أحدث قرار الرئيس اليمين زروال بالانسحاب هزة كبيرة في اوساط الطبقة السياسية عموماً الا انه كان اكثر وقعاً على "التجمع الوطني الديموقراطي" أو ما يعرف بحزب الرئيس. اذ لم تمر اسابيع قليلة حتى تفجرت التناقضات بين اجنحة الحزب وزعاماته فظهر من بينها اكثر من مرشح وتوزعت القواعد بين مساند لهذا ومساند لذلك. ولم يستغرب المراقبون هذا الاسلوب في تصرف قيادات "التجمع" الذي لا ينسجم مع الاعراف والتقاليد السائدة في الاحزاب، لأن تأسيس هذا الحزب من قبل السلطة وبرعايتها جعله يفتقر منذ البداية للمواصفات التي تميز الاحزاب السياسية وتكتسبها عادة وحدة الهدف وتجانس التركيبة السياسية والايديولوجية وتراكم الخبرات والنضال المشترك. الرابطة بين مكونات "التجمع" هي في الاساس الانتماء الى السلطة، وهو معطى جعله يستقطب الطبقة السياسية التقليدية التي تريد تأمين مصالحها ووجودها في ادارات الحكم والجيل الجديد من التكنوقراطيين والاداريين، ابناء الجهاز الذين يطمحون لتشكيل نواة الطبقة الحاكمة الجديدة. الكل تجمع حول الرئيس زروال، فوحدة الحزب كان محركها الولاء "للرجل"، وبرنامج الحزب ومعاركه الانتخابية خاضها لتجسيم مشروعه وتأمين استمرار قيادييه في المناصب السياسية والادارية رهن استمراره في السلطة. لذلك من الطبيعي ان يتصدع البناء برحيل الرجل وان تنتقل الصراعات بين اطراف السلطة الى ساحة "حزب السلطة" وان يعاد خلط الاوراق من جديد. فكل جناح يطمح لوراثة هذا التنظيم لصالح مرشحه وحلفائه. كسب خصوم زروال الجولة لكن يبدو ان قراره لم يضع حداً للصراعات التي تمزق الطبقة الحاكمة وما الازمة التي يمر بها "حزب السلطة" الا احد المؤشرات عن تواصل هذه المعركة التي لا يزال يلفها الغموض. ويعتقد المراقبون ان الانسحابات والاستقالات المتتالية والصراع المكشوف بين نواب الحزب بمناسبة تجديد لجان البرلمان تؤكد استحالة التعايش بين اجنحة الحزب وتؤذن بأن التطورات اللاحقة ربما تؤدي الى انهياره وتفككه. استقال من عضوية المكتب الوطني منذ قرار زروال ستة قياديين بارزين من بينهم الامين العام "لمنظمة المجاهدين" محمد شريف عباس والامين العام "لمنظمة ابناء المجاهدين" مبارك خلفة وأحد قادة المركزية النقابية بوعلام بوزيد، علماً ان هذه المنظمات الجماهيرية التي تشكل النسيج القاعدي للحزب كانت ولا تزال الحليف التقليدي للسلطة، سواء عندما كانت تدور في فلك "جبهة التحرير" او عندما غيّرت ولاءها لحزب الرئيس. وشملت الاستقالات رئيس الحكومة السابق مقداد سيفي الا ان الاستقالة الحدث هي استقالة محمد بتشين لأنها ستؤثر حتماً على علاقات القوى بين الاجنحة المتصارعة، وقد تعني نهايته السياسية. ويذكر ان المراقبين اعتبروا استقالته سابقاً من منصب مستشار رئيس الجمهورية بداية النهاية لحياته السياسية لكن الاوساط القريبة منه نفت ذلك وفسرت استقالته الرغبة في التفرغ لمواجهة استحقاقات المرحلة المقبلة. صحيح ان الحملة الصحافية التي شنت ضد محمد بتشين قضت على حظوظه في الترشح الا ان موقفه لا يزال محدداً في خيارات الحزب وساد الاعتقاد الى وقت قريب ان الصراع الفعلي سيكون بين ما يسمى بجناح المحافظين بزعامته الذي يضم غالبية اعضاء الهيئات القيادية للحزب ويستقطب التيار الموالي للرئيس زروال، وبين ما يسمى التيار الديموقراطي الذي يتزعمه رئيس الحكومة السابق مقداد سيفي، الذي يحظى حسب بعض المصادر بدعم جهات نافذة في المؤسسة العسكرية. وسيفي من جيل التكنوقراطيين الجدد الذين حاولوا ان يولدوا انطباعاً لدى الرأي العام بأنهم رجال المرحلة ونواة الطبقة الحاكمة الجديدة المؤهلة لقيادة عملية الاصلاح السياسي والاقتصادي. ويعتقد المراقبون ان جناح بتشين يبقى القوي على رغم تعدد الكتل واذا احترم الجميع قواعدة اللعبة فإن مرشحه سيكون الاوفر حظاً ليصبح المرشح الرسمي للحزب. ومن هذه الزاوية تطرح استقالته العديد من الاسئلة عما يطبخ من سيناريوهات في اوساط السلطة حول مصير "التجمع الوطني الديموقراطي" فهل ان استقالته حكمتها الاعتبارات نفسها ووضع علاقات القوى التي حملت زروال على الانسحاب؟ واذا صح هذا الاحتمال فإنه يعني ان العسكريين قرروا تطهير الحزب من انصار الرئيس زروال وانضاج الظروف لصعود قيادة جديدة تقطع مع "الزروالية" وتنتهج سياسات اكثر انسجاماً مع توجهاتهم الايديولوجية والسياسية وتفتح امامهم مجدداً امكان المراهنة على هذا الحزب. هذا الاحتمال وارد ولا يستبعد ان يكون الخيار استقر على سيفي للقيام بهذا الدور. فكل المتغيرات تشتغل لصالحه وتعزز حظوظه في زعامة الحزب والترشح عنه للانتخابات، من ذلك احتراق اوراق منافسه السابق رئيس الحكومة احمد اويحي واستلاء انصاره على اهم لجان البرلمان. والأهم من كل ذلك ان انسحاب بتشين من المعركة سيضعف الى حد كبير جناج الرئيس زروال وقد يدفع قطاعات مهمة من القواعد والقيادات الى مغادرة الحزب او معاودة صوغ تحالفاتها في ضوء هذه المستجدات. ان هذه المتغيرات المحتملة في وضع علاقات القوى قد تنضج الظروف لاحياء مقترح عقد مؤتمر استثنائي الذي سبق ان طرحه سيفي عقب قرار زروال بالتنحي وقوبل بالتحفظ من قبل قيادة الحزب. واذا سارت الاحداث في هذا الاتجاه فإنه سيكون في الواقع مؤتمراً تأسيسيا لأنه لن يؤمن فقط صعود قيادة متجانسة بل سيصوغ توجهات وسياسات جديدة تختلف عن سياسات القيادة الحالية. والواضح ان طبيعة الصراع داخل الحزب الحاكم يعكس في العمق الخلاف المؤمن داخل الطبقة الحاكمة وامتداداته في الشارع السياسي بين ما يطلق عليه بالجناح الحواري الذي يتزعمه الرئيس زروال والجناح الاستئصالي الذي تمثله الجهات النافذة في المؤسسة العسكرية. والواقع ان الخلاف، وكما اثبتت الاحداث، هو خلاف بين مقاربتين متناقضتين جوهرياً على كيفية التعاطي مع الواقع السياسي والثقافي والجهوي بتعقيداته وملابساته الظرفية والتاريخية وايضاً على التوجهات المستقبلية للبلاد. تقوم مقاربة زروال على ثلاثة عناصر اساسية: أولاها التأسيس لنظام ديموقراطي يستند الى المرجعيات الغربية في تنظيم قواعد الحكم وذلك من خلال الدعوة الى النأي بالمقدس من أوحال الممارسة السياسية ومنع توظيف الثوابت الوطنية في النشاط السياسي وترسيخ مفهوم المواطنة وحق الاختلاف. الا ان اصحاب هذه الرؤية يدركون ان هذا مجرد مشروع في خصوصيات الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي في الجزائر، وانه من الحتمي المرور بمرحلة الديموقراطية المسيّرة للوصول الى الديموقراطية الفعلية، وتجسم هذا الخيار المسكوت عنه في الدستور الجديد الذي اعطى صلاحيات شبه مطلقة لرئيس الجمهورية. ثانيها ان تكريس النظام الديموقراطي لا يمر عبر اقصاء الاسلام كمرجعية ثقافية وشطب الحركة الاسلامية لانها جزء من الواقع الثقافي والسياسي في البلاد، وانما يمر عبر حملها على التقيد بمرجعياته وثوابته، وهو ما يعني عملياً مقاومة التيار الراديكالي في الاسلام السياسي لأن مشروعه يتنافى مع الفكرة الديموقراطية والمراهنة في الآن على التيار الاسلامي المعتدل لتأطير الحركة الاسلامية ضمن القنوات الشرعية وحملها على التأقلم مع المنظومة الديموقراطية بدل طرح نفسها بديلاً عنها. ثالثها العمل تدريجياً على ابعاد المؤسسة العسكرية من الساحة السياسية وإقامة حكم مدني يحتكم الى صندوق الاقتراع ويخضع لآليات التناوب على السلطة على ان تكون مهمة الجيش حماية قيم النظام الجمهوري والتوجه العلماني للسلطة. وهكذا نجد انفسنا امام انموذج يقتفي اثر الانموذج التركي الاتاتوركي على الرغم من اختلاف السياق التاريخي. في المقابل يتمسك ما سمي بالجناح "الاستئصالي في السلطة" بخيار الحسم العسكري للأزمة، ورفض باستمرار التفاوض مع "جبهة الانقاذ" او اي مسعى لاعادة اقحامها في المنتظم السياسي القانوني. ويلتقي هذا "الجناح" موضوعياً مع احزاب التيار الديموقراطي العلماني التي تناهض الاصولية بمختلف تياراتها ويدعو الى الغاء الاحزاب الدينية لأن الجميع يلتقي برأيه على مشروع الدولة الاسلامية وان اختلف الخطاب وتنوعت الوسائل، كما يعارض بشدة مقاربة الرئيس زروال في التعاطي مع التيار الاسلامي، ويرى ان خطته لبناء تحالف بين "التيار الوطني" و"التيار الاسلامي المعتدل" والاستناد عليه كقاعدة للحكم لا يمكن ان يؤدي الا لهيمنة التيار الاصولي والعروبي على الفضاء السياسي والثقافي على حساب القطب الديموقراطي العلماني، وهو ما يصب في خانة الاصولية. لذلك فإن الاحداث التي شهدتها البلاد في الشهورة الاخيرة التي ستتوالى فصولها لاحقاً ستبقى محكومة بهاتين المقاربتين، وليس مرجحاً ان يكون الرئيس المقبل بمنأى عن هذه الرؤى والمصالح المتضاربة داخل الطبقة الحاكمة تحديداً والشارع السياسي عموماً. وبناء على ذلك فإن مقاربة الحزب وسياساته في حال هيمنة سيفي ستكون اقرب على الارجح الى توجهات وطروحات التيار الديموقراطي العلماني. واذا تكرست فإن ذلك سيعني تقويض البنية السياسية التي اقامها الرئيس زروال واحداث تغيير جوهري في سياسة الحكم وتحالفاته، اذ لا يستبعد عندها ان يضع "التجمع الوطني الديموقراطي" حداً للتحالف مع "التيار الاسلامي المعتدل" والدفع لانتهاج سياسة اكثر تشددا تجاه الاسلاميين. الا ان تحقيق مثل هذا السيناريو ليس بالامر الهين لأنه سيمزق ما يسمى بالتيار الوطني الذي التف حول زروال ويحمل حساسيات سياسية متباينة واحياناً متناقضة الا انها تشكل في مجموعها قوة قادرة على الفعل في الشارع السياسي خصوصاً في المناسبات الانتخابية. صحيح ان محاولة سيفي قد تنجح لكنها ستحوّل "التجمع" الى حزب ايديولوجي محدود الفاعلية كما هو شأن احزاب "القطب الديموقراطي" لأن الحساسيات العروبية المعادية للفرنكوفونية ولغلاة الدعوة الامازيغية وللتطرف العلماني، وهي غالبية التجمع، ستجد نفسها خارج الحزب. وقد يحاول بعضها العودة الى "جبهة التحرير" التي ستكون المستفيد الاساسي من انهيار هذا الحزب الذي رشح نفسه لوراثتها واقتطاع قواعدها. لهذه الاعتبارات يستبعد عديد من المراقبين ان ترهن المؤسسة العسكرية نفسها في هذا الخيار الضيق الأفق لكن يبقى مع ذلك احدى السيناريوهات المحتملة. السيناريو الثاني هو السعي الى تقديم مرشح باسم الائتلاف الحاكم الذي يضم الى جانب "التجمع"، "حزب جبهة التحرير" بزعامة بوعلام بن حمودة، وحركة "مجتمع السلم" بزعامة الشيخ محفوظ نحناح، ومن الواضح ان هذا الخيار لا يدعم التحالف السياسي الذي يستند عليه الحكم فحسب وانما يوفر حظوظاً كبيرة لفوز المرشح الذي تباركه السلطة نظراً لما تتمتع به هذه الاحزاب من حضور في الساحة السياسية علاوة على انه احتمال وارد لأن هم جبهة التحرير حالياً ليس الوصول الى سدة الرئاسة وانما المشاركة في الحكم. اما الشيخ نحناح فيدرك ان "لونه الايديولوجي" لا يسمح له في مواصفات الواقع السياسي الجزائري وعلاقات القوى القائمة بالفوز بهذا المنصب وقد يدفعه نهجه البرغماتي الى عدم الترشح، فهو يرى ان هدفه المركزي في هذه المرحلة ترسيخ مشروعه في البيئة السياسية والثقافية وتحويل حزبه الى فاعلية اساسية في المشهد السياسي. ولا شك في ان الوجود في الحكم احدى المداخل المهمة لتحقيق هذا الهدف في انتظار الوقت المناسب. السيناريو الثالث هو ان تتخطى اللعبة الحزبية وتدعم شخصية وطنية بارزة تمتلك المواصفات التي تؤهلها لاستقطاب الرأي العام وتجعلها مقبولة لدى الفعاليات السياسية الرئيسية، الا ان هذا الخيار ليس بالامر اليسير لغياب شخصيات "كرازماتية" بإمكانها صنع الحدث وتحقيق الاجماع الوطني. فالسلطة استهلكت الغالبية والاغتيالات السياسية حصدت البقية، وآخرهم محمد بوضياف. علاوة على ان هذا السيناريو، قد يؤدي الى ظهور "خاتمي" جديد في الجزائر على رغم اختلاف السياق وهو ما تخشاه بعض جهات السلطة. السيناريو الرابع هو التزام الحياد تجاه المتنافسين الذين يلتزمون بالدستور وبالقوانين المنظمة للحياة السياسية، والسماح لصناديق الاقتراع بصنع المفاجأة التي آمن الجيش مسبقاً ان لا تكون تكراراً لمفاجأة انتخابات عام 1991. ولا يستبعد بعض المراقبين ان تتجه سياسة الجنرالات مستقبلا هذه الوجهة وان تستجيب في حدود ما لشعار "تمدين الحكم" الذي رفعته الصحف وتطالب به المعارضة، ويرون ان الانموذج التركي اصبح مغرياً لقيادات بارزة في المؤسسة العسكرية. الا ان جل المراقبين يرون ان الاوضاع لم تنضج لدفع الجيش للإقدام على هذه الخطوة وانه سيتحرك في اطار السيناريوهات الاخرى التي تمكنه من الحفاظ على دوره كلاعب رئيسي في الحياة السياسية. * كاتب وصحافي تونسي.