تشير نهاية هذا القرن الى تفكك نموذج الحداثة، وانحلال هيمنته على الكتابة الشعرية العربية الحديثة، وانحسار القلق النظري المحيط به، اذ بات تنوع هذه الكتابة واختلافها واستعصاؤها على التنميط أكثر تعقيداً مما كان عليه في اي يوم من الايام. مما أربك النظرية النقدية التي لا تستطيع - شأنها في ذلك شأن العلوم الانسانية والاجتماعية الأخرى - التفكير في الظاهرة بمعزل عن "نمذجتها" او "امثلتها". واذا كانت الحداثة اليوم تقبل النمذجة في ما يمكن تسميته بنموذج الحداثة فان تنوعات الكتابة الشعرية العربية الحديثة في نهاية القرن، واختلافاتها وتبايناتها وتشظياتها والكثرة الكثيرة في اشكالها قد نزعت السحر عن ذلك النموذج بقدر ما اخضعته للمساءلة واعادة النظر الجذرية في أسسه. وليست تلك التنوعات والاختلافات في ضوء منظور أبعد واعقد في طبيعة الحال الا مظاهر لأزمة النموذج وانحلاله. وهو ما باتت بعض الكتابات النقدية العربية تلمسه بشكل مبسط وشائع تحت تعبير: أزمة القصيدة الحديثة؟ ويبدو في ضوء الكشوفات "الابيستمولوجية" التي تفرض على المنهجيات النقدية بما فيها منهجية النقد الادبي عدم تجاهلها، ان ازمة النموذج الشعري المهيمن على على مفهوم الشعري وطبيعته ووظيفته وادواته ليست مختلفة نوعياً عن ازمة النماذج الفكرية والادراكية في الحقول الاخرى ، التي تتآكل وتتقادم وتفقد اشعاعها، فنكون حينئذ ازاء "ازمة نماذج" يحتد فيها التباين والاختلاف، ويحاول كل اتجاه ان يؤسس النموذج الجديد على اساسه. وما يسمى أزمة القصيدة الحديثة ليس في العمق الا نوعاً من "ازمة النماذج" تلك، التي تحضر في نهاية القرن نقدياً - شعرياً في شكل ازمة نموذج الحداثة وتفككه، وقد ارتبط نمطيا بحركة مجلة "شعر" ومحيطها وامتداداتها وآثارها. واجه النموذج الشعري الكلاسيكي العربي منذ اوائل القرن العشرين أزمة أسس، ولم تستطع الكلاسيكية الجديدة الاحيائية في صبها للموضوعات العصرية الجديدة في قوالب واشكال جديدة الا ان تستنسخ الازمة وتجددها. وقد اندرج الوعي الشعري الحديث - في المعنى الواسع لصفة حديث والتي تشمل جوانب التجديد - في أزمة الاسس تلك في سياق وعي اشمل، يضع اشكالية التجديد في القصيدة العربية بوصفها مظهرا من مظاهر الصراع ما بين القديم والجديد، المحافظ والعصري، التقليدي والحديث، الاتباع والابداع، التراث والمعاصرة. من هنا لم يكن مصادفة ان نجد ان المحاولات التجديدية في النصف الاول من القرن قد انضوت تحت اسم "العصرية" الشاملة. وحاول هذا الوعي بفضل عملية الاتصال الثقافي ومفعولاتها ان يؤسس حله لازمة النموذج الكلاسيكي عبر اشكال وتقنيات ورؤى مشوبة بالرومنتيقية والرمزية وحتى بنوع من سوريالية، خلخلت نسبياً الاشكال الخطية والايقاعية الكلاسيكية للقصيدة العربية، وسمحت باطلاق قلق نظري وابداعي مركب هز هيمنة النموذج الكلاسيكي على الانتاج الشعري العربي ونزعها. وفي كلام آخر لعبت "عصرية" النصف الاول من القرن العشرين دورا اساسياً في في تقويض النموذج الكلاسيكي، الا ان حل ازمة القصيدة العربية بتأسيسها على نموذج جذري مغاير وفعال لم يشرع بالتحقق الا مع تكوين حركة مجلة "شعر" اللبنانية لنموذج الحداثة في الكتابة الشعرية. وقد ادعى هذا النموذج الذي كان بدوره مثقلاً بوعي "ثقافوي" منشق عن الوعي السائد في زمنه، تجاوز ارتباك او اضطراب "عصرية" النصف الاول من القرن، وتخطي "ثوراتها" التي اعتبرها تعديلات تجديدية او تنويعات عصرية على النموذج او ثورات ناقصة لم تفضِ الى اى قطيعة تامة مع النموذج الكلاسيكي، ولم تضع "جداراً نهائياً" ما بين القديم والحدث، كما ادعى نموذج الحداثة في مفهومه عن نفسه بكلام موجز ومكثف حل نموذج الحداثة ازمة الاسس في القصيدة العربية بانجاز عملية قتل الاب الرمزي وولادة نموذج الحداثة الراديكالي الجديد. وقد زعم هذا النموذج الجديد وسط "ربيع الثورات" و"الانقلابات" انشغاله الخالص بالشعري في حد ذاته وبذاته ولذاته، الا ان اصوله "الثقافوية" المنشقة زجته في مشكلات ايديولوجية وسياسية حادة مباشرة لم يستطع التهرب منها، مثل مشكلات الهوية والتراث والانتماء الحضاري والثقافي..الخ كانت الكتابة الشعرية نفسها في مجلة "شعر" ومحيطها متنوعة، الا ان ما ارتبط بها وجعل منها "حركة" وليس مجرد "مجلة" هو النموذج النظري والابداعي الذي صاغته للحداثة. ولو اردنا تكثيف هذا النموذج بكلمة واحدة، فانها لن تكون سوى "الرؤيا" بمعناها الحداثوي. بكلام آخر كانت القصيدة - الرؤيا هي الشكل المعبر عن نموذج "شعر" للحداثة وتمثيلها له. ومما لا شك فيه ان اهمية البعد الرؤيوي في الشعر ليست من اكتشاف حركة مجلة "شعر" فقد تميزت به عصرية النصف الاول من القرن، الا ان الحركة اسسته على وعي جمالي جديد متماسك نظريا، ويبحث عن الشعري في الطبيعة الميتافيزيقية للرؤيا ووظيفتها الحدسية في نقل معرفة داخلية مباشرة بالمعنى النقدي وليس اللغوي، تتخطى اشكال المعرفة الفكرية والسياسية والانطباعية والوجدانية والموضوعاتية للعالم.وقد عززت "ثقافوية" الحركة الشخصانية والوجودية هذا المفهوم الجديد لاسس الكتابة الشعرية الحديثة، بوصفها ليست تعبيراً عن العالم بل خلقاً له من جديد.يتحول الشعر في مآلات ذلك بكل بساطة الى طريقة معرفة، وتغدو التجربة الشعرية المرتبطة بهذه الطريقة تجربة مصيرية او كيانية وفق تعابير "شعر". لم ير نموذج الحداثة في سياق ذلك الحداثة في تجديد الاشكال بل في النظرة الحديثة الى العالم، مع ان تجديد الاشكال كما ظهر من خلال طرح المجلة لقصيدة النثر تأثرا بسوزان برنار - كشيء متميز ومختلف عن الشعر المنثور كان من مفعولات تلك النظرة. وبحكم خبرتها النظرية والابداعية المنشقة عن الخبرة السائدة، رسخ نموذج الحداثة منظورا انطولوجياًوجودياً للشخص يقوم على التعارض الاونطولوجي ما بين الشخص والعالم، وهو تعارض يختلف عن حالات الاغتراب والاستلاب الاجتماعية. واخذ الشاعر في هذا المنظور صورة الشاعر - المتنبئ / الرائي / الانسان الكوني / الميتافيزيقي / المستغرق في كشف اللامرئي. وتمكّن هذا النموذج من ان يتحول الى نموذج مكون بتشديد الواو وكسرها لظواهر شعرية رؤيوية جديدة مثل القصيدة التموزية وقصيدة التجربة المسيحية والقصيدة الكيانية والقصيدة الصوفية الحديثة والقصيدة التشكيلية.. الخ، ليفتح الباب امام القول المبكر بنصية شعرية مفتوحة تكسر نوعية القصيدة والحدود الفاصلة بينها وبين الاجناس الادبية الاخرى. وفي جميع هذه الظواهر كان العالم المتناهي في الكبر هو عالم الحداثة الذي اخذ يهيمن اكثر فاكثر على نمط الانتاج الشعري الحديث، بما في ذلك الشعراء الذين اصطدموا سابقاً بالحركة لاسباب ايديولوجية وسياسية اوغيرها. لقد افرز نموذج "شعر" للحداثة آليات تطور ذاتية تجاوزت "الحركة" نفسها. وحاول هذا النموذج ان يؤسس اصولاً له في استعادة المهمش والباطني والاسراري والكتابي في التراث الكتابي العربي. وتحولت "بيروت" في سياق تأثيراته الى واحدة من اكثر مدن "الحداثة"وجغرافيتها بلغة برادبري تألقاً. غير ان اكتمال هذا النموذج واستنفاذه وضعا اسسه امام المساءلة والمراجعة واعادة النظر، واخذ يفرض عليه التحول الى نموذج مكون بفتح الواو وتشديدها لتتكون اسس جديدة للكتابة الشعرية الحديثة تقوم على ما سيمكن بلورته لاحقاً بنموذج "الشفوي" مقابل "الرؤيوي". ويبحث هذا النموذج عن الشعري في الاقتراب من جماليات نثر الحياة، وتفاصيلها اليومية. ويحاول في بعض نتاجاته ان يبتكر لغة ثالثة ما بين اللغة العالمة واللغة العامية، في نوع من اعادة اكتشاف اليومي شعرياً، والاقتراب من انماط الاتصال في الخطاب اليومي ومحيطه الدلالي. فظهر وكأن الانسان الكوني الكلي العالي في النموذج الرؤيوي للحداثة فد تدحرج في وحل التفاصيل، لينهض نموذج جديد معارض لذلك الانسان، تشرحه اليوم مئات وليس عشرات النصوص. وهو نموذج "الانسان الصغير" الذي يقوم على العوالم المتناهية في الصغر مقابل العالم المتناهي في الكبر، وعلى شفافية العالم اليومي مقابل الاسرارية الكونية. يقع هذا الشعر داخل "الحياة التي نعرفها عن قرب" كأنه "هوائي البث اللفظي للناس" بتعبير م. روزنتال، وكأن شعراء قصيدة التفاصيل اليومية منخرطون في ارادة جماعية لا واعية ل"الكتابة عن الحياة العادية كما يكتب التاريخ والملاحم". وصحيح ان المستوى الرؤيوي ظل قائماً في تجارب هذا النموذج، الا ان نوعية القصيدة-الرؤيا الحداثية نفسها انكسرت، وتوارت رؤاها واقنعتها ومراياها ورموزها الديناميكية. واخذت الفسحات الجديدة تقترب من لغة السرد والقص والوقائع والحيوات الصغيرة والاماكن الاهلية الاليفة، والواقعية اليومية الجديدة. وقد حاول هذا النموذج ان ينسب نفسه ويؤصلها من خلال اعادة اكتشاف الماغوط وشوقي ابي شقرا وسعدي يوسف ثم لاحقاً بعض شعر نزار قباني الذين وان كتبوا في "شعر" وكان بعضهم عضوا عاملا فيها، الا ان نموذجها للحداثة كان قد همشهم يومئذ. ولعل دلالات هذا النموذج الجديد اكثر عمقاً مما يظن، اذ تتحدد في انها دلالات شعر الحياة المدينية المباشرة. ولقد اشتد طلب الكتابة الشعرية الحديثة عى هذا النموذج طرداً مع مراجعة أسس نموذج الحداثة الى درجة بات فيها اليوم مهيمناً ومهدداً بدوره بالتحول من نموذج مكون الى نموذج مكون في نهايات قرن انكسر فيها احتكار المشرق العربي لمركزية التجديدات الشعرية. وتشكلت حركة شعر مهجرية حديثة، وخبت فيها نجوم الحداثة لكن بعد ان غدت مكرسة و"كلاسيكية". وتوارى نهائىاً نمط الشاعر "الكبير"، وانحسرت بشكل شبه كلي وصاية "السياسي" ومؤسساته على الكتابة الشعرية، بل واخذ مفهوم "الشعري" كما عرفناه يتدحرج ويفقد "هالته" الجليلة. وفي ذلك كله، وعلى رغم ما هو مشترك في تلك الكتابة، فان واقعها في نهاية القرن يبقى واقع التنوع والاختلاف واللاتجانس والتعارض والتباين، وتعدد الازمنة في زمان واحد، ليغدو الشعر العربي الحديث في نهايات القرن شعر الكثرة الكثيرة من الاشكال والتجارب المختلفة المفتوحة التي ربما تطرح في ما تطرح ازمة اسس جديدة يتطور فيها الشعر دوماً ويختلف ويتنوع بوصفه لغة الطلاقة في العالم.