1 زمنُنا الثقافيّ الحديثُ موصول الأثر بالصحافة. لا أحدَ يستطيع النظر الى أحوال الثقافة العربية. في هذا القرن دون إعطاء الاعتبار للصحافة. فهي التي جعلت الأدبَ. كما جعلت الأفكارَ. متدوالةً بين كُل من يقرأ الصحف اليومية. والأسبوعية. فلا الكُتَّاب تجاهلوا هذا الأثر ولا القراء تخلّوْا عن الأدب والفكر في الصحافة. وبين الطرفين كان صاحبُ الصحيفة يقرّر مصيرَ العلاقة. كما يقرر في مصير التداول. وفي كل لحظة يمكنه أن يغيِّر ما يشاء ما دامت الصحيفةُ يوميةً. أو أسبوعيةً. ولها ما تؤثر به على قرائها. تلك هي الصحافة المكتوبة. التي كان لها أثرها الأولُ في الفصل بين الدول العربية. المبادرةِ الى التحديث. والأخرى التي لم تستعْجل في أمر تحديثها. وظهورُ الصحافة يحمل الدلالات المتعددة. بالنسبة لوضعية السلطة الحاكمة. أو بالنسبة للنخبة أو أصحاب الأموال. فالمرحلةُ الأولى. التي تميزت باحْتياج بعض الدول أو المناطق أو الجهات الخارجية الى الصحافة كانت محصورةًَ التأثير. ولا يمكن أن تكون مقياساً لما أشير اليه من الدلالات المتعددة. ولذلك فنحنُ نجد الصحفَ. في هذه المرحلة عبارةً عن منشورات رسمية في أكثر من منطقة عربية. لكن المرحلة الأساسية هي تلك التي أصبح فيها إصدارُ الصحف مرتبطاً بمشروع نشْرِ أفكار. منْ قبَل النُّخبة. إنها مرحلة الممارسة اليومية للكتابة والتحرير. اللغةُ في هذه الحالة كانت مُجْبَرة على اختيار أسلوب يتوخى التواصل. مع القارىء. وهي في الآن ذاته كانت حريصة على نشر الأفكار عبر خطابات مختلفة. ومن بينها الخطابُ الأدبيّ. الذي يلبي رغبة فئةٍ من قاعدة المهتمين بالصحيفة. تلك القاعدة من القراء تقرأ الصحيفة. أولاً. لأجْل الخطاب السياسي. أو الاقتصادي. حسب توجهات الصحيفة. لكن ما هو سياسي يظل أكثر بروزاً مما هو اقتصادي. بحكم نوعية تاريخنا الحديث. الذي لم تشكِّل الصناعةُ فيه ولا الاقتصادُ مركزَ قوة. 2 الخطاب السياسيُّ. خطاب الحدَث. في الصفحات. الأولى. والأدب. ثم الأفكار والفنون. في الصفحة الأخيرة. أو في صفحة داخلية. وتلك هي تراتُبيّةُ الخطابات في الصحيفة. العربية. التي هي الآن. ذاتُ تاريخ. وذاتُ قرار. في الشأن الثقافي. لأن مشروع التحديث انبنى على اخْتيار الأدب. كخطاب ذي خصائص نفسيَّة. لهذا لم تكن هذه التراتبيةُ نمطية تماماً. ولا كانت تعني أن الخطاب الأدبي أو الفكري انْتفى فيه الحدثُ. ان المقصود من الحدث هو الفعل الذي تتجاوز قيمتُه الرمزية مجالهَ المخصوصَ. حيث يصبح بدوره مُهيمناً وموجِّهاً. وعنصرُ الحدَث هو أهمُّ ما جعل من الصحافة العربية. في المركز الثقافي السابق. أي حتى الخمسينيات والستينيات. من صحافة القاهرة. على الخصوص. وحسب الظروف والمراحل. تلعبُ الدورَ الاستثنائيَّ في رج الآراء المتداولة عن الأدب والثقافة. كان من المستحيل أن نتخيل أسماء طه حسين أو توفيق الحكيم أو جبران خليل جبران في حجم التأثير وسرعته. عبر العالم العربي. من دون الصحافة التي أولتهُم المكانةَ. التي سمحتْ لهم بالتوجُّه الى القارىء. أو الحرية في طرح ما يختارون. من تلْقَاء أنفسهم. وهم ينشرون كتاباتهم. إيرادُ أسماء بعيْنها مؤشّرٌ على النوعية الثقافية التي عملت الصحافة على نشْرها وتثْبيتِها. بين القراء. عبر جميع المناطق التي كانت هذه الصحفُ تصل اليها. في تخوُم المغرب. وتخوُم المشرق. هناك. حيث لم يكن من عَامِلٍ مُساعد على وصول الكتابات التحديثية سوى الصحافة. طرق ملتويّةٌ كانت. أحياناً. مستعملةً. لضمان التواصل. في ظل الرقابات الاستعمارية لتلك المرحلة. كما كان الحال بالنسبة للمغرب. الذي كان القراء فيه يلجأون الى البريد البريطاني. غير الخاضع لرقابة السلطة الفرنسية. الطرفان معاً. كانا يدركان أن الصحافة العربية. في المشرق. كانت تحمل الخبر. والتحليل السياسي. الى جانب الخطاب الأدبي والفكري. وهما معاً يتوازيان في البحْث عن طرق جديدة لتسْميةِ الأشياء. وتسميةِ الذات والعالم. لم يكن ثمةَ ارتيابٌ في أن الصحافة. رحِمٌ فيه تنشأ حركةٌ أساسُها هدمُ ما يمنع الخروجَ من زمن الى زمن. ومنْ تسميةٍ الى تسمية. وبهذا المعنى كان الحدَث من انشغال الصحافة. طبعاً. على الدوام كانت الصحافة معبّرة عن حركات وأفكار متضاربة. ليست جميعُها ذاتَ اختيار واحد ووحيد. على مستوى الأفكار أو القيم. السياسيّةِ والثقافيّة. لكن ما كان له التأثير. في النفوس الشابة. وهي عُدَّةُ المستقبل. آنذاك. هو اللغةُ الجَدِيدَة. التي لا تتراجع عن استكشاف التسمية. بالترجمة. والنّحْت. والإحْسَاس. والتّعبير. وهي كلها تفعلُ في صياغة الحدَث. الذي بدونه ما كان الذي كان. في فترة قصيرة. قرابةَ نصف قرن. وها هُوَ العالمُ العربيُّ. في التخوم كما في البؤرة. يقرأ ويحلّل ويناقِش. الكتابةَ الواحدةَ. طه حسين أو توفيق الحكيم أو جبران خليل جبران. 3 كلمة الحدَث هي مفتاح قراءة فِعْل الصحافة في النصف الأول من هذا القرن. في كل يوم. تقريباً. هناك ما يشدُّ الناس الى حاضرهم ومستقبلهم. نفوسٌ متوترة. تفتش عن حريتها. وتواصل الجرأةَ على مواجهة المَوانع. متحمسةً. في بُسْتان. ومقهى. وجداول ماء. أو في بيوت. مقاعد أقسام. هذه النفوسُ التي ربطتْ مصيرَها بالتحديث مولودةٌ على يد الصحافة. في الصحافة كانت أبجديةُ النور تنتشر. متلألئةً. ثم في كِتَاب. تعلن عنه الصحافة. وفيها أيضاً. خصامٌ ونقْدٌ. يغْري بالسهر. بين المقاهي والبيوت. بحثاً عن المستقبل. كلمة الحدَث. إذاً. نشخّصُ الفعلَ القويَّ للصحافة. في تلك الفترة. ولنا الآن نهاية قرن. تسمح لنا أن نتأملَ وضعيةَ الصحافة. ووضعيةَ الأدب والأفكار فيها. يصعب علينا أن نتخيل. الآن. منطقةً عربيةً لا تمتلك صحافةً. بل لائحةً طويلة من الصحف. محلية وأجنبية. وهي تعمل في منافسة. ذات أبعاد سياسية مثلما هي ذات أبعاد اقتصادية. السياسةُ والاقتصادُ قد يتكاملان. في صحيفة. وقد ينتصرُ الاقتصاد على السياسة أو السياسةُ على الاقتصاد. في هذه الصحيفة أو تلك. ولكن ماذا عن الثقافة؟ عن الأدب والفكر؟ لربما كان استخلاصُ الجواب عن هذين السُّؤالين مفيداً. في المناطق ذات التاريخ الصحافي العريق. مثل مصر. لأنها المكانُ الذي يسْمحُ بالملاحظة الأساسية. في ضوء تأمُّل نهاية القرن. ويمكن أن نوسِّع الحقلَ فنقولُ القاهرةَ وبيروت. مع ذلك فإن القاهرة هي الأقوى من حيث الدلالة التاريخية. لأنها جمعت بين الصحافة المصرية والشامية على حد سواء. فيها تجمعت الأسئلةُ الأدبية والفكريةُ مثلما تجمعتِ الأجوبة. ومنها كان توزيعُ ذلك كله. عبر القنوات غير المحصورة. حتى الآن. 4 في نهاية القرن أصبحت الفُرجَةُ تقوم مقام الحدَث. صحافةُ الفُرجَة. بهذا التلخيص. الذي لا آتي فيه باختراع. يمكن وصفُ حالة الصحافة المصرية. في نهاية القرن. الفرجةُ كإخراج مسرحي. رمْزيّ. يتوخى تقديمَ عُروض لا تتوقفُ من أجل تحقيق التَّرفيه العام. يغيب الحدَثُ لتنتصر الفُرجَة. الصفحاتُ أو الملاحق الثقافيّةُ. مكانٌ للفُرجَة. اليومية أحياناً. والمسؤولُ الصحافي عن القسم الثقافي. هو مُخرج الفُرْجَة. أما المؤلفون. فلا صعوبةَ في العثور عليهم. كلُّ ذلك من تدبير المُخْرِج. ولنا أن نضحك أو نبكي. حسب رغبة المخرج. كتاباتٌ لا تهدف الى تحقيق شيء سوى الفُرجَة. ضحكاً أو بكاءً. يمكن القول بأن هذا هو وضعُ الصحافة. الآن. في العالم. لا حدَثَ في الصحافة. بل لا حدَث. بعْدُ. في الثَّقافة. كلَّ ما نقرأه تحت خانة الثقافة والأدب. هو فُرجَةٌ. في فُرْجَة. ألفُ ليّلَية وليلة ثقافيَّة. بتدبير صحافيِّ جيّد الوعْي بما يفعل. في أوروبا وأميركا. صحافةُ الفُرجَة منتصرة. ولا بدّ لنا في العالم العربي أن نحذُوَ حذْو العالم. أن نتهيأ في كل يوم لمتابعة الفُرجَة. ضحكاً أو بكاءً. حسب رغبة السيد المخرج. ومن يملك السلطةَ غيرُ المخرج بتنسيق مع الفئات ذات المصلحة في الفُرجَة؟ إن إعطاء الصحافة المصرية كنموذج. لا شأن له بتخصيص هذه الصحافة دون غيرها بالتأمل. إنها الصحافةُ النموذجُ. في تاريخنا الحديث. أي صحافةٌ ذاتُ صلاحية. في التأمل. لا أقلَّ ولا أكثرَ. فالصحافةُ. في مناطق عربية أخرى. لم تبلُغ درجةَ التأثير ولا أرقامَ السحب التي وصلتْ اليها الصحافةُ المصريّة. ونحن بهذا لا نجدُ غيرها. بمثل اتِّساع قُرائها. في بلد واحد. والأكثر من ذلك هو أن مصرَ تمتلك صُحُفاً متواصلةَ الصدور. منذ بداية القرن حتى الآن. وبعضُها كان المبادر الى الحدَث. الانتقالُ من الحدَث الى الفُرجَة يعني أن هناك ما تبدّل في الصحافة. مصر أو غير مصر متكافئَان. في التّوجيه. ومع الانتقال أيضاً. هناك ما ينعكس على المادة المنشورة. أي على الكُتَّاب والكتابات معاً. فهل معنى ذلك أن الواقع الثقافي. أصبح بدوره مُنافيّاً للحدَث؟ ربما. فالنزعاتُ التحديثية. في الأدب والفكر تعرف بدورها وضْعاً جديداً. لا بُدَّ من اعتباره عند التأمل. لنقُلْ إنها نزْعَةُ السُّرعة في الإِنتاج والاسْتهلاك. لم يعد هناك من يرْغَبُ في الحدَث. ذلك الوقتُ. وذلك الحلمُ. وذلك الطموحُ. كلها انتهت لدى فئة مهمة من القراء. بدليل أن الإقبال على الفُرْجَة هو ما يغْوِي. في المقهى. أو في البيت. ولا شأن للقُرَّاء بالحدَث. 5 الحدَثُ. في الأدب والفكر. لا يصدّر عن قرار مُفاجىء. إنه مشروع تاريخيّ. ونحن في زمن من دون مشْرُوع. الوقتُ المتبقِّي من تعَب البحث عن القُوت اليومي. يتطلب ضحكاً أو بُكاءً. وها هي الصحافة العربيّة. تلبي هذا الطلب. من الفضائحيّة الى التّجْريح والتّحْقِير. أخلاقياتُ الفُرجَة هي أخلاقياتُ الصّحافَة. من غير تلكّؤ. في وقت متأخر من كل مساء. يمكنك أن تستعدّ للَيْلَةٍ أخرى. لفُرجَة أخرى. ولك بعد ذلك أن تنّسَى ما كانت الصحافةُ عليه في منتصف قرن. وفي حياةٍ ومجْتمع. كان بأحْلامِه يضيء الطرق. ويخاطرُ بقراءة الصّحَافة. طه حسين. توفيق الحكيم. جبران خليل جبران. سلامٌ عليْكُم. جميعاً.