الشعر انقلابي، هكذا كان يثبت نفسه في كل مرة يتجدد فيها. وانه إذ يفعل ذلك، فإنه لا ينقلب على ذاته فحسب، بل على الجميع، بوصفه تأسيساً متواصلاً للعالم. لقد أثبت نفسه هكذا، عبر ممارساته الكثيرة للانقلابات خلال التاريخ العربي. فمنذ بشار بن برد وأبي نواس وابي تمام والمتنبي والمعري... وغيرهم، مرت فترات طويلة جداً وسوداء جداً كان الشعر العربي خلالها يتنفس داخل مستنقعات التقليد والتكرار، ولم تظهر سوى بعض الامكانات الفردية التي لم تشكل انحرافاً ما للشعر يمكن أن يكون مساهمة ما في تاريخه، بل كانت في أحسن أحوالها، تؤسس مناخاً مختلفاً. وهي على هذا لم تشارك في عملية انقلاب الشعر على ذاته وعلى الجميع، فبقيت حالات متناثر. على ذلك، كان عليه ان ينتظر فترة طويلة جداً. كان لا بد من قوة معرفية وشعرية هائلة كي تنقذه من ثباته، ليتقدم نحو ذاته عبر عملية كبيرة في الانقلاب. فكان ان ظهر السياب ويوسف الخال وأدونيس وبلند الحيدري وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي الحجازي ومحمد الماغوط وأنسي الحاج ومحمود السيد وعلي الجندي وسعيد يوسف وفايز خضور... الخ، وكأن بينهم ما يشبه الاتفاق الضمني على ضرورة التمرد على قوانين الشعر التي بدت كأنها قوانين طبيعة ثابتة لا تتغير. فكان ان تركزت جهودهم في نقطة واحدة، وقد قرر يوسف الخال وأدونيس ذلك، فكان العام 1957، وكان ان ظهرت مجلة "شعر" متبنية الحداثة. وهنا دخل الشعر العربي حالة فريدة من التجديد، فتكون ما يمكنني أن اسميه: الانقلاب الستيني. فخرج من مداراته العفوية والشعورية ليدخل فضاءات رحبة جداً، فأطلق عليه أصحابه اسم "شعر الرؤيا" مستفيداً من ثقافات أخرى إضافة إلى العربية. فخرج عن العروض والقافية التي تلبسته قروناً طويلة جداً، فاعتمد على تفعيلة واحدة تضبط ايقاع القصيدة الخارجي. وفي الوقت ذاته، ظهرت بدايات ما سمي "قصيدة النثر" الماغوط، الحاج، التي تمردت بدورها على الايقاع الخارجي، ليكون ايقاعها: النبض والتنفس، وضغط الدم كذلك. وقد أعلن هؤلاء الشعراء عن توجههم منذ البداية: كتابة مشحونة بالطاقات القصوى، والسير على كامل الطريق من دون الالتزام بأي شكل محدد ومسبق، فاتسعت جداً فكرة التجريب. استمر الشعر العربي يدور في هذا الفلك، ويكتشف هذا الفضاء الجديد، فوصل بذلك إلى مستويات رفيعة جداً. وكانت اللغة هي النار الأكثر احتراقاً واشتعالاً، كانت الطير الذي كلما اقترب من تكونه، احترق فتأكدت مقولة "الأدب - الشعر - اشكال لغوي" رولان بارت، فانتشر كالنار في الهشيم شعر جديد كلياً، على مستوى الشكل، كما على مستوى الطرح، بوصفهما الشكل والطرح يشكلان معاً في الآن ذاته: آن الكتابة. مع ما يقابل ذلك على مستوى التلقي: صعوبة في التواصل، ورفضاً عائداً الى الظروف التاريخية لعلاقة القارئ بالشعر، وبموقف القارئ عموماً من التجديد والجديد اضافة الى ان المجتمع العربي كان يحمل قيماً مناهضة لقيم الحداثة ولأفكارها، وكان عقله وذوقه لم يتجاوزا البارودي وشوقي وعمود الشعر، ومواضيع الشعر القديمة ذاتها كذلك، غزل - وصف - مديح - رثاء… الخ. فاعتبر ان شعر الحداثة الذي طُرح امامه فجأة ضربٌ من تقليد الغرب، او نوع من الاستعمار الغربي لا سيما ان آثار المستعمرين لم تزل ظاهرة، كالوشم، على الأرض العربية. ان موقف القارئ هذا بُحث كثيراً، وفيه آراء متنوعة. وهرباً من التكرار، فا نني لن ادخل في التفاصيل. الذروة... والهبوط لكن، كما يحدث دائماً على الارض العربية، فالفرحة لم تكتمل، وأن توجه شعراء الحداثة لم يدم طويلاً. فما ان اثبتوا انفسهم، حتى وقع الشعر - مرة اخرى - أسير اصحابه، فانغلق من حيث ارادوا له الانفتاح، وكفّ عن التجدد من حيث ارادوه جديداً دائماً. وذلك بسبب خوف المؤسس على مملكته، خوفهم على سلطتهم التي تأكدت دفعة واحدة في السنين اللاحقة، فراحوا يتمسكون بالحرف الذي كتبوه قبل ذلك، الطريقة ذاتها، الطرح ذاته. راحوا يقدمون ما لديهم لأنه الأكثر اكتمالاً، فكانت نصوصهم كقميص يلبسه واحدهم، دائماً، بألوانه، بثنياته، وبمقاسه كذلك. كأن لم تعد توجد معطيات اخرى للكتابة، فوضعوا للشعر قوانين اخرى، وكان طرحهم ان لا قوانين للشعر. وصنع كل منهم قالباً جاهزاً يقوم، فحسب، بإملائه. فوقف شعرهم في نقطةٍ واحدةٍ، ولأنها عالية حقاً، فلقد اعتبروها ذروة، ولأن الشعر ليس ذرى، فقد وجدوا انفسهم، أو وجدناهم في قلب الأزمة، فبعد الذروة، الهبوط قطعاً. ومما أكد سلطتهم هذه ان من يسمون شعراء السبعينات في سورية خصوصاً لم يخلقوا مناخات مختلفة لهم، فأغرقوا الشعر بالأيديولوجيا والسياسة، وخرجوا بفكرة الشعر التحريضي حيث ان "وظيفته" تحريض الجماهير على الثورة …!. ولم يحددوا اي موقف مما وصل اليه شعر الحداثة، فلم تكن توجد ملامح خاصة لعلاقتهم بذلك. وكلنا يعرف ان مظفر النواب كان طموحاً مهماً لهم، حتى وقت ليس بعيداً. ربما يكون ما قدمه شعراء مثل سليم بركات ومنذر المصري حالة خاصة في هذا السياق، لكنها لم تشكل ظاهرة انقلابية في الشعر فبقيت حالات فردية، وهي، وان كانت مهمة، لكنها تخرج عن منهج هذه المقالة التي تعنى ب"الانقلابات الشعرية". وعلى ذلك يمكنني ان اظن ان من سمّتهم الصحافة السورية شعراء التسعينات انما يتأسسون في مرحلة شعرية جديدة، وسوف اسميهم "الشعراء الجدد". وكي لا اجازف بقرار من نوع دراسة هذه المرحلة سأكتفي بعرض بعض الملامح التي تميز تجربتهم والتي جعلتني أظن ذلك، فدراسة اية مرحلة تفترض الشعرية الناجزة او المنجزة، وهذا ليس متحققاً بعد. لقد انطلق شعراء الحداثة من اليقينيات، فقد وجدوا في مرحلة متميزة على مستوى البنية الفوقية حيث الافكار كبيرة والفن كبير والأحلام كبيرة ايضاً. فالفكرة القومية وجمال عبدالناصر يمارسان سطوة سحرية على الارض العربية، وان الأمة العربية تُبعث الآن، من جديد، وبعد قليل سنشهد وحدة عربية استثنائية … وكانت الماركسية تغطي أكثر من نصف الكرة الارضية على مستوى انظمة الحكم وان سيادتها السياسية في الارض العربية قاب قوسين او ادنى من التحقق … وكان انطون سعادة والفكر السوري القومي يشكلان ما يشبه الحل الأوحد للسوريين كافة ونحن نعلم ان معظم شعراء الحداثة كانوا ينتمون فكرياً وتنظيمياً لهذه البنية. وعلى مستوى الفن كانت فيروز والرحابنة يؤسسون لذوقٍ عربي جديد، وكان استثنائياً حقاً ربما، منذ العصر العباسي. وأم كلثوم كانت وثن الجماهير العربية، وعلى انغام فريد الاطرش ترقص العقول كافة. وكان عبدالحليم حافظ ترمومتر الشارع العربي والمثقف العربي، وكان يتحدد بدءاً منه التاريخ والمستقبل العربيان… الخ. كل هذا كان يشكل لشعراء الحداثة يقينيات كبيرة، فكان اندفاعهم قائماً على خلفية راسخة وكان المعنى بين ايديهم، يتحرك امامهم، ويكبر على مرأى منهم، وبمشاركتهم كذلك، فاندرج ذلك في شعرهم وكانت اهم سمة لهذا الشعر انه شعر المعنى. وان تراجع ذلك كله في ما بعد، خصوصاً بعد هزيمة 1967، فان الأمل والحلم والطموح كانت لم تزل قائمة، فحرّكت الشعراء ومن جاء بعدهم، ربما حتى بداية الثمانينات: بداية الانهيار… مرحلة العدم والخواء اذا كان شعراء الحداثة انطلقوا من ذلك، وأسسوا مشروعهم على ذلك، فإن الذي حدث للشعراء الجدد كان النقيض تماماً. لقد وجدوا انفسهم، وقد خلا الكون من اي معنى: فلا قيم انسانية ولا أفكار كبيرة ويقينية، ولا احلام، ولا شيء…، وجهاً لوجه امام العدم، امام الخواء. لقد كان الشكل الشعري الذي تقدم به شعراء الحداثة قائماً ومحمولاً علىن المعنى، فأي معنى يمكن ان يقوم عليه أي شكل جديد، والكون، برمّته، خلوُّ من اي معنى؟ هكذا كان على الشعراء الجدد ان يدخلوا - حتى الأقاصي - نار قدرهم، التي هي: البحث عن المعنى والبحث عن الشكل. لقد كان قدراً، بالاضافة الى انه موضوعي فهو ذاتي كذلك، اي انهم شاركوا بصنعه، وذلك حين انتبهوا الى خطورة الأزمة التي دخلها شعراء الحداثة، وان معنى الشعر ليس خارجه، ليس في الايديولوجيات، انما هو داخل الشاعر يظهر، لا قبل الكتابة الشعرية بل معها وسويّة، انه يهبّ هبوباً، ويجري عليه ما يسمى تحويلاً مستمراً له. وهو، على هذا، يتغير باستمرار، ولا يبقى ثابتاً كما حدث له مع شعراء الحداثة. لذلك أرادوا انقاذ الشعر من ذلك، والانطلاق به مجدداً من نقطة هي بيضاء بالكامل. انها نارهم كذلك، والتي ربما ستحرقهم جميعاً، ولكن في محرقة الشعر ذاته. كما يسميها كمال أبو ديب أو "درجة المنافرة" كما يسميها جان كوهن، بين المشبه والمشبه به كما تسميه البلاغة القديمة. إنما هو بنية لغوية تثير المناطق المجهولة كشفاً، تثير المكبوت والمنسي والهامشي. ومن هنا، فلغة الشعر الجديد ليست من مفردات البعث والتحرر والمواجهة والتغيير…الخ، كما هي لغة شعر الحداثة، بل هي لغة من السحر والغموض والعزلة والمقدس والجحيم…الخ. لاختلاف المعطيات ووجهات النظر بينهم وبين هؤلاء. وكل هذا في أتون البحث عن الشكل. في هذا الأتون تتنوع الأساليب الكتابية لدى كل شاعر جديد. هذه الأساليب تظهر غير منجزة، بل مقترحات ليست نهائية. وكي لا أبقى في سياق وصف التجربة او تأريخها فحسب، سأدخل في التطبيق، بشكل سريع، مما تقتضيه المقالة، وبوصفي أزعم أنني داخل في محرقة الشعر الجديد: عهد فاضل وأكرم قطريب ولقمان ديركي وخضر الآغا لم يسموا كتابتهم في مجموعاتهم الأولى على أنها "نصوص او قصائد أو شعر"، فأبقوها مفتوحة للقارئ من دون ان يقسروه على ان يحيل ما يقرأ على مثالٍ ما. علي سفر أطلق على مجموعته الأولى "نصوص"، وعلى الثانية "صمت" شعر، من حيث ان الأولى غير مقطعة تقطيعاً شعرياً كالقصيدة المعروفة - الحديثة. وعندما قطّع ذلك في المجموعة الثانية سماها "شعر". وكذلك فعل أسامة إسبر وحسن وسوف وطه خليل. لكن الجميع، في حوارات معهم، أو مقالات لهم، يسمون شعر التجربة الجديدة "نصوصاً شعرية"، وان إطلاق التسمية عليها في مجموعاتهم الصادرة قد يكون خطأ تقنياً أو تمييزاً إجرائياً لا علاقة له ببنية النص. وبكل الحالات فإن التسمية هذه شكلية، تسقط أمام النص ذاته الذي يختلف فيه المعنى والأسلوب بهذا القدر أو ذاك، مما يريده الشاعر تأكيداً لوجهة نظره. فمنهم من يكتب النص الذي على علاقةٍ وثيقةٍ بالتاريخ وربما ما قبله كذلك، مثل عبداللطيف خطاب. ومنهم من يوجه اندفاعهُ باتجاه اللغة والبلاغة الجديدة غير معني كثيراً بظهور المعنى أكرم قطريب وعلي سعر. ونجد عند عهد فاضل إصراراً على كتابه ما أستطيع أن اسميه "الصوفية المعاصرة". أو كتابة الحياة اليومية بصيغتها القاسية التي هي أقرب لبطش الانسان حسن وسوف وعبدالمقصد الحسيني. نجد كذلك تياراً يمكن ان اطلق عليه اسم "شعر اليومي" أو "قصيدة اليومي" التي هي شفوية قبل الكتابة لقمان ديركي ومحمد فؤاد وعمر قدور وحسين بن حمزة ومحمد عفيف الحسيني. وخارج هذه التقسيمات، نرى من الجميع بين "اليومي" و"البلاغي" عابد اسماعيل ولقمان محمود وطه خليل وفراس محمد وقد يذهب أسامة إسبر الى الواقع، فينقضه فكرياً، عبر الشعر. وعلى هذا فالشعر الجديد هو شعر اللامعنى، ليس ضده وليس دونه، انما شعر البحث المتواصل عنه، وقتله كلما ظهر. فالشعرية: نفي التحقق. ولو ان المعنى تحقق لكتبه الشعراء واستراحوا. وهذا ما يفيدنا به التاريخ: ففي التجربة الصوفية كان المعنى واضحاً في اذهان اصحابها، وهو الذي قاد كل تجربتهم. انه "الله": وكانت لغتهم الى ذلك هي اللغة الموازية فالله باطن، واللغة اليه باطنية. وفي التجربة السوريالية المعنى هو "الكائن الأسمى"، اي الخارق، واللغة إليه هي اللغة الموازية: لغة "الواقعية الخارقة" بروتون. فهو ليس واقعياً، انما وراء الواقع يمكن مراجعة ادونيس: الصوفية والسوريالية. فإذا كان المعنى حاضراً في كلتا التجربتين، فإنه في اي منهما، وفي اية مرة، لم يتحقق. حيث لم يحدث ووصل الصوفيون الى "الله" اندماجاً او حلولاً، وحققوا بالتالي المعنى. ولم يحدث ووصل السورياليون الى "الكائن الأسمى" وحققوا المعنى كذلك. ولهذا، ربما، فالتجربتان لم تزالا مستمرتين كفعل كتابي بشكل او بآخر. ففي الخواء، في قلب العدم، لا يوجد معنى جاهز يمكن ان يركن اليه الشعراء الجدد، بل عليهم ايجاده في كل مرة يكتبون فيها. وإذا ما قدموا الخواء في كتابتهم، فإن ذلك لن يكون كتابة فارغة من المعنى بل كتابة يظهر فيها الخواء ذاته معنى. فالمعنى يظهر اثناء الكتابة. الماء لا شكل مسبقاً له، انه يأخذ شكل وعائه وحال انسكابه فيه. وكذلك الشكل، فيما يشير باشلار، فهو لا يأتي قبل الكتابة ولا بعدها، انه معها وبالآن نفسه والشكل كالماء. ان كتابة اللامعنى وفق ما اشرت اليه تؤدي الى كتابة اللاشكل، نظراً الى انهما يتشكلان معاً، وبالآن نفسه، بمعنى عدم كتابة الشكل الجاهز والمسبّق، فلا شيء في الخواء. سيبقى المعنى يتحول، وسيبقى الشكل يتحول كذلك على هيئة مقترحات كتابية يتقدم بها الشعراء الجدد، كل حسب اندفاعاته، منطاقين من هذا البياض الكامل الذي يشبه العماء، والذي عبر عنه سابقاً ابو نواس، حين قال: قائمٌ في الوهم حتى اذا ما رمتُهُ رمتُ معمَّى المكان هكذا يبدأ الشاعر الجديد في الكتابة: "معمّى المكان" و"قائماً في الوهم". لذلك، ربما، فالقارئ مضطر للتعامل مع مقروء على انه شعر، لكنه لا يشبه الشعر الذي يعرفه. وهنا تكمن اشكالية التسمية. فلقد درج، في التسعينات من هذا القرن العشرين، ان يسمي الشعراء شعرهم الجديد: نصوصاً شعرية، ذلك ان مفرده "قصيدة" تحيل الى شكل منتشر ومتوضع في اذهان القراء، ما يجعلهم يدركون ان ما يكتبه الشعراء الجدد مختلف عن توضع مفهوم "القصيدة" لديهم، وبالتالي يقودهم هذا الى التعامل مع الشعر الجديد تعاملاً مختلفاً عن "القصيدة" الستينية، مثلاً. فلقد كفّ الشعر عن كونه "صورة" بالمعنى المعروف: أي تشبيه أمر بآخر، مهما كانت "مسافة التوتر" وبالنسبة اليّ فإني أطمح، دائماً، الى كتابة النص المثقف. ولا شك في ان هناك آخرين لم اذكرهم، ولهذا علاقة بمقتضيات المقالة من حيث انها ليست ارشفة انما ذكر ملامح التجربة الجديدة وظروف تشكلها واحتمالاتها في نهايات هذا القرن العجيب. هذه الاساليب المختلفة لا تظهر منجزة وقد وجدت ذاتها، بل تظهر في الفضاء الشائك الذي يميز ظهور المرحلة الشعرية الجديدة: البحث عن المعنى بالحيوية ذاتها، للبحث عن الشكل، لذلك فالتقسيمات التي أقمتها الآن ليست نهائية وغير ملزمة طبعاً، وقد يستنكر الشعراء الجدد هذا التقسيم، وقد يعترض بعضهم على ذكر البعض… غير انه لا بد من التدليل على التنوع وعلى اختلاط الاساليب كلها لدى شاعر واحد مثلاً ما يجعلها متوغلة في التجريب وفي التناقض، وكذلك في الغموض. فمثلاً لا بد ان يكون ثمة استغراب حقيقي من اختلاط "اليومي" ب"الذهني" أو "الصوفي" لدى شاعر واحد. وهذا، في الاحوال النقدية المنجزة، دلالة على ان الشاعر هذا لا يعرف ما يريد، ولكن في هذه الحالة دليل على حماء البحث عن الشعر وعن الذات وسط هذا الخواء. وكذلك ان اختلاط المقْطَع المقطَّع تقطيع "القصيدة" الحديثة مع المقْطَع غير المقطَّع انما السردي الذي لا منقذ له سوى بلاغته، في النص الشعري الواحد يدل في الاحوال المنجزة نقدياً على ان الشاعر لا اسلوب له، انه بلا شكل. وهي قد تكون صفة مستهجنة لكنها في هذه الحالة تدل الدلالة ذاتها. وقد يؤدي هذا البحث المجنون عن الشعر الجديد الى احتراق الكثيرين ربما موتهم، شعرياً، فالفوضى ان لم تُضبط تؤدي الى التشتت والضياع. اعتقد بأن هذا سيحدث بل لا بد منه ربما، كي يتأسس شيء ما. وحين يتعلق الامر بالشعر، بوصفه المغامرة الكبرى، فلا شيء مضموناًد فهو دائم الحركة انما على شفا جرف، والداخل اليه داخل على هذا المكان: شفا الجرف، فإما ان يقع وإما ان يبقى. وفي الحالتين، فلا خاسر إلاّه. * شاعر سوري. هوامش إن ما ذكرته عن شعراء الحداثة وازمتهم لا يعني ان الجميع مذنب، فأدونيس طبعاً خارج هذا السياق وانا اتحدث على المستوى السوري فحسب ومحمد الماغوط تخلى عن الشعر منذ البداية. ويخرج عن ذلك: علي الجندي وفايز خضور ومحمود السيد. - لم اذكر الاسماء الجديدة الا من صدر له عمل شعري، وحصراً - تماشياً مع منهج المقالة - في التسعينات. - هذا التقسيم بين الاجيال اجرائي فحسب، فالابداع يخرج بمثل هذا التقسيم الى زاوية التاريخ المهملة.