لبنان كان أول الكيانات العربية التي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الأولى تشكلا وبروزاً بصورة نظامه الحالي وحدوده الجغرافية الحالية، وذلك قبل سورية والعراق، بل قبل ان تحسم الأمور حتى في وادي النيل حيث وجود الدولة هو الأسبق في المنطقة العربية. لكن لبنان في المقابل هو آخر الكيانات العربية الذي ارتضته النخبة السياسية والمثقفة من أبنائه بوضوح وتصميم على أنه الوطن النهائي لها، وأقرت بتقدم نظامه الديموقراطي البرلماني. فاللبنانيون جاءتهم هذه النعمة بفضل رواد منهم، وجلّهم لم يكن مدركاً لأهميتها. في معظم البلاد العربية تجد القومي والوطني والاسلامي واليساري لا يرى تناقضاً بين وطنيته وقوميته وانتمائه الى بلده، فهو عروبي ناصري بعثي ماركسي... الخ، لكنه كويتي، سوري، عراقي، يمني، سعودي، بحريني وبالأحرى مصري. اللبناني كان يحس ان انتماءه اللبناني يشكل نقضاً لانتمائه العروبي أو الاسلامي. معظم الأحزاب العربية عندما لحقتها أدواء الانقسامات انقسمت بحد ما الى حالات قطرية: جناح عراقي، جناح سوري، فلسطيني، يمني... الخ. في لبنان كان الانقسام ملحوقاً بهوية قطر آخر. في بعض الأوقات كان هناك أكثر من 72 شخصاً يحمل لقب أمين عام وذلك في دائرة الفاكهاني - المزرعة - البسطا من بيروت الغربية وحدها، عدا امثالهم في الضاحية الجنوبية وفي طرابلس والبقاع. أقول ذلك ممهداً لملاحظة أشد اتصالاً بالموضوع. ان الحرب الأهلية في لبنان بمظهرها الأولي برزت كانقسام بين يمين مسيحي ويسار اسلامي، أو بين تيار عروبي غالبيته مسلمة وتيار لبناني قيل انه انعزالي غالبيته مارونية مسيحية. ولكن تحت هذا المظهر وفي مجريات الواقع لم يكن هذا الانقسام أكثر من ستار وربما ستار رقيق لجملة من الصراعات العربية - العربية التي كانت كلما هدأ الخلاف المسيحي - المسلم تعود تؤجج ناره. ان العدو الاسرائيلي في الحرب الأهلية كان من السهل محاصرته لولا هذه الصراعات العربية المعقدة التي كان الدور الاسرائيلي ينفذ من بينها ويكتفي احياناً بتوظيفها من دون أن يحرك ساكناً. ولكن في المقابل لا بد من القول: ان لبنان كما اثبتت الأيام، لم يكن كياناً هشاً، وعندما تكشفت الأمور ثبت ان الانتماء اللبناني عند المسلمين قبل المسيحيين أقوى وأصلب مما كان يعتقد كثيرون. وان لبنان على كونه مختبراً ومرآة صادقة للوضع العربي بدأت به معظم التجارب السياسية العربية وارتدت اليه الكثير من نتائجها، الا انه قبل كل ذلك بلد مكتمل عناصر الكينونة من حيث وجود شعب لبناني يطمح للعيش المشترك في ظل سيادة لبنانية من دون ان يكون ذلك مساً لانتمائه العربي أو الاسلامي. لكن مثل هذه الأمور التي هي بديهيات بالنسبة الى الشعوب العربية الأخرى هي بالنسبة الى اللبناني محصلة دروس مريرة وتجارب قاسية. وإذا أردنا الوصول الى الطائف من خلال المعاناة نفسها يمكننا ان نلاحظ التالي: - ان الجيل اللبناني الذي مهد للحرب الأهلية ووقع في غمارها هو جزء من الجيل العربي الذي سقطت على يده أحلام الوحدة العربية حلما بعد حلم، وهو الجيل العربي نفسه الذي أضاع ما تبقى من فلسطين وجلب الاحتلال لأراض عربية جديدة خارجها. وللمقارنة، ان هذا الجيل نفسه قامر لبنانياً بكل منجزات لبنان الانسانية والسياسية والفكرية واستسهل التضحية بها على حساب معركة العرب الكبرى في فلسطين، في حين ان مثيله في البلاد العربية وبعضه يشاركه الانتماء الحزبي والايديولوجي الواحد انغمس في بناء دولته القطرية في ظل نظرية تقول ان في ذلك تعزيزاً للصمود في وجه العدوان الاسرائيلي ومقدمة لبناء دولة واحدة. في حين كانت النظرة السائدة في لبنان فرط الدولة في سبيل الشيء نفسه. والغريب انه حتى الشيوعي في لبنان الذي أمِن على نفسه في ظل الكيان اللبناني، تحول الى قومي يشارك الآخرين في طروحاتهم، بينما الشيوعي خارج لبنان يناضل للانخراط في جبهات مع الأحزاب الحاكمة وقد كلفه بعض حالات هذا الانخراط الشيء الكثير. - الحركة التي أفرزتها نكبة 1948 في فلسطين على صعيد الدول العربية كانت حركة تغيير للأنظمة، حصل ذلك في سورية ومصر والعراق. اما النظام العربي الذي هزم في 1967 وهو النظام الذي جاء رداً على نكبة 1948، فإن هزيمة حزيران لم تطرح تغييره، على العكس من ذلك أمدته بنوع من القوة والتأييد، وهو ما زال مستمراً حتى الآن بعد قيام قيادات جديدة من داخله كرست النظام ولم تغيره بل عدلت في وجهة علاقاته الداخلية والخارجية وفي ترتيب أولوياته، وجعلت من الصراع العربي - الاسرائيلي جزءاً من آلية ضخمة في بناء الدولة القطرية وتعزيزها، وهي ان لم تتخل عن الخطاب الوحدوي فقد كرست الواقع القطري بإرادتها أو من دون ارادتها. مع ذلك فإن التيار الذي حمل لواء التغيير بعد هزيمة 1967 والذي تلون بلون قومي تارة وماركسي تارة أخرى وجد مناخاً مناسباً لحركته ونشاطه في لبنان والأردن. الساحة الأردنية اقفلت بوجه هذا التيار ولم يتم ذلك من دون دعم دولي وحتى عربي من بعض حلفاء تيار التغيير الذين سيواصلون دعمه في الساحة اللبنانية. - تعددت الفرص التي كانت تسمح، قبل الطائف، بوقت طويل، باغلاق ملف الصراع الداخلي في لبنان، لكن الصراع الاقليمي في وجهه العربي - العربي، على وجه الخصوص، وليس فقط العربي - الاسرائيلي، كان يجهض هذه الفرص واحدة بعد الأخرى، منذ الوثيقة الدستورية في آذار مارس 1976 مروراً بمفاوضات جنيف 1983 ولوزان 1984، الى اتفاق مورفي - الأسد عام 1988. ولا مجال الآن لرسم خريطة الصراعات العربية - العربية التي اجهضت هذه الحلول في كل محطة من محطاتها. ولذلك جاء اتفاق الطائف تعبيراً عن حال عربية جديدة تتلخص بالآتي: عودة مصر الى الصف العربي. انتهاء الحرب العراقية - الايرانية مع ذلك كان اتفاق الطائف مرشحاً لأن يبقى حبراً على ورق لولا ما سبق اخراج العماد ميشال عون من قصر بعبدا، وتمثل ذلك من اصطفاف عربي رسمي بخصوص الموقف من الأزمة التي فجرتها عملية غزو الكويت في آب اغسطس 1990. وتعزز تثبيت الاتفاق عربياً بعد الاتفاق على المشاركة في مؤتمر مدريد والانخراط في العملية السلمية. ان اسرائيل في أوج حضورها في لبنان ابان الغزو 1982 - 1985 لم تكن قادرة على افشال الحل العربي لو توافرت عناصره، فحتى الرؤساء الذين يرى البعض انهم جاؤوا في ظل دباباتها كانوا يبحثون عن مخرج عربي للأزمة اللبنانية. وكلنا يعرف ان الصراع العربي - العربي وليس موقف بعض الفئات اللبنانية فقط كان يعطي الأولوية احياناً لاخراج السوري من لبنان تارة واخراج الفلسطيني تارة أخرى. وان تداخل هذه الأولوية وتلك، ظل حاضراً بصورة أو بأخرى حتى والشعب اللبناني يخوض غمار مقاومة مسلحة لاخراج المحتل الاسرائيلي من لبنان. اما عن الجانب المحلي لاتفاق الطائف فإن فيه سلبية كبيرة تتمثل بأنه تعامل مع الواقع اللبناني كأنه تصفية حسابات بين الأطراف اللبنانية، ولم يحرص جيداً ان يكون تجديداً لمظلة التعايش. لنأخذ مثلا: صيغة 1943 اعترفت بطائفية المناصب، فقالت الرئيس ماروني ورئيس البرلمان شيعي ورئيس الحكومة سني ونائبه ارثوذكسي، وللدرزي والكاثوليكي وزارات مهمة وكذلك الأرمني، ولكن أعطت لكل منصب صلاحيات كاملة غير منقوصة، وجعلت الصوت داخل مجلس الوزراء توافقياً ما بين هذه المكونات السبعة. لكن اتفاق الطائف تحدث عن طائفية الصلاحيات فانقص هنا وأضاف هناك من خلال منظار طائفة من يتولى المنصب. وبصورة عامة التعامل مع الطائفية في العام 1943 كان ينطلق من عقلية أوروبية ترى ان المكونات اللبنانية في حاجة لمرحلة انتقالية حتى تمارس بصورة كاملة النظام الديموقراطي الذي تعرفه الدول الأوروبية فجعلت بعض الاستثناءات التي تسري في مرحلة الانتقال هذه. فالاستثناء الطائفي نوع من التأهيل والتدريب الذي تحول مع مرور الوقت الى نوع من حسابات الحصص القبلية والعشائرية، وهذا ما تكرس في الطائف وجعله أقرب ما يكون الى حال من تصفية الحسابات والتغني بمكاسب لا تقدم ولا تؤخر في حياة الشعب. فالرئيس لأنه ماروني انتزعت منه صلاحية حتى من نوع رد مرسوم قانون او حل المجلس النيابي أو تسمية رئيس مجلس الوزراء. وأدى الأمر الى توليد حكم فيه ثلاثة بل خمسة رؤوس، وهذا أمر يمس صلاحية المنصب أياً تكن طائفته، ويجعل الدستور اللبناني كله تركيبة موقتة هو الذي اتسم بالثبات والاستمرار. أياً يكن الأمر فهذا لا يلغي الايجابية الكبيرة التي حملتها مرحلة ما بعد الطائف: ولا أعني فقط تحقق الأمن وانتهاء عهد الميليشيات، ولا أعني ايضاً فقط اجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها ولا اجراء الانتخابات البلدية ولا محاصرة الموقف الاسرائيلي وفرض القبول بالقرار 425 ولا ما انجز من انشاءات في البنى التحتية، انما الانجاز الأساسي لاتفاق الطائف ان اللبناني بنخبه ومكوناته يمتلك نظرة أقرب الى مجمل التحديات التي يواجهها، وفيه الاسلامي الذي كان متشدداً يمارس عملية انتخاب رئيس غير مسلم. والماروني المتشدد أو الذي كان متشدداً يقترب من مقاومة الاحتلال الاسرائيلي على رغم انها مقاومة اسلامية. واللبناني اليوم أكثر وعياً بأهمية لبنان كياناً ونظاماً ليس للبنانيين وحدهم بل للأمة العربية. واللبناني اليوم أكثر وعياً بحدود مسؤوليته تجاه الخارج العربي والأولويات في العلاقات بين الداخل والخارج. لا تكتمل الصورة إلا إذا تحدثت عن نقطة تبدو للبعض بصورة مغلوطة وهي طبيعة العلاقات اللبنانية - السورية. الاحظ ان سورية منذ العام 1970 تحولت في سياساتها العربية الى خط واقعي انعكس في لبنان انفتاحاً على مجمل مكونات الشعب اللبناني. وتولد مع الأيام شعور حقيقي لدى القيادة السورية بأن أمن سورية من أمن لبنان، وهذه معادلة لها طرفان إذا اختل احدهما سيؤدي الى اختلال الآخر، وهي لا تقوم وتتأكد الا بالتكافؤ في العلاقة التي لا يجوز ان تبدو بمثابة تبعية والحاق. في ظل ذلك كله تبدو الظروف مهيأة لقيام واقع سياسي لبناني يتخطى البنى السابقة ويكون واقعاً لا طائفياً ويضم نخباً لبنانية حقيقية عركتها التجارب وعرفت توازن الابعاد في كل قضية، ولم تعد تخدعها الشعارات ولم تعد تغريها الأضواء المرفقة بالالتزامات تجاه هذا الطرف العربي أو ذاك. ولا ننسى المناصب، وميزانيات الأحزاب والشركات والصحف والوكالات التجارية، وكلها أسلحة استخدمت لاضعاف لبنان الدولة لمصلحة لبنان الطوائف والتكتلات المتشابهة. قديماً قال سفير عثماني لأحد السياسيين الأوروبيين كم هي قوية الدولة العثمانية التي عملنا بها هدما من الداخل وعملتم بها هدما من الخارج ولمئة عام أو أكثر وما زالت صامدة. وها هو لبنان صامد ويستعد لاستئناف دوره الحضاري التنويري، فإذا كانت مصر هبة النيل فإن لبنان هبة التنوير والتمازج بين الشرق والغرب. ولكن، يجب الاعتراف ان الدور السوري اليوم، على رغم الاصرار على ضرورة تحسين أدائه وتبديل قنواته التنفيذية التي تمرست خلال ظروف الصراع المسلح، هو دور مطلوب من كل اللبنانيين، وأن الأولويات اليوم تترتب وفق الآتي: 1- إعادة الاعتبار لدور رئيس الجمهورية كرمز للبلد وتأكيد لوحدته على أنه فوق الرئاسات الأخرى. وجعله مع وزير الخارجية قناة الاتصال الدولي مع الخارج والفاعل الأبرز في مجلس التعاون السوري - اللبناني. 2- أولوية القضاء على الفساد المالي والاداري. 3- تجديد النخبة السياسية بافساح المجال لعناصر شابة ومتفتحة ان تصل الى مراكز القرار، سواء في التعيين في وظائف السيادة والقيادة أم في الترشيح للمراكز المنتخبة. 4- تعزيز وسائل الرقابة الشعبية خارج الاطر التي أصبحت جزءاً من حال الفساد نفسها. 5- التفاعل مع دوائر الاغتراب وتعزيز الصلة، خصوصاً مع الذين غادروا البلد في ظروف الحرب الأهلية وسنوات الصراع. 6- الخروج من الشرنقة البيروتية الصغرى والكبرى وإعادة الاعتبار لمدن الساحل خصوصاً طرابلس، جبيل، البترون، صيدا وصور، ومدن الداخل زحلة، بعلبك... الخ، في عملية الاسكان ومجالات العمل ومؤسسات التعليم ووسائل النقل. وهنا تحضر الدعوة الى تأسيس مطارات فرعية في محيط بعض هذه المدن وانشاء خطوط سكك حديد توصل الساحل اللبناني بالداخل العربي. * كاتب لبناني مقيم في لندن. والنص سبق أن ألقي كمساهمة في ندوة نظمها النادي العربي في بريطانيا تحت عنوان "اتفاق الطائف ما له وما عليه".