عاشت ايريس مردوخ داخل العصر وخارجه وسعت منذ روايتها الأولى "تحت الشبكة" أن تجيب على الأسئلة الشائكة التي طرحتها مرحلة ما بعد الحرب الثانية. لكنّها اكتشفت صعوبة الإجابة على أسئلة تشمل أكثر ما تشمل قدر الإنسان أو مصيره في عالم فقد رجاءه وآماله الكبيرة. ولم يكن من المصادفة أن تستهل الروائية البريطانية حياتها الأدبية في كتاب عن الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر وعنوانه "سارتر الرومانطيقي العقلاني". وبدا أثر سارتر بيّناً في روايتها الأولى ان لم يكن في بطلها الأول الذي جسّد مواصفات "البطل - الضدّ" أو "البطل المضاد" كما يوصف عادةً البطل السلبيّ الذي يختلف كلّ الاختلاف عن أبطال الروايات التقليدية. ولم يكن من المصادفة أيضاً أن تتخطّى مردوخ جان بول سارتر وفلسفته الوجودية لاحقاً متجهة نحو الفيلسوف النمسوي فيتغنشتاين الذي عاش في بريطانيا وعلّمها الفلسفة مثلما علّمها تلامذته أيضاً. ومنه تعلّمت أكثر ما تعلّمت التأمّل في النواحي الخفية من الحياة والوجود. وظلّت جملته الشهيرة تتردّد في ذاكرتها ومفادها "أنّ ثمّة حتماً ما لا يُعبّر عنه". وفي كلّ ما كتبت جهدت مردوخ في التعبير عن الأحاسيس والرؤى والهموم الكامنة في الوجدان البشريّ والتي يصعب التعبير عنها فعلاً. وعوض أن تلجأ الى ذلك الصمت شبه الصوفي الذي بشر به فيتغنشتاين حين قال "ما لا نستطيع أن نتكلّم عنه يجب أن نصمته"، راحت تكتب مستفيضة في ما تكتب وكأنّها مصرّة على التعبير عمّا يصعب التعبير عنه. وسألت مردوخ نفسها على غرار دوستويفسكي: هل ثمّة ما هو أهم من أن نتساءل عن الظاهرة العجيبة التي هي الإنسان؟". أمّا الجواب فتقطّع عبر رواياتها الكثيرة التي دأبت على كتابتها طوال حياتها الأدبية والفلسفية وهي روايات طويلة، "روايات كالأنهر" كما يعبّر النقد الغربيّ تنبع من الداخل الإنساني وتصبّ فيه. روايات تمتدّ في مئات من الصفحات وفي عوالم تتعدّد وتختلف من رواية الى أخرى. تبدأ الرواية وكأنّ وغايتها ألاّ تنتهي ولكن في نهايتها تنفتح أبواب على رواية أخرى تبحث عن راوٍ يرويها بل عن كاتب يكتبها. ولا غرابة أن ينتحل عالم مردوخ مواصفات المتاهة فهو يضلّل مَن يدخله فيما يضيء الطريق أمامه. لكنّه الضلال الذي تحفّه المعرفة، المعرفة بالحدس والعقل معاً. جاءت مردوخ الرواية من الفلسفة أكثر ممّا جاءتها من الأدب. لكنّ طالبة الفلسفة ومدرّستها لم تطرح نفسها يوماً "فيلسوفة" ولا روائية "تتفلسف". كانت الفلسفة لها أشبه بالمرجع الذي تستند إليه لتنطلق في التحليل والتأمّل. وكانت كذلك حافزاً على البحث في المسائل الشائكة والقضايا التي جبهتها ككائن وكروائية في الحين عينه. وأثر أفلاطون فيها مثلاً دفعها الى تصوّر الفنّ الروائي كمرآة تعكس العالم الداخليّ الخفيّ، الحافل بالمتناقضات والهواجس والأحلام... وفكرة "المُثُل" الأفلاطونية دفعتها الى البحث عن البراءة المفقودة التي عرفها العالم في مرحلة من مراحله. "هناك أمور كثيرة في الرأس" تقول مردوخ وليس على الروائي إلا أن يبحث عنها. والمهمّ ليس العالم بل الصورة المرسومة له في العقل والمخيّلة. وكان لا بدّ لها أن تكيل المديح للمخيّلة والتخييل فهما ركيزة العمل الروائي. ولعلّ ثقافتها الفلسفية ساعدتها في رسم الصراع التاريخي والمستميت بين الخير والشر ولكن على طريقتها وليس وفق التصوّر التقليديّ. وفي نظرها أنّ الرواية الجيّدة لا تقوم إلا على تمثل هذا الصراع وعلى اجتياز المظاهر الخادعة نحو الحقيقة الدفينة. والصراع بين الضدّين هذين لم يكن مجرّد صراع قدريّ فقط بل غدا صراعاً بين حقيقتين تنتهيان كلتاهما في الموت، في العدم واللاوجود. وإن لم تنتمِ مردوخ الى التيّار العبثي رغم اعجابها مثلاً بصموئيل بيكيت الإيرلندي الأصل فهي لم تكن بعيدة عن الأجواء العبثية وقد سمّيت عبثيتها في فرنسا ب"عبثية السلوك الإنساني". واعترفت هي أن العبثية في رواياتها ليست "أكبر ممّا هي في الحياة". فالعبث لديها لا يخلو من نزعته الفلسفية والوجوديّة ولا من منحاه الميتافيزيقي. إنّه مصير أشخاص في عالم بلا آلهة وبلا مثل. بل هو مصير عالم مغرقٍ في سوداويته، عالم ديني ولكن بلا دين، عالم روحاني ولكن بلا خلاص، عالم مفعم باليأس والتشاؤم، بالشك والظنون. ولطالما اعتبرت مردوخ نفسها مؤمنة ولكن ليس على الطريقة الكاثوليكية كما تعبّر. ولطالما نظرت الى فكرة الخلق كفكرة مجازية. ولئن لم يغب "شبح" الدين عن بعض أعمالها فهي تصرّ على أن أعمالها هذه ليست دينية مقدار ما هي ميتافيزيقية. فالأسئلة الدينية التي تعج بها رواياتها والتي يطرحها أبطالها باستمرار هي أسئلة ميتافيزيقية في عمقها. والبحث في الماورائيات لا يعني أبداً الانتماء الى الدين وان التقى به جوهرياً. والحدس الداخلي الذي يشبه الحدس الديني لا يبرز إلا كفعل جوهريّ يكمّل فعل العقل. والعقل في نظرها عاجز وحده على سبر الحقيقة وعلى اكتشاف الطبيعة البشرية الغامضة والمعقّدة. ورواياتها هي غير فلسفية وان قامت على التساؤلات الفلسفية والدينية وهي كثيراً ما تتحاشى الوقوع في شباك الفلسفة والدين كعلْمين تجريديين. وعالمها الروائي لا يتخلّى أبداً عن السخرية والغرائبية والعبث بل هو يؤاخي بين المهزلة والسحر، بين التأمل والصدفة، بين التحليل والغرابة. وتعتبر مردوخ أنّ من أشد الأخطار المحدقة بالفن الروائي إدخال النظريات المجرّدة عليه. فالكتابة الروائية مغامرة أدبية مثلما هي مغامرة ميتافيزيقية، مغامرة لغوية مثلما هي مغامرة وجودية. وقد سمّيت مردوخ روائية "المغامرة" بحقّ على الرغم من إصرارها على انتمائها الى الحركة الروائية "الواقعية" ولا سيّما الأوروبية. وحين يقال عن ايريس مردوخ أنّها عاشت داخل العصر وخارجه فهذا يدلّ على اعتناقها الأسئلة التي طرحتها حداثة القرن العشرين وعلى تخلّيها في الوقت نفسه عن الأشكال التي راجت خلال هذا القرن مثلما تروج بعض الموجات ولا تلبث أن تخبو. فهي ظلت بعيدة عن وطأة النزعات الروائية والسردية الحديثة ولا سيّما النزعات التجريبية التي أعادت النظر في المفاهيم والبنى الروائية الكلاسيكية. ولم تستهوها مثلاً الحركة الروائية "الجديدة" في فرنسا ولا الحركات التحديثية التي شهدتها الرواية الأميركية المعاصرة ولم تجذبها الأساليب المتطرفة في تجديدها وهي تقول عنها أنّ "غايتها الرئيسة هدم الشكل الروائي". ظلّت مردوخ أسيرة الرواية القديمة في أساليبها السردية الصرفة ومنحت السرد أقصى اهتمامها جاعلة منه عماد الفنّ الروائي. فرواياتها هي روايات "المغامرات الميتافيزيقية والعاطفية" كما قيل عنها وهي تحتاج كلّ الاحتياج الى "الحكايات شبه الخرافية التي أُسقط عنها البعد الخرافي". وتمتدح مردوخ الرواية التقليدية إيّما امتداح منحازة الى تقنياتها وشخصياتها وفضائها السرديّ. وتقول: "في نظري، الرواية التقليدية هي أشبه بالمركبة الكبيرة جداً والرحبة جداً والمرنة جداً والعميقة جداً، فيها نشعر بالراحة وفيها نستطيع أن نفعل ما نشاء". ولعلّ دفاعها عن الرواية التقليدية ونسجها على منوالها لم يحولا دون انفتاحها على هموم الإنسان المعاصر وشؤون القرن العشرين. فالقضايا التي أثارتها في رواياتها هي قضايا العصر الراهن ولكن الأساسية والعميقة وليست القضايا العابرة والسطحية. ولم يخطىء النقاد الذين اعتبروا مردوخ سليلة القرن التاسع عشر وسليلة دوستويفسكي وديكنز وجاين أوستن وجورج أليوت وإميلي برونتي وتولستوي. ومَن يقرأ رواياتها يدرك معنى انحيازها الى الرواية التقليدية. فعالمها الروائي عالم يعجّ بالشخصيات والأحداث التي يتوالد بعضها من بعض والتحقيقات والمشاهد المسرحية واللوحات الغرائبية والمشاهد الطبيعية وهذه العناصر جميعها جعلت قراءتها على قدْر قليل من الصعوبة وافترضت على القارىء بعض الجهد. وان كانت رواية مردوخ رواية أحداث ومواقف فهي رواية شخصيات أيضاً. وشخصياتها تتشابه وتختلف في ملامحها وأفعالها حتى يظنّ القارىء أنّه أمام حشد من الشخصيات التي تتواتر من رواية الى أخرى. شخصيات حيّة، انكلوساكسونية غالباً، معاصرة، تنتمي الى البورجوازية البريطانية ذات الثقافة المميّزة. شخصيات تتعذّب وتعذّب نفسها وتتكلّم كثيراً وتسعى عبر الكلام الى ايجاد خلاص ما أو طريق ما وسط المتاهة التي هي العالم أو الحياة أو الواقع. شخصيات تنتفض على العالم بغية تبديله والعثور على الحقيقة الهاربة باستمرار. شخصيات ذات هموم جمّة وهواجس جمّة: الحبّ، الدين، الانتماء، الموت، الوحدة، الندم، الخير، الشرّ، الغيرة، الحقد... في روايتها الأولى "تحت الشبكة" 1954 يطلّ الراوي جاك كشخص ايرلندي مقتلع في مجتمع غريب عنه هو مجتمع لندن. رسام فاشل، يؤثر الكلام والانغلاق على النفس في الوقت ذاته. ويفضّل أن يقدّم نفسه ك"مفكّر مدرك بالحدس"، شخص مضطرب وقلق يعمل كمترجم لروايات يحتقرها محتقراً الكتابة نفسها أيضاً. ولئن جسّد "جاك" ملامح "البطل المضادّ" فأنّ "ميكايل" مثلاً في رواية "الجرس" 1958 لن يكون أقلّ سلبية منه، فهو كاهن خائب وفاشل، بل أستاذ ساقط، شاذّ وورع، هجر التعليم والكهنوت على إثر التشهير الذي قام به في حقّه تلميذه "نيك" وكان أغراه في لحظات ضعف. والرواية لن تتوقف على شخصيّة "ميكايل" بل تنطلق منها لتقدّم مناخاً من العلاقات المعقدة والأحداث التي تجري في أحد الأديرة حيثما يختفي الجرس ذات مرّة اختفاء سرّياً... في رواية "حلم برونو" 1969 يطلّ فنان فاشل كذلك هو "برونو" وقد أصيب في شيخوخته بمرض يجعله يشبه العنكبوت. وهو يذكّر قليلاً ببطل كافكا في "المسخ" الذي يستيقظ ذات صباح ليجد نفسه حشرة. لكنّ "برونو" الذي يهوى دراسة العناكب يسعى حين يشعر بدنوّ أجله، الى المصالحة مع الحياة والموت معاً، عبر مصالحة ابنه وزوجته التي كانت ماتت حزناً بعدما علمت أنّ زوجها يخونها. شخصيات منحرفة، منفصمة، تنتحر وتتحطّم وتعيش أقدارها البائسة وتواجه اللعنات التي تحلّ عليها... في رواية "البحر البحر" 1978 وهي رائعة مردوخ، ينسحب شارل مدير مسرح شهير الى شاطىء البحر ليتأمل في نفسه وفي وجوده والعالم نادماً كلّ الندم على حياة ملؤها الأنانية. وهناك في عزلته، ينكبّ على كتابة ما يشبه المذكرات أو اليوميات وهذا ما تكرهه مردوخ شخصياً وتعتبره إضاعة للوقت... لكنّ عزلته لن تروق له طويلاً إذ ستدخل صديقته القديمة ضحيّته حياته منتقمة لنفسها منه بعدما خانها مع امرأة أخرى... في هذه الرواية يتجلى فنّ مردوخ الروائي وتقنيتها المتينة في بناء الروايات والشخصيات. وقد شاءتها في ثلاثة أقسام: الحكاية وهي المتن الرئيسيّ، ما قبل الحكاية والخاتمة الحياة تستمر. والرواية هذه غدت نموذجاً للصنيع الروائي الذي سعت مردوخ الى تأسيسه انطلاقاً من المفهوم القديم للرواية. وهي تقول عن الصنيع الروائي: "أعتقد أنّ علينا أن نصمّم باعتناد ما نودّ أن نكتبه، لا تكتبوا الجملة الأولى قبل أن تنهوا المخطّط الكامل، قبل أن تدركوا كلّ أمر عن الشخصيات، قبل أن تسمعوا أصواتهم ومحاوراتهم، وإذا توفّرت لديكم هذه الصورة الأولى عن علاقاتهم فهم سوف يتولّون البقية عنكم". ايريس مردوخ التي احتقرت "المازوشية النسائية" كما تعبّر والتي كتبت أجمل الروايات في انكلترا وأوروبا والعالم في النصف الأخير من القرن وأعادت الى الرواية التقليدية "مجدها" الضائع انتهت في النسيان. لكنها هي التي نسيت نفسها وليس العالم هو الذي نسبها، فهي حاضرة بشدّة وستظلّ حاضرة بشدّة. أما أجمل ما وصفت به مرضها، مرض النسيان حين بدأ يدب فيها فهو ما قالته عنه: "مكان قذر وهادىء جداً وقاتم جداً".