} الاستاذ جهاد الخازن، لقد سنحت لي الفرصة، مثلك، بأن أدلي بدلوي الثقافي بين الأدلاء، أم تُراها الدلاء؟ فحضرت، أنا أيضاً، مسرحيات صموئيل بيكيت، ومثلك بدأت بمسرحيته الشهيرة "في انتظار غودو" وانتهيت بمسرحيته الأقل شهرة "شريط كراب الأخير"، لأنني لم استطع الفوز بغير هاتين التذكرتين. لكنني اختلف عنك في أنني خرجت من المسرحية الأولى باعجاب كبير جعلني اتفق، في واحدة من المرات النادة في حياتي، مع اجماع النقاد بكونها واحدة من أجود مسرحيات عصرنا الحديث وأبلغها تعبيراً عن جانب من عذابات الإنسان. نعم. نعم. اتفقت، أنا القارئة البسيطة، مع النقاد. تلك الزمرة التي اشيع عنها أنها أكثر منك ومني اطلاعاً وعلماً - كما تفضلت سواء كنت جاداً أم هازلاً - بينما نعرف، ولو سراً، ان همها الأول والأخير هو تسويخ غير المألوف، وتجميل القبح، والتفلسف على حساب البساطة، ولا أنسى المهمة العصرية الشائعة وهي إضفاء الألوهية على كاتب بعينه، وفنان بعينه، وشاعر بعينه، وإلغاء "أعين" وبصائر الآخرين. ليس كل النقاد بل 9.99 في المئة منهم، هل أنا منصفة هكذا؟. على أية حال، ليس هذا هو موضوعنا، بل الايرلندي "المتفرنس" بيكيت. لقد حضرت مسرحية "في انتظار غودو" وتفاعلت معها، ومع مواويل أنفس أصحابها، وخرجت منها بأسئلة يتقدمها سؤال: ما جدوى انتظار ما لا يأتي؟ وقد ألهمتني المسرحية، فعدت إلى البيت واختلقت لها نهايتين مثلتهما في ذهني ثم وضعتهما على الورق - ومستعدة لارسالهما إليك إن شئت - تصوران مجيء "غودو" على هيئتين. كان "غودو" في الأولى رجلاً لإسمه لمعة الذهب - مثلما مع رموز هذا الزمن الفضائي - لكنه إذ يحضر، يذوي حضوره، ويبدو شخصاً مثل الآخرين تماماً وينضم إلى طابور المنتظرين عندما يفقد هيبته الاعلامية - أعني التي صنعها الإعلام - فيكتشفون أنه لا يملك ان يمنحهم الخلاص، فالخلاص عطاء مجموع لا فرد. أما في الثانية فيكون "غودو" هو التمرد الذي ينبت في أضلع الرجلين ويحثهم على نحت الصخور من أجل استجلاب الأمل والمضي إلى الأمام من دون مساعدة غيبية قد تأتي وقد لا تأتي. نحن بالذات يجب أن نخرج من المسرحية بالدرس الذي يصعب على غيرنا فهمه، فليس مثلنا - نحن العرب - من جرب انتظار ما لا يأتي، وليس مثلنا من رممّ دروس التاريخ لا من أجل الاستفادة منها، بل لمساعدتها في إعادة نفسها بطريقة "مجيء غودو" المنتظر. ولا أحسب ان هناك شعوباً امتحنت بوعود لم توف بقدر الوعود التي ورثها شعبنا منذ ضياع فلسطين. اللهم إلا إذا اعتبرنا ان حصيلتنا من "سلام الشجعان" تعد خلاصاً لائقاً بانتظاراتنا الطويلة الطويلة! أما "شريط كراب الأخير" فربما لن يفقد قيمته كثيراً إذا ما اكتفى القارئ بقراءة النص، من دون أداء مسرحي. لكن ألم يكن أداء "جون هيرت" ممتازاً؟ اتفق معك في أنها مسرحية تصيب الإنسان بالكآبة على رغم قصرها، لكن كل الكآبة تبددت عندما وقف الجمهور كله مواصلاً تصفيقه، بحماس شديد، للممثل الذي أدى دور كراب ببراعة، الأمر الذي جعلني أتساءل: أين مسرحنا العربي؟ أين جمهورنا المتذوق؟ وأين نحن من فنون العالم؟ أين نحن؟ هل نجح هذا الزمن، بخيباته المتواصلة، في تحويلنا إلى مسخ "كافكا" الذي تحدثت عنه؟ وهل سنعاق تدريجياً عن الحركة ثم نموت في عقر دارنا فتكنسنا "أميركا" أو أحد توابعها - كما كُنس "غريغور زامرا" وقد ارتسمت على وجوه صحافتها ملامح الشفقة؟ وهل ستقام لنا جنازة لائقة بحياتنا الممسوخة؟ وهل ستُشارك إسرائيل بذرف الدموع علينا ويشاهد العالم ذلك على شاشات التلفزيون؟ لماذا يبدو وكأننا "نقعد" بانتظار ذلك اليوم، الذي لن يكون "غودو" على أية حال؟! مريم إبراهيم من جهاد الخازن: شكراً على الرسالة كلها، ومجرد توضيح فأنا لم اعترض على مسرحية "بانتظار غودو"، وإنما كان تعليقي على مسرحيات وروايات تدور أحداثها كلها في فترة زمنية قصيرة، مثل "يوليسيس" التي تحكي في 750 صفحة أحداث يوم في حياة سائق تاكسي في دبلن.