الكتاب: يهودي لينز بالانكليزية الكاتب: كيمبرلي كورنيش الناشر: آرو، لندن 1999 لو كان أنف كليوباترا أطول؟ طريقتان تتنازعان كتابة التاريخ! واحدة تقربه من العلم، والأخرى تبعده نحو السرد، هناك بين المؤرخين من يريد لكتابة التاريخ ان تلم بالظروف العامة والأسباب الكامنة التي تتحكم بالجميع ولا تخص أحداً على وجه التحديد. وهناك من لا يجد بغيته في التعميمات والقواسم المشتركة لهذا الضرب من الكتابة الموضوعية، ليركز جهده على التفاصيل الملموسة وحيوات الأفراد وأدوارهم وتوافقات الأحداث ومصادفات الزمن. فيدخل التاريخ ضمن إطار سردي ذي حبكة متماسكة، ودوافع مشخصة، وبداية ونهاية معلومتين. ومن هذه القدرة على رصد الجزئيات والخصوصيات، وتداخلات الواقعي بالخيالي، والمادي بالنفسي، يتحقق طابع الإثارة والتشويق للكتابة التاريخية السردية. والتاريخ، في حالة كهذه، يستمد معناه من عالم أبطاله، لا من قوى الضرورة التي تقود أفعالهم، كما يعتقد المؤرخون الموضوعيون. لهذا يقابلون روايات السرديين بالتحفظ والشك، لأن معنى التاريخ عندهم لا تستوفيه ولا تعوض عنه دقة الخبر وقوة الإسناد وتتابع الأحداث: التاريخ هو سياق وحدات كبيرة تشق طريقها خلف الحبكات الصغيرة والصراعات الفردية الظاهرة. من المؤكد ان تحفظا من هذا النوع سيلاحق كتاب كمبرلي كورنيش "يهودي لينز" لندن، آرو 1999، على رغم انه ضمن لنفسه مسبقاً ميزة الاجتهاد على ما هو معروف ومعتمد بخصوص حقيقة حياة الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين 1889-1951، وأصل معاداة أدولف هتلر للسامية، وخلفيات الصراع الأيديولوجي في النصف الأول من القرن العشرين. فنسج من المعطيات المتوفرة عنها عناصر قصة مثيرة بأسرارها جريئة باستنتاجاتها المسندة بأدلة وقرائن مباشرة أو غير مباشرة. لكن ما الذي يجمع حقاً بين فيتغنشتاين الفيلسوف وهتلر السياسي؟ عدد قليل من الناس يعرف ان الرجلين كانا في صباهما زملاء دراسة، اذ قضيا العام الدراسي 1904-1905 في صف واحد في مدرسة حكومية في مدينة لينز شمال النمسا. غير انه لم يحدث ان تجرأ أحد، قبل مؤلف هذا الكتاب، على تحميل علاقة الزمالة بين الصبيين كل هذا القدر من التأويل والافتراض. أما العلاقة فلم يختلقها الكاتب من وحي خياله، لأن جميع المراجع الأساسية عن حياة فيتغنشتاين تعترف بها، وان وقفت دون تأمل مضامينها العميقة ودللاتها اللاحقة كما يزعم الكاتب. فهو يبدأ سرد القصة، مقتبسا عن هتلر قوله في "كفاحي" المقطع التالي: "حقا، قابلت في ريال شوله اسم المدرسة التي جمعته بفيتغنشتاين فتى يهوديا كان عومل من قبلنا جميعاً بشيء من الحذر، وذلك لأن تجاربنا المختلفة دفعتنا الى التشكيك في قدرته على صون الأسرار، ولم نكن نثق فيه على وجه الخصوص…" ص12. يعتبر الكاتب هذا المقطع بؤرة بحثه، مفترضا احتمال ان يكون "مسار القرن العشرين تأثر بعمق بشجار وقع بين تلميذين" ص39. من الواضح ان هتلر يسترجع هنا ذكرياته الأولى عن اليهود، لكن الكاتب يجد في المقطع ضالته المنشودة لتفسير كره هتلر لليهود ومعاداته للسامية، وذلك بالإدعاء ان الفتى اليهودي الذي أشير اليه في "كفاحي" كان فيتغنشتاين دون سواه. مهما كان من أمر هذا، فان ما يريد ان يبلغه الكاتب هو ان هتلر اسقط لاحقا نفوره من زميله في الدراسة على كل يهود اوروبا، مجسداً ذلك في سياسة الإبادة الجماعية ضدهم. ويضيف ان هتلر سار على خطى ملهمه الموسيقار ريتشارد فاغنر الذي كان من أكبر المبشرين بمعاداة اليهود. وان هتلر وفاغنر يشتركان أيضاً في كون عدائهما للسامية لم ينجم أصلاً عن موقف مسبق من اليهود ككل، بل عن تجربة مريرة مع يهوديين ينتميان الى عائلة واحدة اعتنقت المسيحية، هما لودفيغ فيتغنشتاين وجوزيف يواكيم الموسيقي الذي عاصر فاغنر ونافسه. بعبارة أخرى، ان التراث الأوروبي المديد في معاداة السامية لا يفسر لوحده تجلياتها اللاحقة في الفكر النازي، وان للعوامل الفردية دوراً أساسياً في تأجيجها. فاذا كان هتلر اطلع وتأثر بالمنشورات المعادية للسامية، قبل لقائه فيتغنشتاين في 1904، فان ذلك اللقاء المصيري منح العداء المسبق محتوى ملموساً. لقد ترابط رد فعل هتلر على زميله مع نقمته، وهو المتحدر من عائلة متواضعة اذ كان أبوه يعمل موظفاً في الجمارك، على عائلة فيتغنشتاين، الذي كان أبوه من أكبر مالكي صناعة الحديد والصلب في الامبراطورية النمسوية الهنغارية. في 1929 عاد فيتغنشتاين من جديد الى جامعة كامبردج، التي سبق له ان درس فيها الرياضيات، قبيل الحرب العالمية الأولى، على يد برتراند راسل الذي وصف لقاءه به بأنه احد أكبر المغامرات الفكرية إثارة في حياته. عاد فيتغنشتاين هذه المرة الى كامبريدج للعمل في "ترينيتي كوليج"، بقرار يكتنفه شيء من الغموض، يرجح الكاتب انه لا يجد تفسيره في حماس فيتغنشتاين الضعيف أصلاً تجاه الحياة الأكاديمية، بل في اضطلاعه بمهمة تجسس لمصلحة السوفيات. ويطرح فرضية فحواها ان فيتغنشتاين كان الرأس المدبر لشبكة جواسيس كامبريدج المشهورة، التي تم كشفها في بداية الخمسينات وكان أعضاؤها كأنتوني بلانت وغي بيرغيس ودونالد ماكلين وكيم فيلبي، من أصدقائه المقربين. ولأن المعطيات المتيسرة لا تنفي، وان كانت لا تثبت بشكل قاطع، هذه الفرضية، يستنتج الكاتب ان فيتغنشتاين لعب من خلال التجسس لعبة خفية للثأر من هتلر والقضاء عليه. لكن قصة ترابط وتقاطع مصيري فيتغنشتاين وهتلر لا تنتهي عند هذه النقطة، لأن الكتاب يعرض بإسهاب تأثير أفكار الأول على الثاني الذي لم تقدم أيديولوجيته النازية، في نهاية الأمر، سوى نسخة متطرفة منها. لكن ما هي الأفكار، أو على نحو أدق، الفكرة المحورية لفيتغنشتاين؟ انها تتمثل في القول بنفي وجود ذات مفكرة تسبق الأفكار وتنتجها، أي ان الأفكار وكذلك اللغة ليست من ملكية الذهن المفكر، الذي يقتصر دوره على حملها وتداولها. وهي تنتمي الى عالم لانهائي يتجاوز مقولات العقل البشري، هو عالم الشيء بذاته عند الفيلسوف عمانويل كانط، أو عالم الإرادة عند شوبنهاور. وعلى رغم النقلة التي حصلت في فلسفة فيتغنشتاين من الذرية المنطقية، التي عرضها في كتابه "رسالة منطقية فلسفية"، الى نزعة التحليل اللغوي التي تبناها في كتابه المتأخر "بحوث منطقية"، فإنه لم يتخل في رأي الكاتب، عن تلك الرؤية العرفانية الصوفية للعالم التي أدركها في وقت مبكر من حياته، وظلت تميز فكره عن أفكار معاصريه من الوضعيين المنطقيين وفلاسفة التحليل اللغوي في العالم الناطق بالانكليزية. اللافت انه كان لهتلر ادعاء مماثل أشار اليه في "كفاحي" ومضمونه انه منذ أيام مدرسة ريال شوله تعلّم ان يفهم معنى التاريخ ص 108. وكان لشوبنهاور هنا تأثير حاسم، ليس فقط على فيتغنشتاين الذي تجمع المصادر على انه لم يقرأ لسواه، بل أيضا على هتلر الذي كان يحفظ عن ظهر قلب مقاطع كاملة من كتابات مؤلف "العالم ارادة وفكرة". لكن فيما غلف الأول تلك الرؤية اللاعقلانية بغطاء عقلاني منطقي، منحها الثاني بعداً سياسياً عملياً، حيث طابق بين الذهن الماورائي الذي يحكم العالم والعرق الآري ليسند بذلك مفهومه لمعنى التاريخ الذي تحول الى حجر الأساس للأيديولوجية النازية عن تفوق الشعب الألماني. في بحثه عن أصول تلك الرؤية العرفانية الصوفية التي انجذب اليها فيتغنشتاين وهتلر تحت تأثير شوبنهاور، يكشف الكاتب ملامحها عند الفلاسفة المسلمين مثل ابن سينا وابن رشد. وفرضيته هنا تبدو مقنعة في حالة ابن سينا الذي عرّفت فلسفته المشرقية النفس بأنها جوهر روحاني مفارق للجسد، وأخذ بالحدس كسبيل الى المعرفة المطلقة المتمثلة بالاتصال بالأنوار الالهية. ثم يدلو بدلوه في مسألة شغلت الباحثين في فلسفة ابن سينا، أي مسألة تفسير الصفة المشرقية لها. فيرفض عزوها الى معنى الإشراق الصوفي، ليربطها بالشرق الجغرافي الذي هو الهند، حيث يتتبع أثر حكمائها في كتابات ابن سينا في الفلسفة والطب. والقصد هنا واضح بما فيه الكفاية: هناك خط مستقيم يتجاوز التاريخ والجغرافيا، والثقافات واللغات، لتجلي الاعتقاد بعقل شامل ومفارق للعالم، عقل كان يكمن وراء صوفية فيتغنشتاين وتفسير هتلر العرقي للتاريخ. وبوضع هذا الاعتقاد جنباً الى جنب مع العداء الشخصي المعلن او المضمر بين الرجلين تكتمل أطروحة الكتاب: لولا الرؤية الصوفية للأول لما انساق الثاني الى سياسة معاداة السامية. كأن التاريخ كان معلقاً بانتظار حدوث هذا التوافق الشرطي، أو كأن العوامل الأخرى مثل صراع النازية ضد الليبرالية والماركسية، حيث اعتبرتهما مؤامرة يهودية، لا تفسر شيئاً مما حصل.