ثمة علاقة حضورية للقارئ في العمود الصحفي تعيش باستمرار في ذهن الكاتب، ولكن حين يكون العمود مقالاً أدبياً تبرز هذه الخصوصية بوضوح وتصبح المقالة مادة تثقيفية، لها مواصفاتها الخاصة بالإضافة إلى عناصر بنائها، ويبرز اللقاء بين الكاتب والقارئ عبر النزوع العاطفي الانفعالي المشحون بالنزعة الذاتية بجانب العناية باللغة نسيجاً ومفردات، ولأن الكاتب يكثِف لغة مقاله بما يجعلها قريبة من القارئ بشكلها المباشر في معظم الأحيان لغير المتخصص في الأدب، وهو يكتب في صحيفة يومية تستدعي فرض مثل هذه اللغة على المقالة الأدبية ليكون مدى استجابتها عالياً جداً، وليس في منبر متخصص أو دورية أكاديمية وهذا يعني أن المقال الأدبي يأتي أحياناً عفوياً ومباشراً، لأن العفوية ترتبط بالعاطفة والذاتية وتجعل المقالة مشبعة بالشفافية بين الكاتب والقارئ. جاءت المحاور التي طرحت من قبل جريدة الرياض على النسق التالي: كيف سيكون مستقبل المقالة في العصر الذي يشهد تحولات عميقة وسريعة في الأنواع الأدبية وأشكالها؟ وهل لغة الصحافة ضرورة لفهم القارئ للمقال الأدبي بدلا من المفردات اللغوية المحضه؟ "غياب الرؤية" يقول الكاتب السوداني عماد البليك: قد يكون رأيي صادماً بعض الشيء، هل حقيقة أن لدينا تراثاً في فن المقال؟ من الصعب أن نجري مقارنة بين ما كتب قبل قرون طويلة واليوم لنقول إن هذا كان امتداداً له، ففي الواقع أن المقالة بشكلها الحالي وفنون أخرى عديدة، كالرواية وفن صياغة الخبر الصحفي والتقارير وقصيدة النثر وغيرها كلها فنون غربية. لكن هذا الرأي لا يعني أن ما نكتبه اليوم لا ينتمي لنا أو يعكس تصوراتنا، بل على العكس هو في صميم حياتنا واستجابتنا للواقع ومحاولة فهمه وتثويره نحو الأفضل. وهذا يحدث مع كافة منتجات الحضارة الإنسانية التي يصبح التماشي معها فعلا إنسانيا، كما في المخترعات الآلية مثلا. أيضا في الفنون والأفكار. غير أن الاختلاف سوف يأتي من طبيعة استيعابنا لجذور هذا الفن وتطوره، أو الطريقة والسياق الذي يعمل به وعليه، داخل المجتمع المعين، إذ ينعكس ذلك على كيفية توظيف الشيء أو الاشتغال عليه، وبهذا فإن المقال العربية موجودة ك «فن» يصوّر ويهجس بالواقع وبالمشكلات وقضايا الآن والأنا، لكنها تفتقد للبناء السليم والصحيح وبالتالي غياب الرؤية والهدف والأثر، لأن التأسيس لهذا الفن ليس له قواعد ذهنية راسخة في الذهن الجمعي الثقافي والإعلامي. وهذه الأزمة موجودة مع الفنون الأخرى الحديثة كذلك. وأوضح البليك أن التفكير في المستقبل ومع وسائل التواصل الاجتماعي والتحديث الكبير في البنائية الذهنية والأنساق الحياتية سوف يقودنا إلى نشوء مدراس جديدة لفن المقال، ليست بالضرورة هي نقل حرفي للمنتج الغربي أو التراث العربي أيضا – أعني التراث الأقرب زمناً – كمقالات طه حسين والمازني والعقاد إلى أناس مثل جلال أمين وغيرهم. وهذه المدرسة المقبلة ذات طابع عالمي بدرجة أوضح نتيجة لأن الأجيال الجديدة أكثر كونية وتقاطعاً مع المعطيات الكوكبية، أكثر من الالتصاق بالجذور في معناها الكلاسيكي. أيضا فإن القوالب ربما سوف تصبح أكثر نضوجاً، ولكن من ناحية تجريبية إلى أن تستقر، ولن يحصل أن يكون ثمة تقديس شامل لأي قالب أو منهج معين في الكتابة، لأن هذا طبيعية الفترة التي نعيشها حيث كل شيء يخضع للنظر المعاد، وعدم الاعتراف بالأشكال النهائية للفنون والأدب والثقافة عموما. أما الوسيط اللغوي، بالتحديد اللغة العربية، فهو أسير مسألة تاريخية أكثر من اللحظة الراهنة، أي أن استخدام اللغة يعكس تشكلات العقل الجمعي وبناءه الرأسي الذي للأسف لم يسلك ارتفاعات مقدرة بقدر ما تمدد أفقياً عبر القرون، ومعلوم أن اللغة هي وعاء للحضارة ودلالة على التخييل والانفتاح والتطور، والعربية لا تعاني إنما يعاني إنسانها في القدرة على الابداع، وأصبحت – هي - لغة هجينا في المفردات، وحتى التوليد الصرفي في اللغة بات يقوم على استحضار قوالب للغات أخرى، ما يدفع إلى وقفة لابد منها مع قضية اللغة في إطار كتابة المقال أو الكتابة عامة. نحن نعيش باختصار عصر مزاوجة وتقليد لم نتخلص منه، والصحافة على سبيل المثال تتطلب من ناحية لغوية أن تكون بسيطة لكن هذا لا يعني التخلص عن دور اللغة البنّاء والداعم لصناعة الخيال وحفز العقل، فاللغة ستظل أينما استخدمت أكبر من مجرد كونها وسيطاً ناقلاً للمعنى، بل هي الاستنارة التي تخلق من خلال هذا النقل، كذا التفاعل بين الكاتب والقارئ والنص، والكاتب نفسه وهو يمارس عملية الكتابة مرات كثيرة لا يدرك أين موقعه من اللغة هل هو صانعها؟ أم هي التي تصنعه؟ ما يضعه في حيرة أمام القارئ والعكس صحيح. ما يضعف المعاني ويجعل ثمة مشكلة في التوصيل، وهذا حاصل اليوم للأسف. "أوجه الفكرة" وأشار الروائي المصري محمد الفخراني أن مستقبل المقالة الأدبية من الأشياء التي تشغل الكاتب بشدة، هل نتوقع أن تسابق المقالة الأدبية سيل المعلومات، التي توفرها وسائل التواصل الاجتماعي، نتوقع أن تكون أقصر، وبجمل محدودة، ربما شيئًا آخر، وهل يكون أياً من هذا مفيدًا لها، لا شيء مؤكد؟ برأيي أن المقال الأدبي يستمد حياته واستمراريته، وحتى تطوره، من تلك الفكرة الكلاسيكية التي يعتمد، وهي أن يطرح فكرة متعددة الأوجه، تُقدِّم أكثر من رؤية، وتنفتح على احتمالات أخرى يطرحها القارئ، مقالة تعتمد على الفكرة، والرؤية الأدبية، الإنسانية، وليس المعلومة، حتى إنها تُحوِّلُ المعلومة داخل سياقها إلى فكرة. وأكد الفخراني أن أقوى المقالات وأنجحها هي تلك التي تلمس شيئًا من روح العالم، والحالة الإنسانية، وهي وحدها قادرة على أن تعيش، صالحة للقراءة في أيّ مكان وزمان، كونها فكرة حرة. لا يمكنني التعامل مع المقال الأدبي إلا كنوع من الإبداع، ورأيي أنه أيضًا يحتاج إلى الانتقال إلى مناطق وأفكار جديدة في الكتابة. واللغة المباشرة التي قد يستخدمها الكاتب في مقالة أدبية، فإنها تحمل أسلوبه، بعض روحه، ورؤيته للفكرة التي يقدمها، وبرأيي لابد من استخدم الخلفية الثقافية، والمهارات الأدبية في تحويل الوظيفة التداولية للغة إلى حالة لغوية أرقى. وأضاف الفخراني بأن الكاتب يهتم بأن يقدم كتابة تُرضيه، دون الانشغال بفكرة الاقتراب من القارئ، أفترض في الوقت نفسه أن القارئ لديه الوعي. وأنا مع أن يُجرِّب أي أحد نفسه في كتابة مقالته، تلك طريقة مباشرة ليُعبِّر بها شخص ما عن فكرته، رؤيته، أو حتى تجربته الشخصية بشكل بسيط، وهي أيضًا إحدى الطرق التي يمكن للمقالة الأدبية أن تُجدِّد نفسها من خلالها، الكتابة بشكل عام رحبة، هى من الذكاء بألا تقول إن أحدًا يتطفل عليها، أي كاتب مسؤول عن كتابته وفقط، ليس من حقه أن يجعل من نفسه حارسًا على الكتابة، دع أي شخص يُجرِّب، ويحاول، لم لا؟! "التحول التقني" وعبرت الكاتبة الإماراتية فاطمة المزروعي بقولها: في ظل ما نعيشه من تسارع مهول نحو التقنيات الحديثة، خاصة في مجال الاتصالات وما رافقها من تطورات كبيرة في حجم شبكة الانترنت واتساع نطاق خدماتها وشموليتها التي نعيش اليوم حقبة مواقع التواصل الاجتماعي، والتي احسب أنها لن تدوم طويلا حيث ستزاح أمام أدوات ووسائل جديدة مثل التطبيقات ومع تزايد الزخم في الصور والصور المتحركة لتكون لها الكلمة العليا، وبوادر مثل هذا التحول ماثلة، السؤال البديهي هو حالة الأدب بمختلف أجناسه في ظل هذه التحولات الجسيمة والكبيرة، وهو سؤال حتمي ولا فكاك منه، المقالة جزء ضئيل من المكونات العديدة التي ستعاني والتي ستبتلعها كل هذه الثورة الهائلة التي تجتاح العالم، بمعنى أن أي تغييرات ستطرأ على أنواع وأجناس الأدب ليس بسبب التطوير ولا التحديث ولا بسبب ابتكار طرق كتابية جديدة وإنما بسبب هذه الثورة المعلوماتية، أعود للمقالة أتوقع أن تنحصر وأقصد في عدد كلماتها، فلا مستقبل للمقالة المطولة المسهبة، ستتضاءل المساحة وتكون أكثر مباشرة تحمل الرأي والقضية وعلاجها ولكن باختصار ومباشرة، ولعل هذا التوجه بدأ يظهر على السطح، وأتوقع له التوسع، لأنه يتناسب مع التطورات من حيث السرعة في نقل المعلومات ومن حيث تلقي القراء لها. وأوضحت المزروعي أنني أميل للاستفادة من المخزون الثقافية والمعرفي للكاتب، فبدون الاستناد على حصيلة معرفية واسعة، وذهن متطلع على حاجات المجتمع أو همومه أو صدى اهتمامات الناس فإن ما يقدمه للساحة لن يكون له الأثر المتوقع، نحن في زمن شديد التنافس بسبب سهولة تنقل المعلومات، لذا ليس من المستغرب أن ترى صعود أسماء جديدة كليا على الساحة أمام أسماء قديمة معروفة ومنذ سنوات، لأن القاعدة هنا أن من يرفض التطور والتقدم لا مستقبل له أو لن يحصد ما يتطلع له من النجاح او على الأقل لن يجد لآرائه ووجهات نظره أي صدى فعلي على أرض الواقع. لأن الكاتب سيعاني من التشتت، وبمجرد أن يعرف عنه مثل هذا الضياع الفكري فإن سيفقد في كلتا الحالتين المصداقية والتي هي أساس وقاعدة مثل هذه الوظيفة. " منابر للمعلومات" وتناول الكاتب السوداني محمد السيد حمد الموضوع قائلا: في عالم ما بعد الحداثة، شهد الأدب بأجناسه المتنوعة تغيرات جذرية كادت أن تمس جوهر الأدب بشكله التقليدي المتعارف عليه. لعل اهم تلك التغيرات هي ذلك الانفجار المعلوماتي الهائل الذي خلخل البنية المعرفية والثقافية للمتلقي العادي والمثقف على حد سواء. مارد المعلوماتية خرج من قمقمه ولن يعود اليه مجددا، ومع خروجه الظافر أضحت المعرفة على مرمى حجر من طالبها وعلى بعد نقرة زر في لوحة المفاتيح. هذه الوفرة المعرفية أتاحت للمثقف مائدة عامرة بكل أصناف الغذاء الروحي والفكري من شتى أنحاء العالم، ومن ثم يتناول المثقف ما يوافق مزاجه الثقافي الخاص دون وصاية مجحفة من الرقيب. وعلى صعيد آخر، أسست المعلوماتية منابر متنوعة لإنسان الهامش، ولا أقول الهامش بمفهومه السياسي فقط وانما أعنى إنسان الهامش الثقافي أيضاً. في الماضي، كانت المنابر الإعلامية بأشكالها المختلفة محصورة لأهل الحظوة ومثقفي البلاط وأصحاب الرأسمال المادي والرمزي بلا اكتراث لموهبة او مسؤولية اخلاقية، حيث كانت تلك المنابر مجرد أبواق بعض النظر عن الرسالة السامية للثقافة. أما الآن، هذه المنابر الحداثية المستحدثة جعلت المهمشين في بؤرة الاعلام البديل، وبقعة الضوء الرسمية التي كانت محرمة عليهم، أصبحت تتوجه نحوهم ولو بقدر يسير وخجول. كل هذا ألقى بظلاله على الأدب، بل وساهم في نشأة أجناس أدبية مستحدثة مثل المدونات بأنماطها المتعددة: أدبية، سياسية، اجتماعية. وفي الأجناس التقليدية مثل الشعر والقصة والرواية، ظهرت تيارات جديدة تحاول المزاوجة ما بين اليومي العادي والأدبي الرصين. وأشار حمد إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي وروادها في تطوير بنية المقالة الأدبية وتنويع ثيماتها لتتواءم وتطلعات الاطياف المتنوعة لجمهور السوشال ميديا العريض. وتمتاز بإمكانية التفاعل الفوري بين القارئ والكاتب حول ثيمات المقال مما يفتح آفاقاً جديدة لانبثاق نص موازٍ للنص الأصلي يبحر نحو مجاهل ربما لم يفطن اليها الكاتب حين كتابته للمقال. كما أن السوشال ميديا توفر إمكانية تدعيم المقال بمقاطع فنية صوتية ومصورة تساهم في إيصال فكرة المقال بشكل أيسر للمتلقى ، وتعطي المتلقّى الحق في ابداء رؤيته حول ثيمات المقال بعد الاطلاع والتمعن في المقاطع المرفقة . لذلك أرى أن المعلوماتية ستكون موتاً زؤاما لفكرة البنيوية وموت الكاتب على صعيد العلاقة بين الكاتب والقارئ بعد إنجاز النص. "الأجندة الثقافية" وأوضح الكاتب الإماراتي حارب الظاهري أن وسائل التواصل الاجتماعي لا تؤثر على كتابة المقال رغم التحولات السريعة، فالمقال له أسلوبه وطريقته في التحليل ويتميز بخاصية بعيدة عن الطرح في الوسائل الأخرى التي تخرج أحيانا عن المقاييس سوى كانت فكرية أو ثقافية أو حتى أدبية. ولا ننسى مصدر هذه الكتابات وخلفيتها المنهجية فهل ينجر لها القارئ رغم ضبابية مصدرها؟ المقال هنا يتخذ لنفسه الحيز اللازم لترجمة أجندة ثقافية. لذا لا يسطر كاتب المقال فكرا عشوائيا ولغة دارجة مثلما يحدث في وسائل التواصل الاجتماعي. ما يعني بأن الميادين الصحافية لها تحولات سريعة تواجها إلا أنها تظل المحور الأهم والمصدر المهم. البليك: فن المقال مستورد الفخراني: حراسة الكتابة تطفل المزروعي: المباشرة يفرضها العصر حمد: "التواصل" تهدد الكتابة الظاهري: مصدر موثوق للمعلومة Your browser does not support the video tag.