يعتبر بنجمان ستورا، من مواليد الجزائربقسنطينة سنة 1950، احد اهم المختصين في التاريخ الحديث والمعاصر للجزائر. يدرّس تاريخ المغرب العربي، وتاريخ الاستعمار الفرنسي، ويدير "معهد المغرب العربي - اوروبا". وله مجموعة كتب، منها: "مصالي الحاج 1898 - 1978"، "سوسيولوجيا الحركة الوطنية الجزائرية"، "التاريخ السياسي للهجرة الجزائرية في فرنسا 1922 - 1962"، "تاريخ حرب الجزائر"، "تاريخ الجزائر منذ الاستقلال 1962 - 1994"... الخ. يرى ستورا ان الجزائر، وهي مقبلة على انتخابات رئاسية مبكرة في 15 نيسان ابريل المقبل، بصدد الخروج من مرحلة تاريخية، تميزت بالهيمنة المطلقة للمؤسسة العسكرية، وبتغييب تام للمجتمع. ولأن هذه المؤسسة تمكنت، نسبياً، من محاصرة العنف الاصولي المسلح، فانها، في الآن نفسه، لم تتمكن من الحفاظ على وحدتها السياسية. وتمثل الانتخابات مناسبة اخرى لفتح المجال امام القوى السياسية الجزائرية للاندماج في النظام، وتقاسم المسؤولية التاريخية لاخراج الجزائر من محنتها. هنا حديث معه عن الحياة السياسية الجزائرية، دور الجيش، الحركات الاسلامية، ودلالة الانتخابات الرئاسية. كيف يمكن ان تصف لنا الوضعية السياسية الحالية للجزائر؟ - اذا نظرنا الى الأمر من زاوية الفترة الطويلة، يبدو ان الجزائر بصدد الخروج من صراع رهيب، يصعب تحمله، بين الدولة الجزائرية والجماعات الاسلامية المسلحة. وهو صراع خلف عشرات الآلاف من الضحايا اكثر من 70 الفاً على الأقل. هناك مؤشرات عدة تظهر بأن الجزائر تحاول الانفلات من هذا المأزق بسبب الهزيمة العسكرية للاسلاميين، وليس بسبب هزيمتهم السياسية، ثم ان المؤسسة العسكرية، من جهتها، حتى وإن تمكنت، نسبياً، من محاصرة الاعمال العسكرية للجماعات المسلحة، فانها عجزت عن اعادة بناء وحدتها السياسية. الأمر الذي يدعونا الى القول اننا امام وضعية مفارقة، تتمثل في الانسحاب الظاهر للحركات الاسلامية المتطرفة من المجال السياسي، واستحالة الحفاظ على السلطة من طرف العسكريين، كما كان الشأن في السابق. ... غير ان الحياة السياسية الجزائرية لا تعرف فقط النظام العسكري والاسلاميين، فهناك تشكيلات سياسية اخرى لها حضور، متفاوت القوة، في الحقل السياسي. - هذا صحيح، نجد احزاباً كثيرة في الجزائر، منها من له تأثير نسبي، ومنها من تشكل في السنوات القليلة الماضية. لكن اهم ما يميز الحياة السياسية الجزائرية في الفترة الحالية، يتمثل في بروز مجتمع، بقي مرتهناً لمدة طويلة لسياسة العسكريين، واستمر في الحياة على رغم الصراع الدموي. وهو مجتمع ظهر من خلال مؤسسات وحركات جمعوية وحركات تدعو الى المواطنة، بعضها له خلفية دينية غير متشددة، او لغوية، كالحركات الامازيغية، او ثقافية. هناك تنوع هائل داخل المجتمع الجزائري يبرز بأشكال مختلفة، ويرفض الاستسلام لمنطق الحرب الدائرة، او الاستمرار في وضعية الرهينة بين الدولة والجماعات المسلحة. وهذا درس كبير في ضوء ما يجري الآن في الجزائر. هناك مسافة بين المجتمع والحركات الاسلامية التقليدية التي تحاول احتكار الخطاب السياسي. صحيح ان هناك قيادات مختلفة، مثل حسين آيت احمد، وحركات اصولية دينية تعمل على "اسلمة المجتمع السياسي" تدريجياً من دون اللجوء الى العنف، وتعبر عن ارادة واضحة للمشاركة في المؤسسات السياسية. وهذا امر جديد بالنسبة للحركة الاسلامية في الجزائر، التي كانت قبل عشر سنوات في حال عصيان مطلق ضد الدولة. كما نجد جماعات ثقافية امازيغية، وحركات نسائية الى نساء يرأسن الصحف ويقدن الأحزاب مثل لويزا حنون التي ترشحت للانتخابات الرئاسية، وهذه ظاهرة استثنائية في العالم العربي. ألا ترون ان الاستعمار الفرنسي، الذي سيطر على الجزائر اكثر من 130 سنة، ولد صدمات عميقة في نمط الوجود الجزائري؟ وما هو دور هذه التركة الثقيلة والمعقدة في ما يشهده هذا البلد الآن؟ - لا يمكن فهم التراجيديا الجزائرية، من وجهة نظري، الا ضمن رؤية تاريخية طويلة المدى، وليس انطلاقاً مما هو ظرفي وآني. تعرضت الجزائر لاهتزاز هائل في تاريخها، اجتماعياً وانسانياً وثقافياً، من جراء العنف الكولونيالي، وتعرض تراثها اللغوي والثقافي لاجتثاث حقيقي، وحاول الاستعمار دمج الجزائريين، بكل الاشكال والوسائل، في "التاريخ الفرنسي". لأن الجزائر، في عرف الفرنسيين، كانت محافظة فرنسية، على عكس نظام الحماية في المغرب مثلاً. كانت هناك مثاقفة جذرية الى حد ما، الى درجة ان اعادة امتلاك ما هو وطني في الجزائر تمت بطرق في غاية التعقيد، وتطلبت اعادة بناء الوطن الجزائري - ولا تزال تتطلب - وقتاً طويلاً. بعبارة اخرى، فالقول بأن الاستقلال سنة 1962 عمل على حل المسألة الوطنية كان مجرد وهم، اذ لم يكن الا ايذاناً لبداية حل القضية الوطنية، على المستويات اللغوية والثقافية والسوسيولوجية... الخ. لم يحل الاستقلال هذه المشاكل تماماً، وهذه مهمة تحتاج الى وقت، وتفترض عملاً جباراً لإعادة بناء الأمة. كيف تنظر الى هذه التفاعلات الثقافية والسياسية؟ - هناك بالفعل جانب مشروع في عملية اعادة امتلاك الذات، وكذلك نقد الذات في داخل الصراع الدائر حالياً. وهذا تقليد جزائري ليس جديداً على كل حال، ومنذ مصالي الحاج، ابن باديس، ومالك بن نبي، عملت النخب الجزائرية على مساءلة ذاتها قياساً الى الماضي العربي الاسلامي، والى التحدي الفرنسي، للانفصال عن التاريخ الاستعماري الفرنسي. وهذا ما تطلب منهم الاستفادة، كذلك، مما بدا لهم ايجابياً في فرنسا. في المقابل نجد من يضخم ما هو سياسي وما هو ايديولوجي اعتماداً على عملية اعادة امتلاك لما هو وطني من اجل غايات اخرى، ويعطي معنى جديداً للوطنية من منطلقات ضيقة وجذرية، يدعو فيها ليس فقط الى الاحتياط من فرنسا ولكن من الآخر كذلك، اي من الجيران القريبين، مثل المغرب وتونس، باسم نزعة وطنية جذرية، او "وطنية دينية" لا تميز بين اعادة البناء وما يرجع الى الحداثة. فالحركة الاسلامية الجزائرية تقدمت الى المجال السياسي في اعتبارها "وطنية جديدة"، باقصاء كل ما يحيل على الحداثة او على المثاقفة. الى اي حد يمكن اعتبار المؤسسة العسكرية، منذ انقلاب 1965، تاريخياً وسياسياً، مسؤولة عن اشكال العنف المختلفة في الجزائر؟ - هنا يجب ادخال شيء من النسبية على هذا النوع من السؤال. لا جدال ان الجيش هو الذي يتحكم في السلطة، ليس فقط منذ 1965، بل ومنذ حرب التحرير، وبالضبط ابتداء من 1958 اذ ستظهر نزعة وطنية ذات طبيعة عسكرية. لكن الجيش الذي استولى على السلطة وأراد بناء دولة قوية، سلطوية، مركزية، جاء في وضعية ضعف الوطنية السياسية، وضعف التقاليد الدولتية، وضعف المرجعية الوطنية. جاء الجيش لسد كل هذه الثغرات الكبرى، اي ان الجيش أتى، وبطريقة سلطوية، لبناء الأمة من فوق، وإقامة دولة منفصلة عن الأمة. فالدولة هي الصانعة للأمة، بالتعبير العسكري للكلمة. لذلك فان ما قد يبدو عنصراً ايجابياً اصبح، بسرعة شديدة، عائقاً امام عملية بناء دولة الحق والقانون، اي ان الجيش اصبح حاجزاً امام اندماج الدولة بالأمة. والسؤال الآن هو انه اذا كان الجيش انجز هذه المهمة بتناقضاتها ومشاكلها، فان المطلوب بات يتمثل في استرجاع الدولة من طرف الأمة، بفصل ما هو عسكري عما هو سياسي. وهذا تحد غير مطروح فقط على الجزائر كما هو معروف، بل يهم بلداناً عربية اخرى. ويبدو لي ان التجربة الجزائرية تؤذن بنهاية هذه "المرحلة العسكرية" اذا صح التعبير. ألا تعتبر ان محاولة الرئيس الشاذلي بن جديد الترخيص للأحزاب، والبدء في تحرير الاقتصاد، قاومها الجيش وعمل على افشالها...؟ - من الواضح ان النظام حاول اصلاح ذاته من الداخل، خصوصاً في فترة الازمة الاقتصادية والاجتماعية 1985 - 1986، حين انخفض سعر النفط - وهو المورد المالي الأساسي للبلاد - وبدأت الانتفاضات الأولى للشباب قسنطينة 1986، التي سبقت بسنتين احداث تشرين الأول اكتوبر 1988. حاول النظام ادخال بعض الاصلاحات، اساسها سحب تدبير الشؤون الاقتصادية من يد الجيش، والدخول في اقتصاد السوق، وتحجيم سطوة اجهزة المخابرات العسكرية، التي تضخمت بشكل كبير في زمن هواري بومدين. وحاول بن جديد الدخول في هذا الرهان، لكن، يبدو لي، انه لم يكن له الوقت الكافي لانجاز هذه الاصلاحات، وسيبين التاريخ، يوماً، كيف ان احداث اكتوبر 1988 كانت، لربما، نتاج استخدام لطرف في الجيش لمنع هذه الاصلاحات. ونحن نعرف ان هذه الاحداث سمحت للشارع بأخذ الكلمة، وانهيار الحزب الوحيد، وبداية ازمة الدولة. ولكننا، هنا، ندخل في مواضيع اكثر تعقيداً، اذ برزت تيارات جديدة في المجال الشعبي، وبطريقة عنيفة احياناً، مثل التيار الامازيغي، والتيار الاسلامي، وبعض الحركات الديموقراطية التي كانت تدعو الى التوفيق بين التقليد والحداثة... الخ. كان هناك نوع من التسابق بين هذه التيارات ترتب عنه اجتياح بارز للمجال الشعبي من طرف الحركة الاسلامية. ما هي في رأيك الأسباب الواقعية التي دفعت الرئيس اليمين زروال للاعلان عن انتخابات رئاسية مبكرة؟ - نحن نعرف الأسباب الحقيقية التي تكمن وراء هذا الاعلان، فهو جاء نتاج صراع بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الاركان. وهذا ليس سراً، لأن الناس تتداوله. وتعرف مستشار الرئيس، احمد بتشين، لحملات عنيفة من طرف الجناح القوي في الجيش. واعلان زروال لهذه الانتخابات خلق مفاجأة لدى خصومه، اذ قام، مجدداً، بفتح اللعبة السياسية. ولا يجب فهم الأمر على انه استسلام مؤسسة الرئاسة امام الضغوط، بقدر ما يتعين النظر الى هذا القرار باعتباره يفتح آفاقاً جديدة. فالرئيس زروال الى 15 نيسان هو وزير الدفاع. وللمرة الأولى نجد وزير الدفاع في موقع يتعارض مع اطراف اخرى قوية داخل الجيش. وهذا ما يسمح لي بالقول بأن ذلك يعبر عن نهاية مرحلة بأكملها، اي نهاية التوافق السياسي داخل الجيش الجزائري، ما يعني نهاية حقبة من تاريخ الجيش. الرئيس المدني الوحيد الذي احتل موقع الرئاسة منذ 1965 هو محمد بوضياف، الذي تمت تصفيته بسرعة. وانتخاب رئيس مدني معناه بداية الدخول في حقبة جديدة في تاريخ الجزائر، حتى الجيش اصبح واعياً للامر، لهذا التجأ اى مرشح مدني. من هي القوى الاسلامية التي ما زالت تجابه استراتيجية السلطة العسكرية؟ - هناك جهات مرتبطة بجبهة الانقاذ الاسلامية، وهي كثيرة وهناك حركات اسلامية اخرى مثل "حركة مجتمع السلم" لمحفوظ نحناح و"حركة النهضة" التي تعبّر عن العمق الدعوي الجمعوي للممارسة الاسلامية. تتجلى الخاصية الاساسية لهذه الجبهات الثلاث في كونها لا تسعى الى تدمير الدولة. اما الجماعات المسلحة، فهي تمثل اقليات متفرقة، هنا هناك، تقوم بعمليات موجعة، ولا احد يمكن الانتقاص من قدرتها على ممارسة العنف الوحشي. الا ان اساس الحركة الاسلامية الجزائرية، نفسه، تعرض للتغيير، اي ان جذرية هذه الحركة، وعصيانها، وانفصالها عن السلطة السياسية، اي ما كان يعطيها شعبية وقوة في أعين شرائح واسعة من المجتمع الجزائري، بدأ يفتر طوال سبع سنوات من المواجهات العسكرية العنيفة. فالحركة الاسلامية في الجزائر، الآن، تختلف كلية عما كانت عليه في نهاية الثمانينات. لقد تغيرت بشكل عميق. وانتقلت من الاختيار العسكري الجذري طمعاً في الاستيلاء على السلطة، الى التساؤل عن الذات، ثم ارتقت الى وضعية وجدت نفسها فيها تستهدف المشاركة في ممارسة السلطة، والتوافق مع آخرين، مختلفين عنها، أي انها اصبحت تعتبر نفسها كحزب سياسي مثل الآخرين، وليست "الممثلة الشرعية" للشعب برمته. فالحركة الاسلامية اليوم، تجد نفسها مضطرة للتعايش واقتسام الادوار. وهذا امر جديد. والمشكلة تتمثل في طريقة تقديم اجوبة من طرف الدولة على هذا النوع من التحدي. لو عدنا قليلاً الى الانتخابات المنتظرة، هل تعتبر ان الرأي العام مهتم بهذا الاستحقاق؟ والى اي حد ستلتزم المؤسسة العسكرية الحياد؟ - يلاحظ ان هناك عياءً بادياً على المجتمع الجزائري جراء سبع سنوات من الحرب. صحيح انه شارك بكثافة في المواعيد الانتخابية السابقة، لحسابات سياسية، او بدافع البحث عن مشروعية معينة. كل ذلك ممكن، لكن هناك في المقابل شرائح صوّتت للاسلاميين بدأت تضجر من بشاعة الممارسات الارهابية. كما ظهرت شبيبة واسعة بدأت تبتعد عن السياسة، وتميل نحو نزعة فردانية واضحة. وهذه ليست ظاهرة جزائرية استثنائية. بروز هذه الفردانية امر غامض تماماً، لكنه يسمح للشباب بالتعبير عن رفضه للواقع، وعن تبرم من عالم السياسة المتضخم. لكن ما لا يمكن توقعه هو نسبة المشاركة هذه المرة، علماً ان هذا الحدث سيؤرخ، في كل الاحوال، الانسحاب التدريجي للجيش من الحياة السياسية، والتخلي عن اعتماد العنف كمحرك للسلوك السياسي. لهذا نلاحظ كم يتشوق الجزائريون الى الاوجه السياسية المسالمة، والى الرغبة في القطع مع املاء القرارات من فوق. اثبتت حوادث السنوات الاخيرة ان الجزائر عاشت ثورة عنيفة، نجم عنها ضرورة الفصل بين العسكري والسياسي، وتكوين نظرة جديدة للعلاقة بين السياسة والعنف، واعادة تعريف الحدود اللغوية، والوظائف الجديدة للدولة، ولدور الدين في السياسة والمجتمع. هذه مراجعات مهمة ترسم معالم جديدة للمجتمع الجزائري، وهي ليست خاصية جزائرية على كل حال، لأن العالم يتغير، والمغرب، الجار المباشر، يعرف تجربة تناوب سياسي بعد عقود من المواجهة السياسية بين الفاعلين الاساسيين، لكنها تجربة اخذت مداها. ماذا يمكن للمرء ان يستخلص مما يجري في الجزائر؟ - اذا كان هناك من درس يمكن استخلاصه مما يجري في الجزائر هو انه من الوهم اعتبار ان بعض البلدان العربية معفية من الاهتزازات التراجيدية. فالتاريخ يتقدم من خلال ولادات مؤلمة، الأمة تنبعث، احياناً، من خلال انقطاعات تساعد على تنشيط حركة التاريخ. ما تشهده الجزائر يوفر على بعض المجتمعات المآسي التي واجهتها، اذا عرفت نخبها كيف تستخلص النتائج. فالتراجيديا الجزائرية تفيد الآخرين في تجنّب تكرار الاسباب المختلفة التي ادت الى حدوثها. وليس هناك من خيار سوى اطلاق الكفاءات المبدعة، وخلق مؤسسات قوية متوافق عليها، وتعددية سياسية فاعلة، والاعتراف بالاختلافات البناءة، غير المهددة للنسيج الوطني، وتأهيل المواطن ثقافياً وسياسياً واجتماعياً. وهذا درس عظيم تقدمه التجربة الجزائرية.