كريم عبدالسلام واحد من الأصوات الشعرية الجديدة في مصر، وتجربته تمضي - ديواناً بعد ديوان - في تعميق ملامحها الخاصة التي تجعله من أكثر أبناء جيله الذي يسمى إصطلاحا: جيل التسعينات تميزا. اصدر من قبل ثلاث مجموعات شعرية هي: "استئناس الفراغ" طبعة خاصة محدودة، 1993، "بين رجفة وأخرى" 1996، "باتجاه ليلنا الأصلي" 1997. وديوانه الاخير "فتاة وصبي في المدافن" دار الجديد، بيروت 1999 خطوة واسعة في طريق تجربة شعرية وانسانية كبيرة، مما يجعله لحظة بارزة في مسار شاعره بخاصة، وفي مسار جيله بعامة. ويستطع المرء أن يضع يده - في هذا الديوان - على مجموعتين من الملامح الفنية، تمثل الاولى منهما السمات المشتركة بينه وبين جيله والكتابة الشعرية الجديدة في خصائصها الاعم، وتمثل الثانية منهما السمات المتفردة التي تختص بها تجربة كريم عبدالسلام عن كتابة جيله وعن الخصائص الاعم للكتابة الشعرية الجديدة، بجملة اخرى: تجسد المجموعة الاولى ما نسميه "المؤتلف"، بينما تجسد المجموعة الثانية ما نسميه "المختلف". من مجموعة المشترك او المؤتلف يمكن ان نشير الى الاتجاه المكثف نحو "السرد"، الذي لا يقتصر مفهومه على معناه الموسيقي الايقاعي، في الابتعاد عن الوزن الخليلي، فحسب بل يمتد ليشمل المعنى الاعم، في الابتعاد عن "الموزون" و"المنسجم" و"المنسق" في الحياة، صوب "المتكسر" و"الناشز" و"الرث" منها. ونشير الى الولع الجارف "بالتفاصيل"، سواء كانت تفاصيل يومية معيشية، او "تفاصيل" معنوية او وجدانية او شعورية، او كانت تركيزاً لعدسة الالتقاط على جزئية دقيقة في المشهد او في الفكرة او في المخيلة، حتى يتم تفتيتها الى شظايا متنافرة او متضامنة، بعد تجاهل البؤرة الرئيسية، او ما يظن انها بؤرة رئيسية. هدف "التفصيل"، هنا، هو تحويل "العرض" الى "جوهر"، وتصغير "الجوهر" الى "عرض". وكأن ملمح التفاصيل - في هذا الشعر - هو تطبيق للمبدأ الجمالي العربي القديم الذي رأى ان البلاغة هي "تعظيم الاشياء الحقيرة، وتحقير الاشياء العظيمة". وقد وصفت هذا الولع بالتفاصيل بأنه ولع جارف، لأنه "يجرف" النص، احيانا، في بعض شعر كريم عبدالسلام وبعض شعر اقرانه، الى تخوم الثرثرة والاطناب والتزيد. وهي التخوم التي تتجاهل التوتر والكثافة والاقتصاد، ولا تعترف بأن النص يكون جميلاً بقدر ما فيه من حذف لا بقدر ما فيه من اضافة. ونشير الى المتح من ذاكرة الطفولة، متحا لا ينضب، جعل بعض النقاد يرون ان "صندوق" الطفولة السعيدة او الشقية على السواء هو المخزن القريب الذي يعبُّ منه خيال الشعراء الجدد. ونشير الى الالتفات الى عالم الهامش والمهمشين في الشعور والفكر والمجتمع على السواء، في مناقضة جلية لالتفات الشعر في عصور سابقة الى المتن والمتنيين في الشعور والفكر والمجتمع على السواء، والموجز، هنا، تحويل "المركز" الى طرف، و"الطرف" الى مركز، وهو ما يتعانق مع المبدأ السابق - المتصل بالتفاصيل - في تحقير العظيم وتعظيم الحقير من الاشياء. ونشير- اخيراً - الى اتخاذ "المفارقة" اداة اساسية من ادوات تحقيق شعرية النص. فهي تضيق الى مفارقة جزئية، وتتسع الى مفارقة كلية او شاملة، وتتنوع بين ظاهرة وضمنية، وتتعدد وظائفها: بدءاً من السخرية، وانتهاء بتحطيم العلاقات المنطقية المألوفة بين اوصال الكلام، مروراً بقلب المعنى على قفاه. كانت تلك، بعض ملامح "المؤتلف" بين تجربة كريم عبدالسلام وتجربة اقرانه من مبدعي الكتابة الجديدة، ولا بد ان ننظر الى بعض ملامح "المختلف" بينهما، الذي يختص به شاعرنا جانحاً عن السرب. نستطيع أن نرصد "اختلاف" كريم عبدالسلام عن معظم أقرانه متجلياً في ثلاثة محاور رئيسية، هي محاور: الذات، والجسد، والواقع. في مسألة الذات: هنا شاعر لا تستغرق الذات عنده في "ذاتها" فتختنق بنفسها وتخنق المتعامل معها. هذا المعنى الضيق للذات هو ما روجه بعض الشعراء الشباب، من غير أن يدركوا انهم به يرتدون الى ما هو اسوأ من الرومانتيقية التي عليها يتمردون. في شعر كريم وبعض نظرائه الناضجين: الذات جزء من الموضوع، و"الأنا" جزء من "الآخر" والعكس صحيح. لذا ستسطع في "فتاة وصبي في المدافن" آلام "الآخرين" وسعاداتهم، بجوار- او مدموجة في - آلام الأنا وسعادتها. ثمة "آخرون" كثيرون في كل نص، تلتقطهم عين الشاعر وقلبه، وهو واقف على مسافة قريبة بسيطة، تتيح له سعة الرصد وحياديته، من غير أن ينخرط او يكون ضالعاً ولعل هذه "المسافة" هي ما أوحت للبعض بأن تجربة شاعرنا خالية من الحرارة مفتقرة الى سخونة العاطفة. وهو ايحاء غير حقيقي، لأن تصوير "الآخر" هو تصوير لقطاع من الذات، ولأن نوع "الاختيار" هو "انحياز" صميم، على رغم ما تبديه الحيلة الشعرية من حياد. وفي مسألة الجسد: هنا شاعر لا يبدأ العالم من جسده ولا ينتهي اليه، كما يتصور بعض زملائه، تحت وهم ان الجسد هو - وحده - المعرفة الحقة. ونصوصه لم تنزلق الى الاعتقاد المسرف بأن "فيزيقا" الجسد هي "ميتافيزيقا" الوجود، ولا الى حمى زائفة اسمها "كسر التابو" بسبها تكتظ الصفحات بهيستريا الجنس محمولة على قليل من التبرير الجمالي. إن شاعرنا يمس ذلك "المحرّم" مسّاً رفيقاً غير مهووس بهاجس الكسر والخرق، مبرزاً ما في علاقة الجسد بالجسد من قدرة على مؤازرة الحياة ومقاومة الموت. "يمتلىء الهواء بالبهجة ويتحسس رجلٌ فخذَ امرأته / ثم ينسّلان للداخل / يتعطل للحظات اللون الاصفر الزاحف على الغض / عند رأس الميت". وفي مسألة الواقع: هنا شعر لا يرى الاهتمام بالواقع سُبّة او عاراً، ولا يخجل من ان يكون - بطريقته - "واقعياً". وكم انطلق كثير من الشعراء الجدد من عقيدة ضالة تتنكر للواقع والواقعية والواقعيين، ولا ترى في الحياة سوى الذات والجسد. في نصوص "فتاة وصبي في المدافن" قطاع مدهش من الواقع الاجتماعي والثقافي والعاطفي المصري والعربي عامة، منظوراً اليه عبر ذات شاعر يجلب مادة واقعة من الأحياء ساكني قبور الموتى، ومن العلاقة - المتعارضة والمتجادلة - بين اولئك وهؤلاء. ابطال هذا الواقع هم بناءو القبور واللصوص والكوّاءون، وطقوس زيارة الموتى، والكلاب، والضعفاء، وعسكر الامن المركزي، والرحمة والنور والمعوّقون، والعزل من الامن والامان. والشاعر، مع كل هذه الانماط، لا يدين إدانة اخلاقية، ولا يتهكم بتعال، ولا يتعاطى مع مشاهدة تعاطي المستشرق المتمسح بفولكلور طريف، انه يرصد - بمحبة - دراما معيشة الاحياء في قبور الاموات كأنه يقدم معارضة عصرية لأجداده المصريين القدماء الذين جعلوا القبر ارهاصاً بحياة قادمة، وما تحفل به هذه المعيشة من قهر وحب وقسوة وتشوه. اما مأساة عمال بناء المقابر، فهي التطور الطبيعي لمأساة عمال بناء العمائر، فمن قبل قال علي قنديل شاعر السبعينات المصري الراحل: "يظل الرجل يبني العمارات، حتى اذا اكتملت هنيئة للساكنين / أشهر دونه وعتباتها سيف محلى ودم مرتقب". واليوم، يقول كريم: "هم القادمون من قرى بعيدة / يفرغون من مدفن ليبدأوا إقامة سواه / تاركين داخله حكايات عن الاهل وعن قراهم البعيدة". بعد هاتين المجموعتين من الملامح المشتركة والملامح المتفردة، لن تفوتنا الإشارة الى قسمات جانبية كثيرة في نصوص "فتاة وصبي في المدافن": منها إلتجاء الشاعر الى "كسر الإيهام"، على طريقة بريخت، بين اندماج القارىء في النص، كأن ينبهنا الى أن هذه القطة هي القطة التي مرت علينا في القصيدة السابقة. ومنها اتقانه مبدأ "جمالية القبح" من دون إسراف قبيح، مما يقع فيه كثيرون، ومنها التقاطه مشاهده او مواضيعه من الزاوية الشريرة بها لا الخيرة، بحساسية رهيفة تجعل القيمة المضيئة حاضرة عبر "مقلوبها" المعتم في ما يمكن ان نسميه "شعرية المعاكسة"، ومنها رسم بعض المشاهد في صيغ تصلح لأن تكون تمثيلاً لتوجه الشاعر جمالياً، كأن يرصد ان الصبي والفتاة يخططان كيف يتجنبان "المفرمة" التي تنتج مواطنين لهم ملامح متطابقة. فهذه الجملة التي تنطوي على إدانة صارخة للنظام الاجتماعي السياسي الثقافي، تنطوي - كذلك - على شوق فني الى تجاوز التشابه والتماثل والنمط. ومنها انه لا يتحرج من "الحكمة" او من إطلاق مقولات تأخذ شكل المأثرة او الامثولة، وبواحدة منها نختتم كلامنا، في قوله: "هنا اطفال يطوّحون بأطواق من الكاوتشوك / متخيلين المستقبل على هيئة شاحنة". وبين "المؤتلف" و"المختلف" تنهض تجربة ذات فرادة واضحة.