوضع الجزائري أن ينتظر وقوعها كل يوم، وازديادها نسبة إلى تعقد الأزمة، لكن المفاجئ انها لا تقع، وكل شيء يمشى هادئاً. كل المقدمات تقول انها يجب ان تقع، لكن بدلا من ذلك يخيم الهدوء. هنا يبرز السؤال: من الذي يقتل؟ ولماذا يقتل؟ ثم لماذا لا يواصل القتل؟ بشير مفتي: من الذي يقتل؟ لقد طرح هذا السؤال مراراً ولم يتمكن أحد من إعطاء إجابة حقيقية. صحيح ان هناك مشردين وقتلة لاسباب اجتماعية في الجزائر، اسباب تبدو غير سياسية هنا وهناك، لكن كيف نفسر المذابح، مذبحة الرايس مثلاً؟ واسيني الأعرج: انا ذهبت إلى "الرايس"، و"بن طلحة" وغيرهما، ذهبت مع صحافيين وكذلك بمفردي. وانا عندما اتكلم، انما اتحدث عن الحد الأدنى مما هو ملموس. وانا لم أمض إلى هذه المناطق إلا لأنني مربك ولدي رغبة في تفكيك هذا السؤال: من الذي يقتل؟ ولأنني لا اريد ان أكتفي بوسائل الإعلام، قصدت تلك المناطق باحثاً عن اجابات عن اسئلتي استقيها من الناس البسطاء والناس المتضررين. وهؤلاء يقولون لك ان الذي ارتكب المذبحة هم: فلان وفلان وفلان، وان هوية القتلة معروفة من جانبهم. يقولون لك انهم يعرفونهم، وهم كانوا يعيشون معنا، وفلان من بينهم كان رئيس بلدية "الفيس". هنا اعتراضات متعددة من جانب المشاركين في النقاش، وواسيني الأعرج يعلق: هذه هي الصورة الأولى للقتل. وليست الصورة الوحيدة، فهناك صور آخرى، وهناك خفايا. وانا مع فكرة الحفر والبحث في سبيل الحصول على اجوبة عن هذا السؤال. آسيا موساي: من يؤكد في النهاية القول ان فلان أو غيره هو من "الفيس" وانه كان نائب رئيس بلدية؟ ألا يمكن في ظلّ غياب الحقائق والمؤكدات ان يكون هذا مجرد ادعاء؟ واسيني الأعرج: انظري، المنطق العقلاني والمنهجي يقول ان هناك، اولاً، طرقاً للمعالجة مادية، ثم نذهب بعدها إلى التجريد. ونحن الجزائريون ننطلق اولاً من التجريد، ثم نذهب إلى المادي. وبهذا لن نستطيع ان نتوصل إلى اية حقيقة. آسيا موساي: لا، ليس هكذا، المسألة اعقد من ذلك بكثير! واسيني الأعرج: انا شخصياً التقيت اناساً بسطاء تماماً ولا مصلحة لهم في الكذب، او تحريف الحقائق. مشيت وقضيت مع هؤلاء الناس ليلتين في حوش بروك، ومشيت إلى المناطق. وقد قرأت الوثائق التي ضبطت في المخابئ. والذي يمكن التوصل إليه ان هؤلاء الناس في "الجماعات المسلحة" ليسوا مجانين. يكذب عليك من يقول لك العكس، فهم أناس تدربوا على صناعة القنبلة وصناعة المتفجرات وبعضهم، على الأقل، تدرب في افغانستان. لكن هناك ما هو أهم من ذلك، هناك من المشاهدة الأولى واللمسة الأولى مع الناس ما يجعلك تقولين أن هؤلاء هم اسلاميون. صحيح ان السلطة مخترقة من الإسلامين وغيرهم، لكن من يقول ان هناك سلطة مركزية في الجزائر؟ ليس هناك شيء من هذا القبيل. هناك مجموعات ضغط، وجماعة حاكمة، وهؤلاء كلهم يتصارعون على المصالح في البلاد ويقومون بحرب. اختراقات المخابرات "الحياة": هناك من يقول ان ثمة من يسمح، في السلطة، للإسلاميين بأن يقوموا باختراق الدستور وقوانين البلد والنظام؟ عملية الاختراق تقول ان هناك مجموعات داخل السلطة تحبذ ان يتم هذا الاختراق، ما رأيكم؟ واسيني الأعرج: هذا ممكن، من يدري! بشير مفتي: لكن هناك ما هو ابعد من هذه الصورة التي ترسم. واسيني الأعرج: انا انظر في الصورة التي هي أمامي. بشير مفتي: الخيط هذا يذهب أبعد من السلطة. واسيني الأعرج: انظر، عندما نقرأ وثائق الجماعات المسلحة وتعود إلى التاريخ الاسلامي، ولنأخذ الأزارقة مثلاً، وهم فرقة منفصلة عن الخوارج، ونأخذ آية استعملتها "الجيا" وهي الآية التي تدعي "الجيا" انها تسمح بقتل الابناء والعائلة، اصاب بالفزع. بشير المفتي: هذه تتصل بمسألة الردة. واسيني الأعرج: تماماً، و"الجيا" اقتطفت هذه الآية في بيانها، وقارنت بين هذا الذي دعت إليه "الجيا" استناداً إلى تأويلها الخاص للآية الكريمة، وبين ما قام به "الأزارقة" من افعال قتل وجرائم وتشنيع وتبشيع استناداً إلى آيات قرآنية، فإني أجد هناك خلفية دينية أكيدة وراء ما يجري. هناك تصور وقراءة للنصوص او استعمال للنصوص. آسيا موساي: كلنا نعرف ان بداية العنف كانت مع توقف المسار الانتخابي، وهؤلاء الذين ذهبوا ضحية توقف المسار حملوا السلاح وصعدوا إلى الجبال. وكان هذا شكلاً معيناً من اشكال الجهاد، وكان هناك قتل، حسب منطقهم، ضد قوى الأمن، ضد الطاغوت، كما في البيانات وعلى جدران الشوارع، على اساس ان كل من له علاقة فعالة مع السلطة هو كافر، وبالتالي يحلّ قتله، بما في ذلك المثقفون اليساريون او الذين اتهموا باليسار. هنا المسألة واضحة عندما نقول ان هناك اسلاميين ثاروا بسبب ايقاف المسار الانتخابي وصعدوا إلى الجبال ليمارسوا العمل المسلح ضد دولة لم تعد شرعية في نظرهم، فهذه مسألة يجب ان تكون مفهومة. لكن ما هو غير مفهوم هو تحول العنف إلى اشكال وأوضاع أخرى، إلى مذابح في قرى وسهول وأماكن استراتيجية في البلد، وفي اراضٍ خصبة. ترى أما يجدر بنا طرح السؤال: لماذا يقع القتل المخيف في أراض خصبة، وىهجّر الناس من القرى ويقتل حتى الأولاد والذراري، حتى الأصغر سناً، كما لو ان القاتل يريد أن يقضي على اي امل في ان يكون هناك مطالب بالأرض؟ هذا يشير إلى قضية أخرى، وإلى مصالح أخرى لا علاقة لها بالدولة الإسلامية ومشاريعها. هناك سيناريو دفع بالإسلاميين إلى الصعود إلى الجبال، وبعد ذلك وجد الغطاء لاعمال أخرى لا سيما بعدما اخترقت هذه الجماعات من طرف المخابرات، وتحولت الأمور إلى غيرها. واسيني الأعرج: تتكلمين وكأن هذا هو اليقين بعينه؟ آسيا موساي: لا، أبداً هذا سيناريو بين سيناريوهات أخرى، وهو ليس من اليقين في شيء. لكن ألا يدعو هذا السيناريو إلى شيء من التأمل؟! بشير المفتي: انا لدي خبرة من الضروري التأمل فيها. احد الاشخاص الذين لا أشك أبداً في تعامله مع "الأمن الوطني" كمخبر، جاء وقال لي إذا كنت أحب ان ألتحق ب "جبهة الإنقاذ" و"الجماعات المسلحة" في الجبل، وقال أن لديه طريقاً لإيصالي إليهم. هذا حصل معي شخصياً. ما تفسيره عندكم؟ واسيني الأعرج: هذا وارد. أما ان يقال ان هؤلاء دفعوا للصعود إلى الجبل، ليتحولوا هناك إلى قتلة، فهم كانوا مجرمين قبل إيقاف المسار الانتخابي. هؤلاء الناس كانوا يعتدون على الفتيات، وكانت طالباتي يأتين إليَّ في الجامعة وقد جرى الاعتداء عليهن بالأسيد، وكانوا يطالبون الفتيات بالتحجب. وقد احتلوا مدينة العاصمة بكاملها في يوم من الايام، ولا أظن ان هناك دولة مهما بلغ بها التطور والحداثة ان تصمت على احتلالها بالصورة التي وقعت للجزائر. آسيا موساي: وهذا بالضبط ما يجعلنا اليوم نتساءل لم لم يُحلّ "الحزب" ولم يوقف هؤلاء الناس في حينه عند حدهم، كما حدث في مصر مثلاً حيث جماعات "التكفير والهجرة"؟ لماذا تركت الأمور حتى تتفاقم؟ واسيني الأعرج: حتى في مصر... ما كان في الإمكان ايقافهم عند حدهم. والواضح من التجربة المصرية ان العنف وحده هو الذي حدّ من حركتهم. حرز الله بو زيد: لنتخيل سؤالاً ساذجاً كالتالي: ماذا لو ان النظام دعا إلى فتح باب التوبة، ما الذي سيحدث؟ بشير مفتي: هذا غير معقول. هذه متاجرة في الدين، ان تستعمل الميتافيزيقيا من طرف السلطة. آسيا موساي: يجب ان نفهم خلفيات هذا الغضب الكبير الذي يفصح عنه الإسلاميون. يجب ان نتساءل: ترى أين هم المثقفون الذين يمكن ان يزعجوا النظام عندما يخطئ بحقهم، وبحق الناس؟ المثقفون اغلبهم يخدمون النظام، وهذه مصيبة. واسيني الأعرج: هذا صحيح، والصحيح ايضاً ان وجودهم يخدم الإسلاميين، فالمقالات التي كان يكتبها الطاهر جاووت ضد الإسلاميين تجعلني، لشدة تحريضيتها، أقف معهم في تصفيته لو كنت اسلامياً. آسيا موساي: لكن كيف تفسر ان هناك رجالاً على مقربة من النظام كان يمكن لمقتلهم ان يفيد الإسلاميين اكثر، ومع ذلك فإن هؤلاء لم يُمسّوا! ألا يعني ذلك أن الموت الذي نتحدث عنه ليس موتاً اعمى، بل هو موت يرى جيداً جداً. موت مرباح، العقاد، بن حمودة! واسيني الأعرج: دعيني اقول لك رأيي، فلو قيل لي ان بوضياف قتله الاسلاميون، فان هذه مسألة تضحكني، لأن بوضياف كان مزعجاً. لكن لو تكلمت على اسماء اخرى، ربما يكون وضعها مختلفاً، اما الأشياء التي عشتها بنفسي ورأيتها، وذهبت بنفسي إلى اماكن وسمعتها، كأن يقول لي شخص أن الشخص الفلاني هو الذي كان يقتل، وانا اعرفه، فهذه لا استطيع ان اشكك فيها، خصوصاً عندما اسمعها من أكثر من طرف. الاحتراق الداخلي ابراهيم صديقي: انا انظر إلى الأزمة الجزائرية بصفتها أزمة لها مكونات عدة وتنطوي على تعقيدات هي أبعد كثيراً مما يجري الكلام عليه. أظن بأن ما يجري اليوم في الجزائر وثيق الصلة بالترتيبات الحاصلة على مستوى العالم، وفي إطار ترتيبات النظام الدولي الجديد. والبلد المشابه في وضعه للوضع في الجزائر هو يوغوسلافيا. ما يجري في الجزائر يجري لتأخذ البلاد منحى في التغير يساعد هذه القوى في الانضواء في سياق النظام الدولي الجديد، وفيه وجه من العصرنة والتقدم والليبرالية، الخ... والوجه الآخر هو الاسلاميون. ولم يلق المعنيون بالملف الجزائري أفضل من الاسلاميين، لان المشروع الخاضع للنظام الدولي الجديد لم ينجح في الجزائر، بواقع ان الطاقات المعبأة في إطار حركة التحرير والإطار التقدمي هي اوسع منها في أي بلد آخر جاءت حركة التحرر فيه نتيجة الانقلاب او الانتفاض او الثورة على فئات حاكمة، كمصر الضباط الاحرار العراق انقلاب حزبي سورية انقلاب حزبي. وبالتالي فإن المبرمج للجزائر هو الاحتراق الداخلي. هذه الطاقة التي بحجمها وامكاناتها، والتي كان يمكن ان تخلق مشاكل كثيرة للنظام الدولي الجديد يجب ان تحترق في ما بينها، ولم يجدوا افضل من هذا التيار الجهادي الذي يعتمد على العواطف والانفعالات اكثر مما يعتمد على العقل والفكر. وسوف أمدك الآن بمعلومة قد تكون نافعة، ففي الولاياتالمتحدة وما بين 1974 و1977 انجز باحثون مختصون حوالى 180 عملاً جامعياً حول الجزائر من مختلف الأوجه: الاقتصادية، تركيبة النظام، الرئاسة، التركيبات الثقافية، الميول الثقافية، الميول السيكولوجية، الخ. إذن، في ثلاث سنوات فقط انجز هذا العدد من الدراسات في اميركا وحدها. وهذه الاعمال الجامعية هي التي اعتمد عليها مهندسو النظام الدولي الجديد في تخطيطهم وترتيبهم للوضع الجزائري، بما في ذلك الموقف من الوضع في الجزائر. والمستشار الأول في البيت الابيض لشؤون الجزائر البروفيسور زركان انجز رسالة الدكتوراه في الجزائر. والمرحلة الأولى في خطة إخضاع الجزائر كانت تهديم المؤسسات، واستغرقت حوالى 10 سنوات، ثم بناء المؤسسات البديلة، ولم يكن هناك افضل من هذا التيار التيار الاسلامي لاستعماله في انجاز المهمة. أما مسألة "من يقتل من؟" في الجزائر فهذه واضحة جداً. يكفي الاستشهاد بفقرات من أدبيات هذا التيار حتى نعرف من الذي يقتل! آسيا موساي: ولكن ما الفائدة في ان يقتل اناس جمهورهم… هذا شيء صعب تخيله؟ ابراهيم صديقي: يُقْتَلون بصفتهم مرتدين، وانا شخصياً ليس لدي اي شك في ان النظام الدولي الجديد والارهاب هما وجهان لعملة واحدة. آسيا موساي: لكن الأماكن التي كثرت فيها المذابح كالبليدة والمدية وعين دفلة والميزيان، هي اصلاً مناطق للإسلاميين، والمفاجئ أن تقوم فيها، في الدرجة الأولى، مذابح مروعة، ثم لا يتدخل الجيش إطلاقاً، على رغم وجوده في مداخل هذه المناطق، إلاّ بعد انتهاء عمليات القتل، ما هو تفسير ذلك؟! في خطاب للرئيس زروال يقول: "سنقضي على الإرهاب من جذوره". ما معنى ذلك إن لم يكن يعني القضاء عليه بدءاً من الرضع الذين يمكن، في تصوره، ان يتحولوا إلى إرهابيين؟ حرز الله بو زيد: ممكن جداً! ابراهيم صديقي: هذا ممكن... آسيا موساي: هذه صياغة للسؤال، صياغة للتخمين، قد لا تكون موفقة لكن السؤال يتوارد إلى الذهن هنا! ابراهيم صديقي: هذا ممكن، ويمكن ان نطرح عشرات التساؤلات والتأويلات. واسيني الأعرج: بالنسبة اليّ اتمنى لو اننا، كمثقفين، لا نطرح هذا السؤال المتعلق بالقتل، ويُفضل لو يطرح هذا السؤال على السياسيين. عرب وجزائريون "الحياة": كيف تتراءى لكم العلاقة مع المشرق، هل تحسون بأنكم متروكون من قبل المثقفين العرب؟ بل أكثر من ذلك هل تحسون أنكم نخبة معزولة عن شعبها الجزائري وعالمها العربي الواسع معاً، وبالتالي انتم نخبة في ظلال السلطة؟ أبو بكر زمال: لدي تجربة مع المثقفين العرب، ففي العام 1994 توفر لي هاتف، وبالتالي إمكان للاتصال بالمثقفين العرب، وكانت موجة اغتيال المثقفين على اشدّها، وقد فكرت في وضع كتاب شهادات حول هذا الإغتيال تقرأه من الداخل الجزائري وتدينه من الخارج العربي. وفعلاً بدأت في الاتصال بالمثقفين والأدباء العرب المقيمين في أوروبا والعالم العربي على سبيل جمع الشهادات… والنتيجة بعد أشهر أنني تلقيت عشر شهادات فقط، بعضها من قاسم حداد وجمال الدين بن شيخ وفوزية السندي وآخرين. وخلال هذه التجربة اتصلت بالمفكر المعروف محمد عابد الجابري وقلت له بصفتك مفكراً عربياً كبيراً لا بد ان الأزمة الجزائرية تشغلك بطريقة ما، نحن نعيش أزمة خطيرة وأيضاً نحن في حال انقطاع عن الخارج، وطلبت منه ان يساهم في تقديم شهادة حول موقفه كمثقف نقدي من اغتيال المثقفين. فكان جوابه: لا يمكنني ان ابدي رأيي هكذا، علي ان أعود أولاً إلى حزبي ولا بد ان استشيره، خصوصاً ان حزبي ربما تكون لديه علاقات مع السلطة الجزائرية فتتضرر تلك العلاقات. فأجبته: أنا أسألك شهادة حول القتل، هناك من يموت في الشارع والأمر يحتاج موقفاً منكم أيها المثقفون. قال: أنا آسف، الأمر كما اخبرتك ، واقفل الخط. هذه صورة من صور الإستجابة. لكن بالمقابل، فإن شاعراً كقاسم حداد قدم شهادة ضد الموت. "الحياة": أما تظنون أن هناك مبالغة في طريقة طرح المثقفين هنا لموضوع زيارة المفكرين الفرنسيين غلوكسمان وليفي إلى الجزائر، وهو طرح يتهمهما بالتواطؤ مع السلطة الجزائرية ضد جزء من المجتمع؟ أبو بكر زمّال: لا أظن بأن هناك مبالغة ، يجب ان نتساءل فعلاً عن دور السلطة في وصول كل من غلوكسمان وليفي إلى الجزائر، على سبيل تفكيك سؤال "من يقتل من؟" فالسلطة هي التي دعتهما خصوصاً ان السؤال لم يعد مطروحاً في أوروبا بعد تدخلهما، وتفكيكه. والسلطة التي دعتهما واستقبلتهما سبق لها، بالمقابل، أن دعت كاتباً عربياً بالفرنسية اسمه يوسف الحاج علي. والسلطة وضعت امكاناتها في تصرفه، وقام بمداخلات، ومع ذلك، لم يكتب بالطريقة التي تريدها السلطة. من هنا لا بد من توضيح موضوع غلوكسمان وليفي. واسيني الاعرج: انا لا أدخل في التفاصيل العميقة الداخلية. انا اعرف هؤلاء الناس. أبو بكر زمّال: انا اقول ذلك، لأن الظاهر لنا ان السلطة هي التي جاءت بهما. والواضح انهما ساعدا السلطة في توجيه نظر الغرب نحو إجابة معينة عن السؤال المطروح: من يقتل من؟ وهذا كاف. واسيني الأعرج: انت تلغي بذلك إرادته كمثقف. فأنت عندما تقول ان مثقفاً عربياً وصل إلى البلد تحت رعاية السلطة يمكن فهم الأمر. وحتى هذا الأمر له استثناءاته. ابو بكر زمّال: قضية غلوكسمان وليفي مختلفة. وعلى رغم أنهما مفكران وكاتبان، فالغريب أنهما لم يتصلا بأي من الكتاب الجزائريين. لماذا لم يفعلا؟ ربما اتصلا بالفرنكوفونيين، لكن اية مؤسسة ثقافية عربية لم ترهما. ان احداً من المسؤولين الثقافيين او الكتاب في الجزائر لم يلتق غلوكسمان، فقد كان المفكر تحت مظلة السلطة وفي ضيافتها! واسيني الأعرج: المثقف الفرنسي والأوروبي حر في قراره الشخصي، إنه صاحب قراره. ويجب ان لا ننسى ان هناك جانباً عاطفياً بالنسبة إلى زيارة هنري ليفي، فهو جزائري مولود في الجزائر، ثم انه شخص مغامر. فهو ذهب إلى البوسنة وتنقل هناك ووضع كتاباً، والصحافة الفرنسية شتمته. انه يشبه ريجيس دوبريه في وقت من الأوقات، ويشكل سلوكه نموذجاً مغرياً في الثقافة الفرنسية. نصيرة محمدي: لكن الجزائر لها وضع آخر، وضع مختلف بالنسبة إلى فرنسا والثقافة الفرنسية؟ واسيني الأعرج: لا بأس. لكن هذا لديه في ثقافته جانب المغامرة. أما ان تقول لي ان المغامرة محسوبة، فهذا شيء آخر. هنا يأتي دور السلطة التي تسهل له مسألة الدخول، وقد يكون استُعمل كما تقول لي، لكن هذا شيء آخر. نصيرة محمدي: حسب ما نشر في مقالة، فإن هنري ليفي راح يسأل الناس عما جرى في حضور العسكر. وهؤلاء كانوا محرجين فهم لا يستطيعون ان يتكلموا بحرية، بينما الأمن الوطني والعسكر من حولهم، وبالتالي يقولون ما يرضي السلطات، أو ما يعتقدون بأنه يرضي السلطات، أو على الأقل، ما لا يغضبها. - أدار الندوة في مجمع موريتي في الجزائر نوري الجراح .