يعد احمد مراني من بين الشخصيات السياسية القليلة في الجزائر التي قطعت شوطاً في العمل السياسي في مرحلة وجيزة. فقد بدأ عضواً مؤسساً "للجبهة الاسلامية للانقاذ" وأحد القادة البارزين فيها، ثم خرج منها بعد الاضراب السياسي في حزيران يونيو 1991، واعلن براءته منها أمام "الله والشعب والتاريخ" كما ذكر ويذكر دائماً. ثم التحق بحكومة سيد احمد غزالي. وواصل بعد ذلك طريقه، فاختير سنة 1996 وزيراً للشؤون الدينية. وبعد الانتخابات البرلمانية ومجيء الحكومة الائتلافية اصبح خارج المؤسسة الرسمية، لكنه عاد اليها من جديد بعد ان اختاره الرئيس اليمين زروال عضواً في مجلس الامة الغرفة الثانية للبرلمان. في هذا الحوار يتناول مراني الوضع في الجزائر، مُركِّزاً حديثه على نقد حكومة أويحي، وموضحاً الوضع الذي وصلت اليه "الجبهة الاسلامية للانقاذ". وباعتباره امازيغياً فإنه يقدم لنا خلفية ما يحدث في مناطق "القبائل" ودور الاحزاب السياسية، مركزاً نقده على حسين آيت أحمد ومنتهياً بالتشديد على انه لا خوف على الوحدة الوطنية، ومعلناً تفاؤله بمستقبل الجزائر. وهنا الحوار: بعد إعادة تفعيل المؤسسات الدستورية، واجراء الانتخابات، وتشكيل حكومة ائتلافية، اين تتجه الجزائر الآن؟ - صحيح أن للمؤسسات الدستورية دوراً مهماً جداً، إذ اخرجت الجزائر من الضغوطات الداخلية والخارجية، والمنطقي ان تتجه البلاد إلى اتخاذ اجراءات لتثبيت وتدعيم تلك المؤسسات للخروج نهائياً من الازمة، وكان هذا هو التصور عند الرئيس اليمين زروال. وبالعودة إلى سؤالكم اين تتجه الجزائر؟ أقول إن الذي يحقق هذا عملياً هو السلطة التنفيذية اي الحكومة، والتي يسيطر عليها الآن الحزب الجديد "التجمع الوطني الديموقراطي" أو بالأحرى توجه رئيس الحكومة الحالي أحمد أويحيى الذي يظن بأن الأمور استقرت له، ويمكن ان يتصرف كما يشاء، ولكنه ترك الاجراءات اللازمة والضرورية لدفع البلاد سياسياً نحو الامان مفضلاً التوقيع على ما هو موجود. فتصرفات الحكومة الحالية غير حكيمة وتُبقي الجزائر في تقوقع. لذلك ارجو ان تغير الحكومة من سياستها، ومن نظرتها إلى الواقع، لكي تدفع الجزائر الى الامام سياسياً. وننتظر ان ينتبه رئيس الجمهورية الى ذلك ويتخذ الاجراءات اللازمة للسير بالبلاد إلى الأمام. هناك من يخالفكم في الرأي ويرى ان حكومة أويحيى الحالية - وحتى السابقة - ورثت وضعاً سيئاً، وهذه التركة الثقيلة وما يصاحبها من مشاكل يصعب تجاوزها في الوقت الراهن، اولاً لأن الحكومة الحالية ائتلافية، وثانياً لأن هناك وضعاً صعباً تعيشه البلاد، فما تعليقكم؟ - صحيح ان الحكومة الحالية وجدت وضعاً صعباً تعيشه البلاد، وهي لا تُلام على ما هو موجود. لكنها تُلام على طريقة تسييرها للامور وعلى عجزها عن حل المشاكل التي تتراكم يوماً بعد يوم. وبما ان هذه الحكومة لم تثبت فاعليتها، لذلك عليها أن تعترف بعجزها وتقدم استقالتها. يلاحظ انك لم تترشح في الانتخابات البرلمانية السنة الماضية. هل يعني ذلك عدم اقتناعك بأطروحات الاحزاب الجزائرية التي شاركت في تلك الانتخابات؟ - أولاً عندما كنت في "الجبهة الاسلامية للانقاذ" اعتبرت نفسي معارضاً لسياسات تسيير شؤون الدولة، ولم اكن معارضاً للدولة أو للجزائر. لكن عندما رأينا أن الصدام بين "الجبهة الاسلامية للانقاذ" وبين السلطة سيقود الى حرب اهلية والى بحر من الدماء، تبرأت من الاجراءات والتصرفات التي وقعت في العام 1991 امام الله والتاريخ والشعب الجزائري. ثم عندما وقعت البلاد في كارثة حين رفع شعار "البحث عن الدولة الاسلامية" في العام 1992، رأينا ان الاسلام والجزائر هما ضحية البقاء في السلطة أو الوصول اليها. ومع اننا كنا في بيوتنا، إلا أننا كنا نقدم نصائح سواء لاحزاب المعارضة أو للسلطة. وعندما عرض عليَّ رئيس الحكومة سيد احمد غزالي منصب وزير الشؤون الدينية في العام 1992 رفضت لأنه لم يكن قد مر على انسحابي من "جبهة الانقاذ" اكثر من ثمانية شهور، وخفتُ ان يعتقد الناس ان انسحابي كان من اجل الحصول على منصب. فعيّن رئيس الحكومة وزيراً اخر، ثم طلب مني ان اكون مكلفاً بمهمة لمساعدة وزير الشؤون الدينية، وهو الاقتراح الذي قبلت به لمساعدة الوزير في حل المشاكل. وفي العام 1996 طلب مني الرئيس زروال تولي منصب وزير الشؤون الدينية فقبلت الى ان جاءت الانتخابات، ولم أترشح إذ لم تكن عندي رغبة لتولي المسؤولية. وعندما انتخب مجلس الامة، وكما تعرفون أن لرئيس الجمهورية الحق في اختيار ثلث الاعضاء من الشخصيات الوطنية الفكرية والثقافية والسياسية، كان من الواجب ان اقبل بهذا التكليف. هل التقيتم عباسي مدني بعد خروجه من السجن في الصيف الماضي، اثناء وجوده في الاقامة الجبرية، وهل له تأثير في حل الأزمة الجزائرية؟ - لم ألتق عباسي مدني منذ 25 حزيران يونيو 1991، والسبب هو انني لم ار في لقائه خيراً، ولو توقعت ان يكون فيه خير للبلاد وللاسلام ما ترددت في عقده. أما بالنسبة الى تأثيره في حل الأزمة، فلا اعتقد ذلك، لان كل الظروف تجاوزته وهو الآن عاجز عن حل مشاكله الخاصة. هذا بالنسبة الى عباسي مدني فماذا عن "جبهة الانقاذ" كتنظيم بشقيها المدني والعسكري سواء قيادة الداخل أو الخارج، أو "الجيش الاسلامي للإنقاذ"؟ - بالنسبة إلى قيادات الخارج لا اعتقد بأن هناك احداً داخل الجزائر يسمع بهم، خصوصاً ان الأمور الآن تجاوزتهم، وهم يشعرون بأنهم لن يؤثروا لا سلباً ولا ايجاباً على "الجيش الاسلامي للانقاذ" ولا في الجماعات الاسلامية المسلحة. أما ما يخص القيادات الموجودة في الداخل فالمؤسسين للجبهة الاسلامية للانقاذ معظمهم انسحب في حزيران يونيو 1991، ويبقى الذين كانوا في السجن وهم: علي جدي، عبدالقادر بوخمخم، عباسي مدني... هؤلاء اعتقدوا بأن لهم تأثيراً لكن عندما خرجوا وجدوا أن الاحداث تجاوزتهم. وكمثال على ذلك انه لما اطلق سراح بوخمخم وجدي ومن معهما، جاءهم افراد من الجماعات المسلحة وقالوا لهم بالحرف الواحد: "عليكم البقاء في بيوتكم، وان لا تتكلموا او تفاوضوا، وأي خروج عن هذا سيجعلنا نقتلكم". أما "الجيش الاسلامي للانقاذ" فإنه يبحث الآن عن مخرج لنفسه، وانقاذ عناصره المتبقية. هل هناك خوف على عروبة واسلام منطقة "القبائل" التي وقعت فيها احداث الشغب والتظاهرات في الايام القليلة الماضية؟ - الخوف من تسييسها وليس على اسلامها، لان معظم سكانها يكرهون الحكومة، ويمكن استفزازهم بأية وسيلة. لذلك إذا قالت الحكومة إننا عرب فإنهم يقفون ضدها ويقولون نحن لسنا عرباً. ولكن هذه ليست قناعة او عقيدة إنما هي حال من التذمر نتيجة لسياسة الحكومة. أما بالنسبة الى الاسلام فهم متمسكون به تمسكاً شديداً. ما دام الأمر على النحو السابق فلماذا لم تستجب تلك المناطق لدعوات حزب "التجمع من اجل الثقافة والديموقراطية"، و"جبهة القوى الاشتراكية"؟ - هناك تذمر عام من سياسة الحكومة الحالية ليس في منطقة الامازيغ فقط وانما في باقي مناطق التراب الوطني الاخرى، لذلك يمكن للاحزاب ان توظف احداث الشغب الاخيرة لمصلحة مواقفها السياسية. والواقع ان "التجمع من اجل الثقافة والديموقراطية" و"جبهة القوى الاشتراكية" لم يجندا الشارع في تلك المناطق، بل الذي قام بذلك "الحركة الثقافية البربرية". وحين ذهب زعيم "التجمع من اجل الثقافة والديموقراطية" الى جنازة المطرب معطوب الوناس، قال له السكان: "لك الحق ان تحضر الجنازة، لكن غير مسموح لك بالكلام... إننا لا نريد ان توظف هذا الحدث لمصلحة حزبك السياسية". وفعلا شارك في الجنازة ولم يتحدث، لكنه بعد ان عاد الى العاصمة وظَّف الحدث سياسياً في وسائل الاعلام. ما هو مطلب الحركة البربرية تحديداً؟ - ليست هناك مطالب للحركة الامازيغية، لان الثقافة واللغة الامازيغية غير مضطهدة في الجزائر ولم يثبت في أية مرة ان شخصاً تحدث باللغة الامازيغية او علَّمها لابنائه وتعرض للعقاب. إذن فهناك حرية تامة، وانا امازيغي مئة في المئة وولدت في قلب منطقة القبائل الكبرى في قرية يكوران البعيدة عن مدينة تيزي أوزو بثلاثين كيلومتراً، اشهد على ذلك، وعندما قدمت اخيراً مطالب لتدريسها في المدارس، ذهبت رئاسة الجمهورية الى ابعد من ذلك وكوّنت للامازيغية مجلساً اعلى وهذا يدل دلالة واضحة على انها ليست مضطهدة. وهناك الآن مدارس تقوم بتدريس اللغة الامازيغية باشراف الدولة. هل تطالب الحركة البربرية بتعميم لغتها على المستوى الوطني للتساوي في ذلك مع العربية والفرنسية؟ - اللغة الأمازيغية ليست مضطهدة كما ذكرت، وإنما هناك محاولات للغة أخرى يراد لها أن تكون هي اللغة الطبيعية وأقصد بذلك الفرنسية. وهذه الضجة التي قامت ليس لأن الأمازيغية مضطهدة، وإنما لأن اللغة الفرنسية تصبح لغة أجنبية طبقاً لقانون التعريب، وهو القانون الذي يسعى إلى التمكين للعربية باعتبارها اللغة الرسمية والوطنية. وطبيعي أن تفرض الجزائر لغتها على الإدارة. والجهات الرسمية في الجزائر ينبغي عليها أن تتكلم مع الشعب بلغته. إذن الصراع الدائر الآن ليس لمصلحة الأمازيغية ولا العربية، وإنما من أجل الإبقاء على الفرنسية. أما بالنسبة إلى تعميمها كباقي اللغات الأخرى، فهذا مرهون بقدرة الأمازيغية على الانتشار والتوسع. وعلى مستوى الواقع يلاحظ أن في الجزائر أغلبية مطلقة لا تفهم ولا تقرأ اللغة الأمازيغية. هل ما يحدث الآن في منطقة "القبائل" يمثل خطراً على الوحدة الوطنية؟ - ليس هناك خطر على الوحدة وإنما يمكن حدوث مشاكل. ولم تكن منطقة "القبائل" مستقلة ابداً ولا طالبت بالانفصال، بل إن الجزائر عُرفت منذ القدم بأنها وطن واحد، وكذلك الحال بالنسبة الى المغرب العربي. وكما قلت فإنه يمكن أن يستمر خلق المشاكل في الجزائر لكن لا يمكن تقسيمها، ولا التأثير في وحدتها. بماذا تفسرون التصريحات الأولية لحسين آيت أحمد حول قانون اللغة العربية؟ - المسألة تتعلق بآيت أحمد نفسه، فهو شخص عُرف منذ بداية تاريخه النضالي ببحثه دائماً عن الفتن، وأول أعماله تلك كان في العام 1949، لذلك عزل من المنظمة الخاصة التي كانت تحضر للثورة. وفي العام 1963 حمل السلاح وتسبب في مشاكل كثيرة للدولة، وهو رجل متطرف يبحث دائماً عن القضايا المتطرفة، فلو أن السلطة في الجزائر وضعت قانوناً من أجل تعميم اللغة الأمازيغية لندد به، وقال: "هذا ظلم كي نعمم لغة ليست في مستوى اللغة الوطنية". ومن ناحية أخرى فإن قانون استعمال اللغة العربية لم تضعه السلطة الحالية ولا البرلمان الحالي، وإنما قنّن من قبل المجلس الوطني في العام 1990، وكان مقرراً أن يبدأ تطبيقه في 5 تموز يوليو 1992، ثم جاءت دوامة الإرهاب وأُجل تطبيقه الى أن تتوافر الظروف. وفي العام 1996 رأى المجلس الوطني الانتقالي أن يبدأ تطبيقه في تموز يوليو 1998، والآن هو ساري المفعول، ولا يملك حتى رئيس الجمهورية صلاحية توقيفه. وبالنسبة الى حزب آيت أحمد فهو موجود في البرلمان وفي مجلس الأمة، ومن حقه كأية كتلة برلمانية أن يقترح مشروعاً لتعديل أو لإلغاء القانون، وتتم مناقشة ذلك بكل حرية، وما دمنا نخضع للنظام الديموقراطي فستكون الكلمة للأغلبية. ألا ترون أنه من الضروري أن تتنازل السلطة عن تطبيق هذا القانون ما دام قد تسبب في مزيد من العنف، خصوصاً بعد الإعلان عن ميلاد "الحركة البربرية المسلحة" التي هددت بقتل كل من ينفذ قانون التعريب؟ - السلطة لا يمكن لها أن تتنازل لأن هذا ليس من حقها بمن في ذلك رئيس الجمهورية، وكذلك الحكومة التي ليست مهمتها تقنين القوانين. وما دامت هناك أحزاب في البرلمان، فبدل أن تشكل ضغطاً خارجياً عليها أن تتقدم باقتراحات للبرلمان ويتم النقاش حولها كما ذكرت سابقاً. كيف تتصورون مستقبل الجزائر؟ - أنا متفائل بالنسبة إلى المستقبل. ألا تلاحظون بأن تفاؤلكم غير مؤسس ما دام العنف مستمراً؟ - العنف في طريقه الى زوال، والتفاؤل ليس في المطلق. بل أنا لست متفائلاً من سياسة الحكومة الحالية، لأنها حكومة عاجزة عن حل أية مشكلة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وقد وصلتُ الى قناعة هي أن الحكومة الحالية ينبغي أن ترحل في أقرب وقت لأنها أفلست، ولا يمكن أن تجد حلاً لا للأمازيغية ولا للإرهاب ولا للأمور الاقتصادية والاجتماعية وغيرها. وعلى رغم هذا الواقع، أنا متفائل من منطلق أن الشعب الجزائري سيجعل الوضعية تتغير نحو الأحسن وستأتي حكومة أخرى أقدر على مشاكله. ماذا تقصدون بالحكومة، الأشخاص أم البرنامج السياسي؟ - حتى الآن لم تتكون في الجزائر أحزاب، وهي مجرد جمعيات يطغى عليها رأي الزعيم، ولا توجد حكومة أحزاب، ثم أن رئيس الحكومة الحالية اُنتقُد في الشهور الماضية من كل الأحزاب بما فييها تلك المشاركة في البرلمان وفي الحكومة، بل انتُقد أيضاً من حزبه. إذن لا توجد سياسة حزبية، وإلا ما كان حزب "التجمع الوطني الديموقراطي" انتقد بشدة أداء الحكومة إذ قال الناطق الرسمي بلسانه "أيدنا التقويم الوطني الذي طرحه رئيس الجمهورية، ونحن نرى الآن أن هناك انحرافاً في التقويم الوطني". إذن هناك سياسة رجل واحد، وليست سياسة حزب. ثم إن الحكومة الحالية ليست ائتلافية بين الأحزاب، لأن التحالف يعني وضع استراتيجيات وتصورات كل الأحزاب الموجودة في الحكم. ومنذ تشكيل الحكومة لم يجتمع رئيسها مع الأحزاب المشاركة في الحكم. ناهيك عن أن التحالف يعني تضامن الأحزاب مع بعضها البعض، لكن في الانتخابات المحلية الماضية كان تبادل الهجوم شديداً بين الأحزاب التي هي في حكومة واحدة.