نشرت جريدة "الحياة" في صفحة "أفكار" 7 أيلول/ سبتمبر 1998 مقالاً للأستاذ العفيف الأخضر، الكاتب التونسي، بعنوان: "موقف مثقف عربي: نظام رئاسي لمنع حروب محتملة أو موعودة في لبنان". والمقال عبارة عن آراء تتعلق بالوضع السياسي في لبنان مقرونة باستطرادات تتناول ملف التسوية العربية - الاسرائيلية، ولنا إزاء بعض ما ورد فيه الملاحظات الآتية: 1- إن تقرير ما إذا كان اتفاق الطائف قد "كرس استبعاد المسيحيين من الحكم" في لبنان - كما يقول - لا يتخذ هكذا على عجالة، فالأمر يحتاج الى دراسة متأنية على المستويين النظري والعملي الميداني لتقرير أمر مصيري بمثل هذه الحساسية، ونحن ندعوه أن يأخذ في اعتباره النقاط التالية: إذا كانت صلاحيات رئيس الجمهورية قد تقلصت نسبياً - مقارنة بما كانت عليه قبل اتفاق الطائف - لصالح مؤسسة مجلس الوزراء التي يفترض بها أن تعكس التوازن السياسي الذي ما زال يقاس طائفياً على الساحة اللبنانية، فهذا لا يعني مطلقاً - فيما لو توخينا الدقة في اختيار العبارات - ان المسيحيين "استبعدوا" من الحكم في لبنان. وللتذكير فقط نقول ان رئيس الجمهورية يصدر منفرداً مرسوم تكليف رئيس مجلس الوزراء بتشكيل الحكومة، وان كان ذلك يتم استناداً الى استشارات نيابية ملزمة، ولكن في المقابل فإن مرسوم تشكيل الحكومة يصدر عن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة مجتمعين. وهذا مجرد مثال على أن منصب رئيس الجمهورية ليس منصباً فخرياً بحيث يرئس ولا يحكم كما حاول تصويره الكاتب، ولكنه منصب ذو صلاحيات محددة يكفلها الدستور. لماذا لم يشر الكاتب الى المؤسسة العسكرية في لبنان؟ فقائدها ما زال مسيحياً مارونياً، ولم يمس اتفاق الطائف صلاحياته. والشيء نفسه ينطبق على مناصب رئيسية كثيرة في الادارة اللبنانية، منها منصب حاكم مصرف لبنان البنك المركزي. ان المتتبع للوقائع التي حدثت بعد اتفاق الطائف، وخصوصاً للانتخابات النيابية التي جرت عامي 1993 و1996 يرى أن بعض التيارات المسيحية وليس كلها، استبعدت نفسها من المعادلة السياسية، ولم يجبرها أحد على الانكفاء وعدم المشاركة في الدورتين الانتخابيتين المذكورتين. هذه التيارات نفسها عادت وشاركت في الانتخابات البلدية الأخيرة 1998، فعكست نتائجها الى حد مقبول واقع التوازن السياسي القائم في لبنان. خلاصة القول ان اتهام الباحث للمسلمين - بمختلف طوائفهم - ب "تغييب" المسيحيين و"استبعادهم" هو اتهام باطل، لأن ارادة اللبنانيين - مسيحيين ومسلمين - ما زال لها القول الفصل في كثير من الأحيان، ان هم قرروا المشاركة في تقرير مصائرهم. في تقديري ان الممارسة السياسية في لبنان حالياً يجب أن تناقش في اطار التداخل المصلحي الفوضوي - اذا صح التعبير - بين رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة، أو ما اصطلح على تسميته في الخطاب السياسي اللبناني المعاصر ب "حكم الترويكا". 2- يقول الكاتب في الفقرة نفسها ان الاتفاق أفرز قانوناً انتخابياً "أخضع المسيحيين للمسلمين في الدوائر التي يشكلون فيها أقلية لكنه لم يخضع المسلمين للمسيحيين حيث يشكلون أقلية"، وهذا كلام عام وغير واضح وهو بحاجة الى اثبات، خصوصاً ان الانتخابات البلدية الأخيرة لم تعكس أمراً بمثل هذه الخطورة. فعن أي دوائر يتحدث الكاتب؟ ولماذا لم يسمها باسمائها إذا كان يعتبر نفسه ضليعاً بالتركيبة الديموغرافية بمختلف أبعادها ومؤثراتها في لبنان؟ 3- لم نستطع أن نفهم مغزى التحامل الذي أبداه الكاتب على حزب الله أثناء حديثه عن الغاء الطائفية السياسية، فلقد جاء هذا التحامل فظاً وبغير مناسبة، ليعكس تفاعلات دفينة مردها الى الاختلاف العقائدي المتطرف بين أصولية دينية من جهة وأصولية علمانية من جهة أخرى. وكل الأصوليات في نهاية التحليل ذات طبيعة واحدة من حيث الايمان الأعمى بضرورة الغاء الطرف الآخر الذي هو على المستوى الجدلي مبرر وجود الطرف المقابل. وإذا ما عدنا الى اتهام الكاتب لحزب الله بمحاولة تنصيب جمهوريته الاسلامية، فإن مسؤولي هذا الحزب صرحوا أكثر من مرة بأن هدفهم ليس جعل لبنان جمهورية اسلامية. فطبيعة الكيان اللبناني الموضوعية - دينيا وسياسيا واجتماعيا - تقف حائلا دون ذلك. وما مشاركة حزب الله الرسمية في الحياة السياسية اللبنانية الا خير دليل على واقعية القيمين على هذا الحزب، هذه الواقعية المتمثلة في اعترافهم بخصوصية الحالة التعددية في لبنان، وما يترتب على هذه التعددية. 4- ينبري الكاتب للتحذير من نقض العقد المؤسس للدولة اللبنانية عام 1920 الذي جعل "الشراكة المسيحية - الاسلامية المتساوية شرطاً شارطاً لوجود لبنان". ونحن على أي حال لا نخالفه الرأي في المبدأ ولكننا لا نوافقه على أن الشراكة المسيحية - الاسلامية كما طبقت قبل اندلاع الحرب الأهلية سنة 1975 كانت شراكة متساوية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أين المساواة في قانون التمثيل الذي عرف ب "الستة والستة مكرر"؟ وأين المساواة في اتباع القيمين على الدولة اللبنانية آنذاك، وأقصد المارونية السياسية ومن دار في فلكها، سياسة اقتصادية واجتماعية أفضت الى تطويق بيروت والمدن اللبنانية بأحزمة بؤس اسلامية شيعية لبنانية وسنية فلسطينية بالتحديد جرى الالتفاف على ثورتها الاجتماعية عبر اشعال فتيل الحرب الطائفية في منتصف السبعينات؟ 5- نطمئن الأستاذ الأخضر بأن ما من مجموعة طائفية أو دينية في لبنان تسعى الى الاستيلاء على منصب رئاسة الجمهورية. فلاعتبارات كثيرة متمحورة حول مختلف أبعاد الخصوصية اللبنانية، توصلت الطوائف في لبنان الى شبه اجماع في ما بينها على أن يكون الرئيس مسيحياً مارونياً، سواء نص الدستور على ذلك أم لم ينص. ولكننا مع الحفاظ على الصفة المؤقتة للمادة 95 من الدستور، لأن في هذه الصفة إبقاء على امكانية التطوير في أي مرحلة مستقبلية، قريبة كانت أو بعيدة. والتطوير لن يكون أبداً على حساب المسيحيين، لأنه سيتم بسعي وطني مسيحي - اسلامي، والا فلن يكون تطويراً. 6- يحدد الكاتب سلم أولويات، وتأتي في مقدمة هذه الأولويات حسبما جاء في النص: "تحرير لبنان من الاحتلالات الأجنبية، لأنه البلد الوحيد اليوم في العالم الذي تحتل أراضيه جيوش أجنبية فضلاً عن ميلشيات وعصابات ارهابية". ونحن نصحح هذه المقولة فنقول ما يلي: ان هناك جيشاً محتلاً واحداً في لبنان هو جيش العدو الاسرائيلي، أما الجيش السوري فلا تمكن مقارنة وجوده بوجود المحتل الاسرائيلي بأي حال من الأحوال، ومهما اختلفت الآراء حول دور سورية في لبنان. ولا ينبغي ان ننسى ان الجيش السوري جيش عربي موجود في لبنان في الأساس بطلب من الحكومة اللبنانية نفسها. وإذا ما عدنا الى النصف الثاني من السبعينات تؤكد لنا الوقائع بأن الذين طالبوا بدخول الجيش السوري الى لبنان - لحمايتهم وقتذاك - هم أعضاء "الجبهة اللبنانية" الذين احتكروا في ذلك الوقت تمثيل المسيحيين، وهم أنفسهم الذين انقلبوا على سورية بعد أن فتحوا خطوط امداد لهم باتجاه اسرائيل، وذلك نتيجة حسابات مريضة بالعداء لكل ما هو عربي. وقد دفع المسيحيون غالياً ثمن هذه الحسابات. إذا كان لبنان هو "البلد الوحيد في العالم الذي تحتل أراضيه جيوش أجنبية"، فهذا يعني أن الأستاذ الأخضر لا يعترف باحتلال اسرائيل لفلسطين وللأراضي العربية المحتلة عام 1967. وإذا كان الكاتب يعتبر نفسه في حل من الالتزام بقضايا الأمة العربية، فكيف يسمح لنفسه أن يدعي بأن موقفه هو "موقف مثقف عربي"؟! لم يوضح الكاتب من يعني بالميليشيات والعصابات الارهابية التي تحتل لبنان. فإذا كان يعني ميليشيات ما يسمى "جيش لبنان الجنوبي" الموالية لاسرائيل فنحن نوافق على أن هذه العصابات تشارك في احتلال جزء من لبنان. أما إذا كان يعني حزب الله - كما يتضح مما ورد في مكان آخر من المقال - فلا يسعنا سوى أن نأسف بأن تصبح الانهزامية متأصلة في نفوس بعض العرب فيتمثلوا الموقف الصهيوني ويسبغوا على ظاهرة مقاومة الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان وبقاعه الغربي - سواء كانت مقاومة وطنية أم اسلامية لا فرق - صفة الارهاب. وهذا موقف لم يفاجئنا في زمان كهذا الزمان. 7- وصف الكاتب المثقفين المعادين لمشروع السلام العربي - الاسرائيلي قائلاً: "أقل ما يقال فيهم انهم لا يعرفون ما يريدون". فبالله عليك قل لنا - أنت الذي تعرف ماذا تريد - ما هو ردك العملي على استمرار التوسع الاستيطاني في الكيان الصهيوني، هذا التوسع الذي عملت على ترسيخه جميع الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة - ولا فرق بين العمالية والليكودية - بالرغم من الايهام بالسير في ركاب السلام؟ وما هو ردك العملي كذلك وأشدد على هذه النقطة على اللاءات الاسرائيلية لا للدولة الفلسطينية، ولا لإعادة القدس التاريخية، ولا لإعادة الجولان الى سورية، وربما تضاف لاء رابعة: لا لإعادة أي جزء من أراضي الضفة الغربية الى السلطة الوطنية الفلسطينية، كائناً ما كان تصنيف هذه الأراضي وفقاً لاتفاق أوسلو؟ فهل يريدنا الكاتب أن نلهو خارج التاريخ عبر القيام بمظاهرات - مثلا - مع حفنة من اليهود و"العرب العروبويين" من أتباع تيار كوبنهاغن الذين يسميهم الدكتور اسماعيل صبري مقلد ب "الواقعيين الجدد" ضد الاستيطان في جبل أبو غنيم؟ أ لم يسأل هؤلاء أنفسهم هل هم واقعيون في ما يفعلون؟ أم أن الواقعية أصبحت مجرد قياس لميزان القوى والاذعان للأقوى؟ لسنا ضد السلام بالمطلق، ولكننا مع السلام العادل الذي يعيد الأرض ويحفظ الحقوق، مع السلام المستند الى القيم الانسانية العقلانية المغيَّبة من عالمنا الحاضر. نحن مع السلام الشامل ولسنا مع السلام الاقتصادي الضيق الأفق المستند حصراً الى منطق الربح والخسارة في عالم لم تعد تسوده سوى الأفكار الداعية الى العولمة الاقتصادية المحتكرة البغيضة، عالم يمشي على عقبيه ويكاد ينحصر فيه عقل الانسان في حسابه المصرفي وخزانة أمواله. 8- إن النموذج الذي تدعو اليه - يا أستاذ الأخضر - لمجتمع اقليمي شرق أوسطي يديره حكامه بذهنية أصحاب الشركات، بدلاً من ذهنية العصبيات الدينية والطائفية، هو أيضاً مدعاة للخوف وليس للاطمئنان، فأي قيم سيراعي هؤلاء إذا كان الربح المادي هو أقصى ما يسعون اليه؟ وإذا ما سلمنا معك جدلاً بهذا المنطق، ما الذي يضمن لك ان اسرائيل ستلتزم بآلية السوق؟ وما الذي يضمن لك - على سبيل المثال - ان السلع التي ستنتجها الدول العربية سيسمح لها بنيل شهادات الجودة ISO 9001 وسواها التي تخولها أن تُوزع في الأسواق العالمية وفقاً لأنظمة منظمة التجارة العالمية؟ أما فكرت أبدا أن الذي يُخطَط لنا - كعرب ومسلمين - هو أن نبقى مستهلكين لمنتجات الحضارة الغربية ولمنتجات اسرائيل في حال نجح المخططون في فرض مشروعاتهم الاقليمية؟ أدعوك - استطراداً - الى مجرد التفكير بالذي يحصل لاندونيسيا وماليزيا باعتبارهما بلدين اسلاميين صناعيين، ومسبباته في هذه اللحظة من التاريخ. 9- أما دعوة الكاتب في نهاية مقاله الى تقسيم لبنان الى فيدرالية أو كونفيدرالية طوائف فنقول ان مثل هذا التصور لحل المسألة الطائفية في لبنان لا يتوصل إليه إلا غير المدرك لواقع التجربة اللبنانية، ولا يخرج الأستاذ الأخضر عن هذا التصنيف. فالتوصل الى التصور التقسيمي سهل من الناحية النظرية، ولكن الذي يحيا التجربة اللبنانية يوقن أشد اليقين بأن التقسيم في لبنان محال، نظراً لواقع ديموغرافية لبنان وجغرافيته السكانية. فالطوائف اللبنانية متداخلة في ما بينها جغرافياً ومعيشياً، وتحيا حياة اعتماد متبادل حتى ولو أوصلتها التناقضات في محطات عديدة من التاريخ الحديث والمعاصر الى الحروب الأهلية. لقد حاولت ميليشيا القوات اللبنانية خلال الحرب الأهلية الأخيرة 1975 - 1990 خلق غيتو مسيحي على جزء من الأراضي اللبنانية في بيروتالشرقية وكسروان وجزء من المتن عبر إحداث فرز سكاني طائفي اتخذ طابعاً دموياً في أحداث كثيرة معروفة، فماذا كانت النتيجة؟ ألم تحدث حروب داخلية مسيحية - مسيحية ومارونية - مارونية تحديداً؟ وما الذي يضمن لنا ألا تفضي الحلول التقسيمية الى اذكاء تناقضات اسلامية - اسلامية قد تسبب مواجهات مسلحة هي الأخرى؟ علاوة على ذلك، فلقد أشار الكاتب نفسه - وانما في سياق آخر - الى وجود أقليات اسلامية في مناطق تقطنها أكثرية مسيحية، وأقليات مسيحية في مناطق تقطنها أكثرية اسلامية، وما من شك في أن مصير هذه الأقليات سيكون الخضوع لما تقرره الأكثرية. ان هذه المشكلة بمفردها كفيلة بألا تدعنا نفكر ولو للحظة بالحلول التقسيمية للمعضلة الطائفية في لبنان. إن اللبنانيين على اختلاف مذاهبهم جاهدوا للحفاظ على وحدة وطنهم ونجحوا في ذلك بالرغم من الخروقات الطائفية التي نعترف بوجودها على أرض الواقع. ولكن الحل لا يكمن في الدعوة مجدداً الى التقسيم، أفيدرالياً كان أم كونفيدرالياً أم غير ذلك، لأنه سيخلق مشكلات لا تعد ولا تحصى. * كاتب لبناني