احتلّت الحداثة الشعرية خلال العقود الأربعة الأخيرة "ساحة" السجال الشعري في لبنان والعالم العربي وغدت قضاياها الشائكة هي القضايا الراهنة والمطروحة للنقاش. واستطاعت طوال هذه السنوات ان تتخطى الهموم الشعرية واللغوية التي أثارتها المرحلة التي سبقتها وهي مرحلة المقلب الاخير من عصر النهضة وكانت تجلّت أشد ما تجلّت في النصف الأول من القرن العشرين. والمرحلة هذه كانت بحقّ المدخل الرئيسي الذي أطلّت الحداثة منه وقد مهّدت التجاربُ الشعرية البارزة التي شهدتها الطريقَ للأصوات الجديدة والمختلفة التي صنعت فيما بعد فضاء الشعر الحديث. ولم تكن المرحلة هذه غريبة أصلاً عن أفق الحداثة الشعرية التي تفتحت لاحقاً ولا عن اللغة الجديدة التي رسّخها الشعراء المحدثون فهي كوّنت التربة الخصبة التي فيها نمت جذور التجارب الحديثة. وبات من الصعب فعلاً الفصل بين الحداثة ولا سيّما الحداثة الأولى ومرحلة التجديد التي تبلورت في السنوات العشرين والثلاثين والأربعين. ولعلّ شعراء من أمثال الياس أبو شبكة وصلاح لبكي وسعيد عقل وسواهم لم يكونوا غرباء عن الشعراء اللاحقين الذين أحدثوا الثورة الحداثية الأولى. وتكفي العودة الى بدايات يوسف الخال مثلاً أو أدونيس ليتوضح الأثر الذي تركه شعراء النصف الأول من القرن فيهم وفي قصائدهم التي كانت تحافظ حينذاك على الطابع الكلاسيكي أو الكلاسيكي المحدث. أما التجديد الإيقاعي القائم على النظام التفعيلي الجديد الذي نشب خلاف حول ريادته بين بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وسواهما فكانت ملامحه لاحت في نتاج بعض الشعراء السابقين. شعراء النهضة اللبنانية "الثانية" أو شعراء النصف الأول من القرن العشرين جمعهم الكاتب عصام محفوظ وجمع بعضاً من قصائدهم في كتاب سمّاه "مختارات من الشعراء الرواد في لبنان 1900 - 1950". وضمّ الكتاب الى المختارات والمقدّمات التي خصّ بها المؤلف الشعراء حوارات أجراها معهم بعضها حقيقي وبعضها متوهّم. أما الحوارات المتوهّمة فاعتمد فيها نصوصاً نثرية للشعراء أنفسهم ومنها استلّ الأجوبة على الأسئلة التي طرحها عليهم غيباً. والشعراء اللبنانيون الذين اختارهم يمثلون بحقّ ما سميّ ب"المدرسة" الشعرية اللبنانية التي استطاعت ان تتميز عن بقية "المدارس" العربية كالمصرية والعراقية مثلاً من دون أن تنفصل عنها. فالشعراء الروّاد لبنانيين كانوا أم مصريين أم عراقيين كانوا ينتمون جميعاً الى مناخ شبه واحد. ولم يكن انتماؤهم اللبناني أو المصري أو العراقي يطغى على انتمائهم العربي الصافي الذي لم تكن وصمته النزعة الأيديولوجية بعد. ولم يكن من المستهجن مثلاً أن يبايع أحمد شوقي أمير الشعراء آنذاك الشاعرَ أمين نخلة في بيتين شهيرين مطلعهما: "هذا وليّ لعهدي"، أو أن ينحاز الأخطل الصغير الى أحمد شوقي مفضّلاً إيّاه على خليل مطران الذي سمّاه "شاعر سرد". وبلغت حماسة أمين نخلة العربية شأوها حين راح في أحد أبياته يستغفر "الإنجيل" المعرّب معلناً أن قصيدته "عربيّة كالشمس". لا تكمن أهمية كتاب عصام محفوظ في كونه أول كتاب يضمّ مختارات من الشعراء اللبنانيين الروّاد فحسب وإنّما أيضاً في تصنيفه المدرسة الشعرية اللبنانية التي تجلّت في النصف الأول من القرن الحالي وغدت نموذجية على الرغم من اختلاف شعرائها بعضهم عن بعض. وربما هو اختلافهم واختلاف تجاربهم واحدة عن الأخرى ما أثرى المدرسة هذه ومنحها ملامحها الخاصة. إلا أن محفوظ يغالي في الفصل بين المدرسة اللبنانية أو بين الشعراء اللبنانيين الروّاد والشعراء العرب الذين برزوا في الحقبة نفسها تقريباً سواء في مصر أم في العراق وسورية. ويُعرب في تقديمه "المختارات" أنّه كان يهمّ في تخصيص كتابه للشعراء الروّاد العرب عموماً عندما تبيّن له أن هؤلاء الروّاد هم لبنانيون في غالبيّتهم فاقتصر كتابه عليهم. غير أن محفوظ لا يلبث أن يطرح سؤالاً عن سبب تميّز الشعراء اللبنانيين بما قاموا به من تجديد في الشعر العربي. وسعياً للإجابة على هذا السؤال يعرض رأي بعض النقاد الذين عزوا السبب الى انفتاح لبنان على الثقافة الغربية ولا سيما أن لبنان كما يقول عمر فاخوري "همزة وصل بين الشرق والغرب". ويعزو نقاد آخرون السبب الى الهوية الدينية للشعراء المجدّدين. ويستشهد محفوظ بما قاله عبّاس محمود العقّاد عن خليل مطران: "لا فضل له في تجديده لأنّه لم يكن يستطيع غيرَه وإنّما العناء في التجديد الذي ينازع فيه الإنسان موروثاته". وهنا يُلمح العقاد الى أن مسيحيّة خليل مطران أنقذته من منازعة الموروثات التي غالباً ما تواجه الشعراء غير المسيحيين. ولعلّ هذا ما أشارت إليه أيضاً الناقدة الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي في كتابها الجديد "الإتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث" في سياق كلامها عن "موهبة الإبداع اللبناني" وممّا تقول: "كان من الضروري دراسة الأساس اللغوي عند هؤلاء الشعراء في هذه المرحلة فهي تفسّر لماذا استطاع أدباء لبنان إقامة توازن بين التجديد والتأثر بالأدب الغربي من جهة وبين الأسلوب العربي المتين من جهة أخرى، علماً أنهم أوّل مَن اتصل بالغرب في العالم العربي وأن أغلبهم مسيحيون وهم لهذا لم ينشأوا على الأسلوب القرآني". لكن محفوظ لن يحصر السبب في الهوية الدينية للشعراء الروّاد فهو يتساءل: لماذا اقتصر التجديد على النصارى اللبنانيين دون النصارى العرب وعددهم أضعاف عددهم في لبنان؟ ولو كانت الهوية الدينية سبباً فعلياً للتجديد الشعري لكان انصرف الشعراء اللبنانيون المسيحيون الى إحياء اللغة السريانية، لغة آبائهم وأجدادهم. وإن لم يكن التفسيران السابقان الإنفتاح على الغرب والهويّة المسيحية مطابقين للحقيقة الكامنة وراء إبداع الشعراء اللبنانيين كلّ المطابقة فإن التميّز يعود بحسب ما يعبّر محفوظ الى "الجغرافيا النفسية" للبنان وهو بمثابة بقعة ضيّقة اجتذبت معظم الأقليات الدينية في العالم العربي. وهي بقعة محصورة بين الجبل والبحر، الجبل في ما يعني من انفتاح وتجدّد والجبل في ما يعني من تمرّد واحتماء. هذه الوجهة كان تبنّاها من قبل صلاح لبكي في كتابه "لبنان الشاعر" وعبره سعى الى بلورة المدرسة الشعرية اللبنانية واستنباط خصائصها المميّزة. وليس غريباً أن يكون كتاب محفوظ سليل كتاب لبكي في معنى ما ولا سيّما عبر تقصّيه طبيعة الريادة اللبنانية الشعرية في المقلب الأخير من عصر النهضة. يقول صلاح لبكي ما مفاده أن الشعر في لبنان "ليس ديناً للّغة عليه". فهو كان دائماً ذلك "الشاعر" المسافر عبر الذكريات والفكر وعبر النغم والصور، والأعماق والأسرار، وعبر الإنسانية أيضاً. ويسأل لبكي: "لماذا انطلق دائماً من جبالنا ونشأ في سهولنا وعند شواطئنا شعراء؟". ويجيب مبتعداً عن أي تعصّب أخرق أن لبنان "لم يكن يوماً منغلقاً على نفسه ولا فهم القومية إلا انفتاحاً وإلاّ علائق فكرية وحضارية يقيمها مع العالم". وهكذا تنأى الصفة "اللبنانية" عن الإنغلاق أو الشوفينية التي تبنّاها بعض الشعراء وتنأى أيضاً عن الطابع السلبي الذي من الممكن أن يُسبغ عليها. فالإنتماء اللبناني هو انفتاح أولاً وأخيراً بل هو إقامة في قلب العالم العربي والعالم أجمع. ولئن اقتصر عصام محفوظ الريادة النهضوية على الشعراء اللبنانيين فهو لم يسع الى تجاهل بقيّة الشعراء العرب حتّى وإن لم يذكرهم. فغايته كما تبدّت رسم إطار زمني للمدرسة اللبنانية الشعرية وإضاءة معالمها. وإلا فكان من السهل مثلاً تعداد شعراء مثل أحمد شوقي ومحمود سامي البارودي ومعروف الرصافي وأحمد الصافي النجفي ومحمّد مهدي الجواهري وبدوي الجبل وسواهم ضمن مرحلة التجديد أو "الثورة التجديدية" كما تسمّى الحقبة الأخيرة من النهضة الشعرية. فهؤلاء الشعراء رافقوا الشعراء اللبنانيين الرواد وجايلوهم وتنافسوا جميعاً على احتلال المواقع الشعرية الراقية. وإذا حاول محفوظ أن ينسب الريادة الأولى الى خليل مطران معتبراً إياه "أول المجدّدين باعتراف الجميع" كما يقول ومرتكزاً الى ما وصفه به طه حسين إذ قال: "أستاذ الشعراء المعاصرين ولا أستثني منهم أحداً" فإن سلمى الخضراء الجيوسي تعزو النهضة الشعرية العربية الى محمود سامي البارودي وكذلك أدونيس الذي رأى فيه "بداية النهضة وشاعرها الأول" داعماً رأيه ببعض الآراء النقدية ومنها رأي خليل مطران في البارودي إذ قال عنه: "نسيج وحده ونادرة الزمان على أن أحسن ما في شعره الصياغة التي به سما الى منتهى الإجادة وبرّز على المتقدمين فضلاً عن المتأخرين". ومن الواضح أن من الصعب حسم مسألة الريادة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. فهي مسألة تظل عرضة للتأويل والنقد. ويستحيل فعلاً حصر الريادة في شاعر واحد أو شاعرين فالشعراء المجدّدون في بعض البلدان العربية تضافروا معاً، قصداً أو غير قصد ليؤسسوا حركة تجديدية شبه واحدة وليخلقوا مناخاً من التحديث شبه كامل. وإن اعتبر خليل مطران من الرواد وكذلك الأخطل الصغير وصلاح لبكي والياس أبو شبكة وسعيد عقل فهل من الممكن تناسي شعراء رواد آخرين من مثل معروف الرصافي الذي يصنّفه أدونيس ضمن "الحداثة - الموضوع" والذي قال عنه يوسف غصوب أنّه كان أول المؤثرين في الشعر الحديث؟ وهل يمكن تجاهل شاعر "أبوللو" مثلاً أحمد زكي أبو شادي الذي تتلمذ على خليل مطران؟ وكذلك بدوي الجبل ومحمد مهدي الجواهري وأحمد الصافي النجفي وأبو القاسم الشابي وسواهم. اختار عصام محفوظ إذن الشعراء اللبنانيين الروّاد دون غيرهم من الشعراء العرب ليحصرهم ضمن المدرسة اللبنانية الفريدة. فهؤلاء كانوا "أساتذة في اللغة" كما تقول سلمى الخضراء الجيوسي وكان "هدف صراعهم تحديث اللغة الشعرية وخلق طرق جديدة للتعامل مع المعاني الجديدة مع الإحتفاظ بسلامة اللغة الكلاسيكية". فالموضوع الشعري نضج في قصائدهم أيّما نضج ولم يبق الشعر نظماً ولا كلاماً مقفّى وموزوناً. وتخلّص هؤلاء الشعراء من محاكاة القدماء محاكاة عمياء رغم حفاظهم على البيت الشعري. وبات الشعر معهم يعبّر عن الإنسان كذات جامحة. وأضفت ثقافتهم العميقة بعداً آخر على صنيعهم الشعري وانفتحوا على المدارس الشعرية الأوروبية كالرومانطيقية والبرناسية والرمزية. ويكفي الرجوع الى السجال الشعري الذي دار في تلك الحقبة لتبيان مدى التجدّد والتحديث. يصعب اختصار مواصفات الحقبة الشعرية الأخيرة التي سبقت مرحلة الحداثة في لبنان فهي تحتاج الى قراءة خاصة ومقاربة شاملة. لكنّ شرارة الشعر الحديث انبثقت من نتاج بعض الشعراء "الروّاد" الذين كانوا بمثابة المرجع التاريخي والجمالي واللغوي للشعراء الجدد. ولم يكن الشعراء الذين جمعهم محفوظ وجمع بعض شعرهم في حجم رياديّ واحد. فشاعر مثل خليل مطران يختلف تماماً عن شاعر مثل إيليا أبو ماضي وكذلك يختلف يوسف غصوب عن بولس سلامة والياس أبو شبكة عن الأخطل الصغير وسعيد عقل عن الشاعر القرويّ. لكنّ عصام محفوظ شاء أن يجمعهم في بوتقة واحدة يختلفون ضمنها بعضهم عن بعض أكثر ممّا يأتلفون أو يتشابهون واحداً مع الآخر. وليت محفوظ لم يدرج الشاعرين يوسف الخال وشوقي أبي شقرا في كتابه إذ كان يجب أن يصنفّهما ضمن المدرسة الحديثة التي انطلقت عبر مجلّة "شعر" وكان أسسها يوسف الخال نفسه. فالشاعران يستحقان أن يكونا من روّاد الشعر الحديث وريادتهما تختلف عن ريادة أسلافهما. أما الشاعر "العامي" ميشال طراد فبدا من الممكن إدراجه في سياق "المختارات" ما دام يمثل وجهاً من وجوه التجربة اللبنانية الصرفة. ولم يبدُ طراد غريباً عن أجواء الروّاد اللبنانيين. وكان ينبغي أيضاً عدم نسيان شاعر "نشيد السكون" أديب مظهر الذي معه "انطلقت شرارة الرمزية في لبنان مشعشعة" كما يقول صلاح لبكي. وجبران خليل جبران ألم يكن ممكناً تعداده ضمن هؤلاء الشعراء هو الذي "أحدثت آثاره... قشعريرة في الشعر العربي الحديث" كما يعبّر لبكي أيضاً في كتابه "لبنان الشاعر". غير أن كتاب عصام محفوظ يظلّ كتاباً فريداً ليس في ما قدّم من شعراء "روّاد" ومن مختارات شعرية فحسب وإنّما في إيفاء الشعراء اللبنانيين "النهضويين" حقاً هو من أوّل حقوقهم المنسيّة. وإن لم يسع محفوظ الى تصنيف الريادة الشعرية التي أسبغها على هؤلاء الشعراء وإلى تبيان مَن يستحق هذه الصفة ومَن لا يستحقها منهم فإن كتابه هو بمثابة المرجع المتاح والأمين لقراءة نتاج النهضة الشعرية اللبنانية. ولعلّ أهميته تكمن أكثر ما تكمن في إثارته قضية النهضة الأخيرة التي سبقت النهضة الأولى للحداثة الشعرية. * صدر الكتاب عن "شركة المطبوعات للتوزيع والنشر"، بيروت 1998