1 لم يكن غُونْتِر غْرَاسْ بحاجة الى الحُصول على جائزة نوبل ليعْرف العالمُ الأدبَ الألماني. فقبل قرنين ونصف كان غَوتَه في محادثاتهِ مع إيكِرْمَانْ لاحظَ قُدومَ مثقفين انكليز الى المانيا بقصد التعرُّف على الحركة الأدبية الألمانية. وتلك علامة دالّةٌ على الوضعية التي أصبح الأدب الألماني يكتسبُها. أروبيّاً. وهي التي تأكّدتْ. لاحقاً. عبر بلاد وقارات. وضعيةٌ ليست هي الوحيدة التي يمكننا. العنايةُ بتأمُّلها. هناك بلادٌ حديثة النشوء. وهي مع ذلك اخترفت جُدْران المحليّةِ لتنْدمِجَ. في الخطاب الأدبي الكونيِّ. اعتماداً. على منطق العالم الحديث. عربيّاً. كان نجيب محفوظ يمثّل التّعْريف الأوْسَع بالأدب العربي. الحديث. جائزةُ نُوبِل للآداب مثّلَتِ الضرورة. بالنظر الى العلاقاتِ الصّعْبة. والمعقّدَة. بين العالم العربي والغرب. أساساً. تاريخٌ بكامله يواجهُنا. ونحن نعيدُ قراءة هذه العلاقات. ابتداءً من العصر الوسيط حتى الآن. حروبٌ واقعيّةٌ ورمزية استحوذت على فضاء البحر الأبيض المتوسط وهي التي تركت العالم العربيّ خارج العالم، لا يهمّنا اليوم العودةُ الى التفاصيل. من أجْل إبرازِهَا. برغم الأهمية الاستثنائية لنمَطٍ من العلاَقات هيمنتْ على مناطق جغرافية وحضارية. من بينها البحر الأبيض المتوسط. ذلك شأنٌ رئيس. وله وقْتُه. ما يشغلنا أكثر. هو بداية قرن جديد. مُنشبكاً بفكرة جديدة للعالم وعن العالم. ولا خيارَ لنا في نعْتِها بالعولمة. هذه واقعةٌ تخترق المساحَات الجغرافية. مهْمَا نأتْ عن المراكز العالمية للقرار. وخصوصاً الولاياتالمتحدة الأميريكية. وهي التي تُفْضِي الى صوغ العالم صياغةً شبيهةً بما عاشته أوروبا في عصر الثورة الصناعية. لم تكن واقعةُ هذه الثورة محدودةَ الأثر والتأثير في أروبا وحْدها. كما نعْلَم. بقيةُ البلدان. كما الحضارات، كلها تعرّضتْ لارتجاج. بدّلَ صورةَ الأرض. في عيون الناس وفي حساسيتهم. أيضاً. ثورةٌ صناعية. وها نحن أمام ثوْرةٍ بحجْم الوسائل التقنية العالمية. بإسْمِ العوْلَمَة. 2 يبدو من العسير رسمُ خطوط درجة الوعي بالعالم في أدبنا. وفي التعامل مع هذا الأدب. عنْدَما نُقبل على تأمُّل قرن وأكثر من مشروع التحديث الأدبي. عربيّاً. نجد أنفسنا وجْهاً لوجْهٍ مع التباساتٍ. عَنِيفة. تُفقدنا جهَةَ الرؤية الحديثة. ذلك هو السائد في التعامل مع الأدب العربي الحديث. أَسِمُ هذه الالتباسات بالعُنْفِ. لأنها. تطارد. بشتَّى الأدوات. معْنَى الأدب الحديث. في ثقافتنا ومجتمعاتِنَا. ويبقى المتخيَّلُ مُنْتِجَ ما نحنُ نعيشه. مُتخيّلُنا عن الأدب. أو عنِ الوطَن. أو عن الزّمَن. جميعُها تتكاملُ من أجل أن يستمر الالتباسُ عنيفاً. أقْوَى من الإعلان عن النوايا. في الحقل الأدبي. لا وجودَ لأدبٍ حديث بدون ميلاد مفهوم الوطن والمواطن والمواطنة. فكرةٌ جديدة في الحياة الحضارية لشعوب برمّتها. ونحن ما زِلْنا لم نوضِّحْ في حياتنا الشخصية أو القانونية معْنَى الوطن ولا معنى المواطن والمواطنة. مسقطُ الرأس. قبْلَ كُلِّ شيء. الوطنُ لا يتحقّقُ من خلال إثبات الكلمة في الدّسَاتِير. أوْ مَا يُوجَد على هامشها. مسألةُ الوطن فكرةٌ فلسفيّة. تتخذ من الانتماء الى أرضٍ. وشعْبٍ وتاريخ. أساسُُها في حُقوق وواجبَات. هي الركيزةُ الأُولى لتحديد معنى الوطَن. وبغياب ذلك. تظل كلمةُ الوطن ملْصَقَةٍ على جدران صمَّاء. لا تقدر على الإيفاء بحَقّ أن تكون وطناً. جدران تْمُقُ. لتمنع الفردَ والجماعةَ. من الوجود بطريقةٍ. تختلف عما كانت الإنسانيةُ عليه سابقاً. بهذا تتضح سماتُ المواطن أو المواطنة. وللزمن بدوره أثرٌ يقرِّرُ المصير. علينا أن نبتعدَ عن المظاهر التقنية البرَّانية. التي عادة ما نلجأ اليها في تعريفنا للزمن. كيف لنا أن نعرِفَ الفاصل بين الزمن القديم والزمن الحديث. ونحن لم نطرحِ السؤالَ المعرفيَّ عن معْنَى الزمن. بمنظور مُبَايِنٍ لما كان مُقْنِعاً سابقاً؟ من الصعب. أن نتبيّن مسألةَ الزمن. ونحن ما نزال ننظر الى القديم كما لَوْ كان هو حقيقة وجودنا. فيما هو الحديث. يصبحُ مقبولاً في حدود عدم إحْداث أي ارتبَاكٍ في الرؤية الى الزمن. لغتُنا. لا تسمحُ بعْدُ بإمكانية أن نرى الزمن القديم كما هو في قديمه. إنها تُديم الرؤيةَ القائمةَ على التّمَاهِي. بين زمنين. وهذه اللغةُ هي التي لم يستطع الخطاب الأدبي غَزْوَها. بما فيه الكفاية. قديمٌ أقوى من لُغَتِنا. وهو فيها حاضرٌ. بل بها مستبِدٌّ. يُلْغيها من زمنها. واضعاً إياها في خانة اللازمن. أليس ذلك هو شعارُ الخُلود. المتردِّد. في الخطابات السياسية. أو الخطابات الموازية لها؟ أحسُّ باللغة مجرورةً بحَبْل الماضي. الذي لا يسمح لها بالكَلاَم. في زمن يختلفُ عن المَاضي. في الحياة اليومية. التقنية. حيثُ كلُّ شيء معرّضٌ للتقويض. في حركةِ قدَمٍ. أوْ يدٍ. حركة أن تأخذَ أو تتركَ. في سوق تجاري كبير. القدمُ أو اليدُ عضْوَان تاريخيَّان. معجُونَان بالزمن. الذي يفعل في جسَدِنا. بآلية. مستقلّة عن الإرادة. واللغةُ مجرورَةٌ بحبْل الماضِي. لكي لا تتكلّمَ حركةَ القدِم ولاَ حركةَ اليَد. 3 بذلك لم تتضح لنا أبعادُ الأدب في زمننا. حقيقةُ الأدب مودوعةٌ في جِرَابِ الماضي. مثلما هو الزمن. والإنسان. وتلك الثورة الأساسيّةُ التي للأدب أن يحدثها فينَا. في الوعْي والحساسية. متخزلةٌ الى درجة القواعد اللغوية. التي لم يعد العديدُ من القارئين والكَاتِبين يُحْسِنُونَها. لا تعنيهم. وهم يكتبون أو يتحدّثُون. الأدبُ. هنا. جماليةٌ لغويّةٌ. نقيس درجتها بمقياس القُرب والبعْدِ عن الجمالية القديمة للأدب. أو الوظيفة. أيضاً. وظيفة الأدب. كان الأدب صانعَ الشّعُوبِ في العصر الحديث. كما كانت الفنونُ الأخرى. لكن الأدب يحتفظ بامتيازٍ. بسببِ اشْتغَالهِ. باللُّغة وعلى اللغة. هذا الفرق بين الأدب وغيره واضحٌ في الآداب الحديثة. وأدبُنا لم يتخطَّ الالتباسات. العنيفةَ. وهيَ تمنعُه من أن يوجَد. مستقِلاًّ. وبوظيفةٍ جديدة. أمثلةٌ. في الخطاب المعمم. تربويّاً وإعلاميّاً. تُساعدنا في الرّصد. حتى طالبُ الجامعة. لم يُدرِك بعدُ ما المقصود من هذا الأدب العربي الحديث. لذلك فإن الحركات الدينية الحالية. تتجرّأُ بسهولة على نِسْيَانِ مشروع الأدب العربي الحديث. حجّتُها إيديولوجية. لا تعْتَرِفُ بالزّمَن ولا بالمعرفة. لكنها حركة تلتقي وتستفيدُ من مفهوم قوْمِيٍّ ساذَج للأدب وللزمن. للعالم الحديث. باختصار. وبتأمل هذه الوقائع يشتدُّ القلقُ على ما نحن فيهِ الآن. وعلى ما نحنُ اليه سائرون. من الأفضل عدمُ تجاهُل ما يجْرِي في الوعي العميق. وفي الحساسيات المشتركة. التّباهِي بالمصطلحات لا يقِي من شُرور الجَهْل. أبداً. كان ابنُ قتيبة. في "أدب الكاتب" متيقّناً من أنّ دعْوَى التباهِي بالمصطلحات لا يُنتج ثقافة. هذا القديم. الذي نستشيرُهُ لأجل أن نتأكدَ. قليلاً. فيما المعرفةُ الحديثة تُطالبنا. بما هو أكثر. حتى لاَ نُضِيفَ الى الأوهام وهْماً تنتفي أمجادُه. 4 بداية القرن ترغمنا على البحث عن أفكار جديدة واستراتيجية جديدة. سعْياً الى لقاء بأنفسنا وبالعالم. كلمةُ الانفتاح لا تكفي بدوْرِها. وهي مع ذلك معبّأَةٌ بالدلالة القصوى للضرورة. نعم. انفتاحُنا على العالم. هو إمكانيتُنَا الأخيرة. في التأويلات الإيديولوجية يضيعُ الحوار بقدر ما تضيع المعرفَة. هذا تعَبُنَا اليوميّ. من آراء تأتي من خارج الزمن وهي تُرغِمْنا. بسلطويتها. على الصمت. خشيةَ أن نوصَفَ باللاّقوْميِّين. اللاعَرَب. في مجتمعات تضحَكُ. على أمثال هؤلاء المثقفين. الذين لم يعثُروا. على عملٍ خَارج الإيديولُوجيا. مفضُوحِين نهاراً وليْلاً. بما هُمْ يواصلُونَه من تناقضات في سلوكهم. ومصالحهم. بعضُ صبْرٍ. ينفع أحياناً. وأحياناً. نبتعد. أحكامٌ باللاقومِّي واللاعربيِّ. تُخيف. لاَ لأنَّ الناس يُؤمنون بمثل هذه الأحكام. بل لأن الذين يُصدِرُونَها قادرون على أن يجعلوا أيديَهُم قاتِلَةً يملكون ما يقتُلون به لمجرّد أنهم لا يعرفون. ويفضلون ألاَّ يعرفُوا. خناجرُ. أو سيوف. وفي العلَن يقْتلُون. كل ذلك فقط لأن مسألة الأدب تتطلب فكرةً جديدة. واستراتيجيتنا الثقافية بدورها تتطلب الجرأةَ على الالْتِقَاءِ بالعالَم. يصعبُ وضْعُ افتراضات. في واقع الالتباسات العَنِيفة. وهي مسألةٌ مطروحة على الأدباء أنفسهم. أقصد أولائك الذين تعلّمُوا معْنىً مغايراً للأدب. ومعنًى مغايراً للعالَم. فهؤلاء هم الذين عليهم أن يقرروا. في كتابتهم. وفي سلوكهم. قرن طويل. وقاسٍ عاشه الأدبُ العربيُّ الحديث. وهو اليوم مهدَّدٌ. باللاَّمعْرِفَة أو هو مهدَّدٌ بالعوْلَمَة. بين حدّيْن. شفْرَتَيْن. له أن يتأمّلَ. بجُرأةٍ. فيما نحن فيهِ وما نحن اليه سَائِرُون. 5 لا أتصور أننا بحاجةٍ لقرْنٍ إضافِيٍّ كيْ نتعلّم. أدباؤنا الكبارُ في هذا القرن علّمُونَا. وعلّمنَا العالَمُ من حولنا. كيف أن مشروعَ الأدب في زمننا. فكرةٌ جديدة. لا تتحقق إلا بشرط الانفتاح على العالم. انتساباً الى قِيَمٍ والى آراءَ هي جزءٌ منَّا. وبهذا الانفتاح وحده يُمكننا التخلُّص من أوهامٍ ثقافية متراكمةٍ في المتداول بيننا. أفكّر وأنا أنظر الى جسَدِي. أراه متمزّقاً من شدّة ما لاَ نجرؤُ علَيْه. خوفاً أو عدم معرفة. لربّما. أقولُ. في صباح يتقادَمُ. وهو يُبادلني التأمُّل. في صمت. نتقاسَمُ. الولعَ بفكرةٍ جديدةٍ واستراتيجية جديدةٍ. أساسُها المعرفةُ أوّلاً. لربّمَا. أردّدُ. واجِماً من ضجيجٍ يجرُّ اللغةَ بحبْلِ المَاضِي. وعلى الطريق أشلاءٌ لا نراهَا.